شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"نموت ببطء وبصمت"... الدولة اللبنانية تخلّت عن أهالي القرى المجاورة لمطمر الناعمة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 1 أغسطس 202212:01 م
Read in English:

Slow and silent death of the abandoned residents near Lebanon’s Na’ameh landfill

يتمشى وسام شاهين مع ابنه هاني على طول الطريق المحاذي لـ"نهر الموت"، كما يصفه. هو نهر كان يوماً ما مقصداً لأهالي منطقة الناعمة في قضاء الشوف، جنوب العاصمة اللبنانية بيروت، قبل أن تضيّق السلطة اللبنانية مجراه إلى الثلث، لإنشاء طريق خدمات لمطمر الناعمة-عين درافيل.

والمطمر المذكور أنشأته الدولة اللبنانية عام 1998، لاستيعاب نفايات منطقتي بيروت وجبل لبنان، وأقفلته بعد احتجاجات شعبية في عام 2016. يقول وسام، وهو عضو في بلدية الناعمة وأب أربعيني لطفل أصيب بمرض السرطان، لرصيف22، إنه يسمّي النهر "نهر الموت"، لأنه يحمل معه كل سموم المطمر التي أصابت ابنه مثلما أصابت العديد من أهالي بلدته والبلدات والقرى المجاورة لها.

"فقدتُ أربع سنوات من عمري"

هاني (14 عاماً) الذي شُفي مؤخراً من مرض السرطان، يتمشى بجانب أبيه، وهو يعرج على رجله اليمنى. فالطفل الرياضي الذي يلعب كرة القدم ويمارس رياضة السباحة وركوب الخيل، وجد نفسه ذات يوم، على فراش مستشفى يتلقى العلاج الكيميائي.

في أحد أيام عام 2020، انتبه هاني إلى وجود ورم في رجله، ليتبيّن بموجب الفحوصات الطبية أنه مصاب بالسركوما Sarcoma، وهو نوع نادر من السرطان، يضرب العظام والأنسجة المتصلة بها، مثل العضلات والأوعية الدموية. يقول لرصيف22: "فقدت أربع سنوات من عمري بسبب المرض، وتراجعت في الرياضات التي كنت أمارسها".

هاني كان عنواناً لـ"ثورة"، على حد وصفه، تهدف إلى تحقيق الوعود التي قُطعت لأهالي منطقة الناعمة وجوارها، ومنها الوعد بالتعويض عن آثار المطمر عليهم.

يستذكر الطفل شرارة تلك "الثورة"، ويروي أنه في "إحدى ليالي تموز/ يوليو 2021، وبعد أسابيع من العلاج الكيميائي، عدتُ إلى المنزل الكائن في الطابق الثامن في أحد الأبنية، وكانت الكهرباء مقطوعةً"، ويضيف: "في تلك الليلة لم أستطع النوم بسبب الحر، وفي اليوم التالي توجهت ووالدي ومعنا أهالي المنطقة إلى المدخل المؤدي إلى المطمر، حيث اعتصمنا وقطعنا الطريق ومن ثم انتقلنا إلى شركة توزيع الكهرباء في المنطقة".

"صرنا حثالة المجتمع!"

المطلب وقتها كان واحداً، بحسب ما يشرح وسام: "وعدونا في عام 2016، بإنشاء معمل لإنتاج الكهرباء من الغاز المنبعث من المطمر، على أن يغذّوا المنطقة بالكهرباء مجاناً طوال 24 ساعةً في اليوم كتعويض عن الضرر الذي لحق بنا من وجود المطمر. لكن هذا ما لم يحدث، فقد أنشأوا المعمل وشغّلوه، لكننا لم نحصل على الكهرباء إلا لفترة وجيزة".

ويشير إلى أن "الصرخة التي وجهناها لاقت آذاناً صاغيةً، خاصةً بعد الضغط عبر قطع الكهرباء والمياه عن أجزاء أوسع من قضاء الشوف"، ويختم: "هجّرونا صحياً، وأصبحنا منسيين بمجرد إقفال المطمر. قبل إقفاله كانوا يحاولون استرضاءنا بشتى الطرق. ولكن عندما أقفلوا المطمر أصبحنا وكأننا حثالة المجتمع، ولا أحد يسأل عن وضعنا".

بالإضافة إلى المعاناة من المطمر ومن آثاره السلبية على البيئة والصحة وصورة المنطقة، يعاني سكان المناطق القريبة من المطامر أيضاً من "الوعود الكاذبة"، كما يشرح بيار فرح (44 عاماً).

بيار يمتلك مكتباً لتأجير السيارات، وهو ناشط بيئي من مؤسسي جمعية "كفانا نفايات" التي ساهمت في إقفال مطمر الناعمة قبل نحو سبع سنوات. هو يسكن في بيروت ويزور في أيام العطل قريته عين درافيل التي تقع معظم أراضي المطمر ضمن نطاقها العقاري.

يحكي بيار لرصيف22 عن تجربته مع وعود السلطة اللبنانية: "يعِدون ولا ينفّذون شيئاً من وعودهم. وعدوا بأن يفرزوا النفايات ولم يفوا. كانوا يطمرون النفايات كما هي من دون أي معالجة جدية، فانتشرت الروائح والغازات والحشرات والأمراض، وطمروا أضعاف الكمية التي طلبوا أساساً طمرها".

ويضيف: "وعدوا كذلك بأن المطمر هو حل مرحلي لعدد من السنوات، واستمروا في تأجيل إقفاله لأكثر من 18 سنة". إلى ذلك، "وعدونا مؤخراً بإنتاج الكهرباء من غاز الميثان المنبعث من المطمر، ولم يعطونا الكهرباء إلا لمدة محدودة". ولكي تزداد الأزمة سوءاً، "اليوم يحرقون الغاز في الهواء فيما الناس تعيش بلا كهرباء". ويختم: "المسؤولون السياسيون لا يجيدون إلا الوعود الكاذبة".

"الغاز لا رائحة له... يقتلنا بصمت"

"يقتلوننا على السكت بالغاز المنبعث من دون أن نشعر به أو نراه أو نشمّه"، يقول بيار عن غاز الميثان وآثاره على سكان المنطقة، ويتابع: "هذا الغاز الذي يُعَدّ من أبرز أسباب التغيير المناخي في العالم، يُحرق في الهواء أو ينبعث بلا أي معالجة. وفي النتيجة، المنتجات الزراعية وأشجار الصنوبر والزيتون أصيبت باليباس وأصبحت ‘مضروبةً’ من جهة المطمر".

ويضيف أن مَن يعتاشون من الزراعة في المنطقة، يتحدثون عن ظاهرة غريبة تصيب المزروعات وتتسبب في تلفها، ويحاولون معالجتها بالأدوية لكن بلا جدوى. وينقل عنهم قولهم: "كل عمرنا نزرع ولم يحدث معنا ما يحدث اليوم".

"هجّرونا صحياً، وأصبحنا منسيين بمجرد إقفال المطمر. قبل إقفاله كانوا يحاولون استرضاءنا بشتى الطرق. ولكن عندما أقفلوا المطمر أصبحنا وكأننا حثالة المجتمع، ولا أحد يسأل عن وضعنا"

آثار غاز الميثان لا تقتصر على المزروعات، بل تطال صحة السكان بشكل مباشر. وعن ذلك يروي بيار أن شقيقه وعائلته زاروا المنطقة لبضعة أيام، وأصيبوا بعوارض غثيان وإسهال بسبب تلوث الهواء، بحسب توصيف طبيبهم المعالج.

كذلك، يلفت إلى أن "السكان يعانون من حروق غير عادية عند التعرض لأشعة الشمس، وكأن الغاز يلذع أجسادنا من دون أن نشعر". ويختم: "الغاز لا رائحة له، لذا الناس لا تشعر به فيما هو يقتلنا ويقتل بيئتنا ببطء وبصمت. الوضع مخيف هنا".

"العوارض الصحية ستستمر وستزداد"

الآثار الصحية للمطمر، بعد إقفاله، على سكان المناطق المجاورة، كانت عنواناً لدراسة أجرتها الجامعة الأمريكية في بيروت في العام 2017، ولم تُنشَر في حينها. النائبة د. نجاة عون صليبا، وهي نائبة منتخبة في الانتخابات النيابية الأخيرة (2022)، عن دائرة الشوف-عاليه، حيث يقع المطمر، تكشف لرصيف22، نتيجة الدراسة التي شاركت في إعدادها كرئيسة لمركز الحفاظ على البيئة في الجامعة، وذلك بعد عدد من المراجعات من سكان المناطق المجاورة للمطمر.

اعتمدت الدراسة على مقابلات مع نحو 2،720 شخصاً من السكان، وتوزعت العيّنة على أشخاص من المناطق الأكثر قرباً إلى المطمر، وتالياً الأكثر تعرضاً للهواء الملوث الصادر عنه ومن مناطق تقع على مسافة أبعد منه.

تلحظ الدراسة وجود ارتفاع في تسجيل بعض العوارض الصحية، وفي حدّتها، بالتوازي مع نسب التعرض للهواء الملوث بالغاز. ومن بين العوارض الصحية التي سجّلتها الدراسة: طنين الأذنين، والسعال اليومي، ونزلات البرد المتكررة، والغثيان، وتورم الساقين، والطفح الجلدي، والقرحة الهضمية.

دخان ناتج عن إحراق غازات منبعثة من مكب الناعمة، في 16 حزيران/ يونيو.

وتشير صليبا عون إلى أن هذه العوارض وغيرها مثل تبدّل المزاج، وفقدان الذاكرة، وآلام الرأس، مرتبطة بانبعاثات غاز الميثان الناتجة عن تخمّر النفايات في المطمر. وتحذّر من أن هذه العوارض ستستمر وستزداد إذا ما بقيت الانبعاثات على حالها. لذا فالمطلوب وقف تنفيس الغاز، أو حرقه في الهواء. وتتساءل: "لماذا يحرمون لبنان والمنطقة من هذا المورد المجاني للطاقة؟ ولماذا لم تنجح مؤسسة كهرباء لبنان حتى اليوم في تلزيم المشروع لأي شركة بموجب المناقصات التي تمّت؟".

معدلات سرطان أعلى

"بعد سبع سنوات على إقفال المطمر بشكل نهائي، ما زالت المناطق المجاورة تعاني من آثاره السلبية"، تقول المحامية ميشلين مطر، نائبة رئيس بلدية الناعمة، لرصيف22، وتضيف: "أكثرها ثقلاً اليوم هو الغاز المنبعث في الهواء والذي يؤثر على الهواء والبيئة والمزروعات، بالإضافة إلى فيضان نهر الناعمة في فصل الشتاء بسبب تضييق مجرى النهر لإنشاء المطمر، وانتشار الروائح في القرية عند نقل عصارة النفايات من المطمر إلى محطة الغدير".

وتشرح أن "الآثار، قبل إقفال المطمر، كانت تشمل الروائح الكريهة وانتشار العصارة على الطرقات وتسربها إلى مياهنا الجوفية، بالإضافة إلى معاناة أهالينا من حساسية الجلد والأمراض الرئوية والسرطانية"، وتعلّق: "فقدنا خيرة شبابنا بالأمراض التي يسببها التلوث".

ويضيف الطبيب روجيه أبو سرحال، وهو طبيب أربعيني متخصص في أمراض السرطان والجراحة الفموية، وواحد من أبناء المنطقة، أنه عندما تخرّج في العام 2001، وبدأ بممارسة مهنة الطب، كان المطمر قد افتُتح بالرغم من معارضة الأهالي، وبدأ بملاحظة حالات مرضية بأعداد مرتفعة من أبناء المنطقة، نسبةً إلى مناطق أخرى، مثل أمراض الربو والمشكلات التنفسية والطفرات الجلدية الغريبة والعقم، بالإضافة إلى تسجيل حالات سرطانية بمعدلات مرتفعة عند الأطفال والكبار، وكذلك تسجيل حالات وفاة بمرض السرطان بمعدلات أعلى من المعدلات العامة. ولكن لا أرقام دقيقةً يمكن إعلانها حول ذلك.

"لا أحد يشعر بنا"

من بين هذه الحالات المرضية، نهاد أبو نصر (64 سنةً). نهاد، وهي زوجة مختار الناعمة ومن أول الأشخاص الذين اعترضوا على وجود المطمر، مصابة بمرض رئوي. بـ"أوووف" طويلة تبدأ حديثها إلى رصيف22، عندما تتحدث عن المرض الرئوي الذي أنهكها، وتقول: "حالتي صفر، أنا لا أقوى على المشي من دون عكّاز. أتنفس وأتحدث بصعوبة، ولولا رغبتي في أن أخبر عن معاناتنا من هذا المطمر، لكنت فضّلت ألا أتحدث، فالكلام يتعبني".

تصف نهاد المطمر بـ"مطمر الموت"، وتقول إنها ليست الوحيدة التي تعاني من آثاره على صحتها، بل يشاركها عدد "لا يُحصى" من أهالي المناطق المجاورة.

"غاز الميثان يُحرق في الهواء أو ينبعث بلا أي معالجة. هو غاز لا رائحة له، لذا الناس لا تشعر به فيما هو يقتلنا ويقتل بيئتنا ببطء وبصمت. الوضع مخيف هنا"

نهاد كانت من أوائل رافعي الصوت ضد إنشاء المطمر في العام 1998، وكان المعارضون للمشروع يتعرضون لقمع القوى الأمنية التي فتحت بالقوة الطرقات التي أقفلوها. تروي: "كان الأهل والأقارب يتصلون بي من أمريكا ليقولوا لي إنني أبكيتهم. نعم فالأحجار بكت وشَعَرت بنا في كل العالم إلا هنا. ففي لبنان، لا أحد يشعر بنا. هنا فقط بو خنسا الزرقا يسمع لنا"، تكمل معرّفةً "بو خنسا" بأنه الله، ومضيفةً: "كل مَن على الأرض يمكن أن يبيعنا ويبيع حقوقنا من أجل المال".

تروي نهاد أنهم هُجّروا من منزلهم في الناعمة في العام 1984، بسبب الحرب، وعادوا بعد سنوات من انتهائها، في العام 1994. تقول: "عدنا ولم تكن هناك منازل لنسكنها، بعضها مدمَّر وبعضها الآخر محروق. أعدنا بناء كل شيء من الصفر، وبعد أقل من خمس سنوات افتتحت السلطة المطمر. وكأنهم يريدون تهجيرنا من جديد. كل فترة هناك ضربة تهجير جديدة، وآخرها اليوم التهجير الاقتصادي". وتضيف: "لم تعد لدينا قوة حتى على الشعور. نحن بحكم الأموات من الداخل". وتقطع المقابلة بعد أن أتعبها الحديث، بالقول: "تعبت، بدّي وقّف حَكِي".

"عدنا بعد الحرب ثم هُجّرنا من جديد"

بين حديث وسام عن الشعور بأنهم "حثالة المجتمع"، وحديث نهاد عن التهجير المتكرر، تضيف ميشلين مطر أن منطقة الناعمة أصبحت موصومةً باسم المطمر، ما يسبب ضرراً نفسياً ومعنوياً لأهلها وشبابها الذين لا يفكّرون بالاستثمار في منطقتهم مستقبلاً، وتضيف: "كانت ضيعةً مهجّرةً بفعل الحرب، ولم نلبث أن عدنا حتى هُجّرنا من جديد".

شاحنات تفرّغ نفايات في مكب الناعمة، في 30 آذار/ مارس 2016.

ماذا عن دور البلدية؟ وهل كانت متساهلةً في الأساس عند افتتاح المطمر، ثم عندما بدأت بتسجيل المخالفات في طريقة إدارته؟ تجيب نائبة رئيس البلدية: "المطمر فُرض علينا من دون أن تكون للبلدية قدرة على الرفض أو القبول. فقد راسلنا الجهات المعنية، لكن لا أحد يجيب أو يتجاوب".

وتتحدث مطر عن الوعود التي تلقّتها البلدية من دون أي التزام من قبل السلطات المركزية بالتنفيذ: "مثلاً، وعدونا بإنشاء حائط دعم على ضفاف النهر، لتفادي فيضانه كل شتاء. ففي الناعمة ملتقى أنهار، وقد ضُيّق مجرى النهر إلى الثلث. لكن ما زالت البلدية تتكلّف سنوياً على معالجة آثار فيضان النهر ما يفوق المئتي مليون ليرة، فيما لا تجاوب من السلطة المركزية".

وتقول إنهم يشعرون بظلم كبير، وتضيف: "نحن مغبونون. افتتحوا المطمر بالقوة، وشوّهوا نهرنا وبيئتنا وضربوا صحة أهلنا وسمعة منطقتنا. تحمّلنا عن كل مناطق بيروت وجبل لبنان النفايات لمدة 18 سنةً، واستكثروا علينا بعد ذلك كله تنفيذ الوعد الذي قطعوه كتعويض، وهو إعطاؤنا الكهرباء مجاناً، فالمعمل متوقف منذ سنوات فيما الناس تغرق في العتمة وتتنشق الغاز السام المنبعث من المطمر، والذي يُحرق في الهواء".

من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني

أمام هذا الكم من الشعور بالغبن، لماذا لا يتحرك أهالي المنطقة؟ عن ذلك يتحدث إلى رصيف22، فؤاد يحيى، وهو مهندس أربعيني وناشط بيئي كان من مؤسسي حملة إقفال مطمر الناعمة في العام 2013.

فؤاد عاد إلى بلدته عين درافيل بعد هجرة دامت سنوات إلى دولة قطر، ويقول إنه عمل في الخارج ليبني بيتاً لم يتمكن من أن يعيش فيه قط. ويقصّ موقفاً استفزه، وقرر على إثره العمل من أجل إقفال المطمر. القصة بدأت بإشكال وقع بينه وبين شريكه في العمل، نتيجة دعوى قضائية، وفي إحدى محطات الخلاف قال له: "زعيم منطقتك وليد جنبلاط، يجبرك على العيش على النفايات، ولم تعترض يوماً. واليوم تريد أن تعترض هنا، وترفع دعوى ضدي؟!".

يعود فؤاد إلى بدايات النشاط من أجل إقفال المطمر. تعرّف إلى أشخاص متحمسين للعمل من أكثر من منطقة مجاورة للمطمر، من دوحة الحص إلى عرمون وبعورته والناعمة. اجتمعوا وباشروا العمل معاً منذ العام 2013. لم يكن هؤلاء المتضررين الوحيدين من المطمر، لكن ما ميّزهم بحسب فؤاد، أنهم أصحاب أعمال حرة ولا تربطهم أيّة استفادة مادية بأي حزب من الأحزاب المسيطرة على المنطقة. يقول: "عندما كان أهالي المنطقة يعترضون على وجود المطمر، كانت الأحزاب المسيطرة تتدخل لإسكاتهم أو لرشوتهم بوظيفة أو بمساعدة عينيّة أو مالية، حتى أن أحد رؤساء البلديات كان يتقاضى بدلاً لاستشارات قانونية من شركة ‘سوكلين’، مشغلة المطمر".

"الأحجار بكت وشَعَرت بنا في كل العالم إلا هنا. ففي لبنان، لا أحد يشعر بنا. هنا فقط الله يسمع لنا... كل مَن على الأرض يمكن أن يبيعنا ويبيع حقوقنا من أجل المال"

بالنسبة إلى فؤاد، لم يكن من الممكن إقفال المطمر من دون نقل القضية من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني. ولذلك وضع مع الناشطين في الحملة، خطةً محكمةً لتنفيذ ضربة، بتوقيت إعادة تجديد عقد "سوكلين" لتشغيل المطمر في العام 2015.

بدايةً، حشدوا معهم أشخاصاً ناقمين ومتضررين من وجود المطمر، وأعطوهم الأولوية في الظهور الإعلامي. كذلك، عملوا على كشف الحسابات حول أرباح "سوكلين" الخيالية التي تُقتطع من أموال البلديات في لبنان. كما تواصلوا مع جمعيات تعنى بمكافحة التلوث والفساد، وحاولوا إحراج الأحزاب وفعاليات المنطقة بطلب مشاركتهم في تحرك احتجاجي ليوم واحد. ويوم التحرك، تفاجأت هذه الأحزاب والفعاليات بعدد الناس التي شاركت، ما أحرجها وأثناها عن ممارسة الضغط لوقفه.

في هذا الوقت، استقصى الناشطون في الحملة عن القدرة الاستيعابية لمعامل الفرز التابعة لـ"سوكلين"، واحتسبوا كم يوماً يحتاجون لإغراق شوارع بيروت وجبل لبنان بالنفايات. يومان كانا كافيين من أجل تنفيذ ضربتهم التي كانت كفيلةً بنقل قضيتهم من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني.

وفي يوم التحرك، أعلن الناشطون إقفال مطمر الناعمة. وبالفعل، بعد يومين غرقت شوارع العاصمة بيروت ومناطق جبل لبنان بالنفايات. هذه الحادثة، بحسب فؤاد، كانت كفيلةً بتحريك الإعلام والرأي العام حول قضيتهم. وبعد أخذ ورد تخللته إعادة فتح المطمر بالقوة لفترة زمنية محدودة، أُقفل المطمر بشكل نهائي في العام 2016، بعد 18 سنةً على افتتاحه.

"مهمّشون وهامشيون"

يتذكر كلود جبر، ناشط سياسي أربعيني، ومن مؤسسي حملة "طلعت ريحتكم" التي أطلَقت شرارة التحرك على المستوى الوطني من أجل قضية النفايات في العام 2015، أن المطمر الواقع بالقرب من مكان سكنه موجود في مكانه منذ صغره.

كلود يسكن في منطقة برج حمود التي تضم على شاطئها أحد أقدم مطامر النفايات في لبنان وأكبرها. يقول: "نتنشق الروائح الكريهة دائماً والناس تموت من السرطان وتُصاب بالأمراض الرئوية والجلدية". ويضيف: "هذه المرة طفح الكيل خاصةً مع انتشار النفايات في الشوارع وقرار إعادة افتتاح مطمر برج حمود كحل بديل عن مطمر الناعمة، فقررتُ التحرك، خاصةً أن الشركة المتعهدة معالجة النفايات، أي ‘سوكلين’، كانت تفتعل أزمةً تُغرق خلالها الشوارع بالنفايات كلما شارف عقدها مع الدولة على الانتهاء، أي كل أربع سنوات، بهدف الضغط من أجل تمديده مرةً جديدةً".

ميناء صيد السمك في برج حمود، بالقرب من مكب النفايات.

يتحدث كلود لرصيف22 عن تواطؤ الأحزاب المسيطرة على المنطقة مع السلطة المركزية للسماح بإعادة تشغيل المطمر الموجود في منطقته خلال فترة إقفال مطمر الناعمة. يقول: "كان حزب الطاشناق يكذب على أهالي المنطقة بالادّعاء بأنهم سيحوّلون المنطقة إلى ناطحات سحاب، والناس، بالرغم من انبعاث الروائح الكريهة، كانوا يخافون من المواجهة لأنهم من الممكن أن يخسروا أشغالهم ويقفل الحزب المسيطر محالّهم التجارية".

ويروي قصة حالة صادفوها خلال زيارتهم الميدانية للمنطقة، وهي قصة عائلة مهجرة من سوريا تسكن عند مدخل المطمر وأولادها كلهم مصابون بتقرحات جلدية في الوجه. يقول إن الناس في هذه المناطق تتصرف على أساس أن "لا شيء يمكن أن يتغير، وعليهم التأقلم مع الوضع".

ينقل كلود عن أبيه وأمه، وهما في أواخر الستينات من العمر، قولهما إن "المطمر كان موجوداً منذ أن سكنوا في المنطقة خلال الحرب اللبنانية، وهو أمر واقع وكأنه جزء من المشهد الذي لا يمكن تغييره". وكانا يسألانه: "هل تظن فعلاً أنه يمكنك أن تغيّر؟ لا أحد يمكنه ذلك!". ويختم كلود: "ملف النفايات له علاقة بالتحاصص السياسي والطائفي للمافيات الحاكمة، والناس تحركت في آب/ أغسطس 2015، لأنها رأت أن هذه الأزمة تطالهم كلهم".

توقف معمل الكهرباء بالرغم من أزمة الكهرباء

يُجمع أهالي المناطق المجاورة لمطمر الناعمة على مطلب إعادة تشغيل معمل الكهرباء وتغذية مناطقهم بساعات إضافية من التيار الكهربائي. مع إعادة افتتاح مطمر الناعمة عام 2015، لفترة من الوقت، وُعِد الأهالي في المقابل بإنشاء معمل لإنتاج الكهرباء من غاز الميثان المنبعث من المطمر، يؤمّن الكهرباء النظيفة مجاناً لمدة 24 ساعةً يومياً للمناطق المجاورة، وذلك باعتماد الطاقة النظيفة، أي المولدات التي تحرق الغاز بشكل تام وتخفف من الانبعاثات السامة.

يقول عضو مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، المهندس سامر سليم، لرصيف22، إن مجلس الإنماء والإعمار الذي يدير المطمر تعاقد عام 2016 مع شركة Clean Energy Solution (CES) اللبنانية، بالتحالف مع شركة GEE العالمية، لبناء معمل كهرباء بقوة 7 ميغاوات وتشغيله لمدة سنة. لكن الشركة استمرت بتشغيل المطمر حتى عام 2020، من خلال تمديد العقد الأساسي بعقود مصالحة مع مؤسسة كهرباء لبنان.

هذا التمديد جرى بسبب إلغاء نتيجة مناقصتين أجرتهما المؤسسة خلال هذه الفترة. ففي العام 2018، أُجريت مناقصة لتشغيل المعمل، وتقدّمت إليها ثلاث شركات إحداها CES وأخرى هي Middle East Power (MEP) التي فازت بالمناقصة بسعر يقارب السبعة ملايين دولار على خمس سنوات، بفارق ثلاثة ملايين دولار عن عرض الشركة المنافسة، على ما يشرح الرئيس التنفيذي للشركة يحيى مولود، لرصيف22.

شركة الكهرباء أرسلت نتائج المناقصة إلى وزارة الطاقة، وكان على رأسها الوزير سيزار أبي خليل التابع للتيار الوطني الحر، وإلى وزارة المال للموافقة، فأتى رد وزارة الطاقة بالرفض. يشرح عضو مجلس إدارة كهرباء لبنان، أن الرفض أتى بسبب خلل في العرض المقدَّم من قبل شركة MEP. أما أبرز نقاط الخلل بحسب سليم، فتكمن في بند الصيانة الشاملة للمولدات التي تتطلب إجراء الصيانة عند كل 20 ألف ساعة تشغيل، واستخدام قطع غيار أصلية، وهذا ما لم تتعهد به شركة MEP بشكل واضح في عرضها.

لكن الرئيس التنفيذي للشركة يحيى مولود يقول إن الشركة كانت ستوقع على العقد نفسه الذي ستوقّع عليه أي شركة أخرى، وكانت ستلتزم بشروط صيانة المولدات. ويعزو سبب إلغاء المناقصة إلى الخلافات السياسية التي نشأت بينه وبين الوزير أبي خليل، لانتقاده طريقة إدارة التيار الوطني الحر لوزارة الطاقة، ولحديثه عن ملفات فساد مرتبطةً بذلك تتعلق بصفقات بواخر إنتاج الكهرباء.

بالنتيجة، أُلغيت المناقصة، وتابعت شركة CES تشغيل المعمل بعقود مصالحة كانت توقّعها شركة كهرباء لبنان مع الشركة الخاصة حتى أواخر العام 2019. وفي العام 2019، أجرت شركة كهرباء لبنان مناقصةً أخرى، وهذه المرة تقدمت الشركة المشغلة، أي CES، وشركة MEP فقط. وتبعاً لسليم، "أحد شروط المناقصة يظهر وكأنه وُضع لاستبعاد CES، وهو شرط الخبرة في تشغيل معامل مماثلة لأكثر من المدة التي تنطبق على CES بقليل".

من تظاهرات حراك "طلعت ريحتكم".

في العام 2020، سلّم مجلس الإنماء والإعمار المعمل إلى شركة كهرباء لبنان، التي لم تتلقَّ بدورها أي جواب من وزارتي الطاقة والمالية عن المناقصة الثانية، فأُلغيت المناقصة للمرة الثانية، وهذه المرة أصبح الوضع أسوأ مع ازدياد حدة التقنين في التيار الكهربائي في لبنان حتى 23 ساعةً يومياً. وهذا الوضع دفع الأهالي، وعلى رأسهم وسام وابنه، إلى تفجير غضبهم في الشارع في تموز/ يوليو 2021، وإلى الضغط لتأمين الكهرباء لساعات إضافية.

عن ذلك، يقول سليم إنه "من غير المقبول أن نخسر 20 ألف دولار في اليوم بسبب توقيف معمل ينتج 6 ميغاوات من مصدر مجاني للطاقة. لذا تفاوضت شركة كهرباء لبنان مع شركة CES، وتوصلتا إلى عقد بالتراضي على شراء قطع الغيار المطلوبة لتأمين صيانة شاملة للمعمل لمدة سنتين، بالإضافة إلى تدريب موظفين من شركة كهرباء لبنان على تشغيله".

وبحسب سليم، تصل كلفة العقد الموقَّع مع الشركة إلى ثلاثة ملايين دولار، وستؤمَّن من حصة شركة كهرباء لبنان من "حقوق السحب الخاصة"، أو الـSDR التي تحقّ للدولة اللبنانية من البنك الدولي. هذا علماً بأن شركة كهرباء لبنان وقّعت العقد بالتراضي قبل ساعات من دخول قانون الشراء العام حيز التنفيذ في 28 تموز/ يوليو 2022، وإلا كان يجب أن تمر حكماً عبر هيئة الشراء العام المُنشأة بموجب هذا القانون لإجراء مناقصة جديدة لتشغيل معمل الكهرباء. وهذا يعني خسارة وقت إضافي، فيما المعمل متوقف.

على ذلك، يعلّق مولود بأن "الإدارة اليوم فضّلت إلغاء نتيجة مناقصة مرتين، وهدر مصدر مجاني للطاقة وحرقه في الهواء، مع ما يتسبب به ذلك من تلوث، من أجل أن تعطي عقداً لشركة خسرت المناقصة مرتين". ويسأل: "كيف يمكن أن يوقّعوا عقداً لتشغيل المعمل لسنتين بقيمة ثلاثة ملايين دولار، فيما عرضُنا لا يتخطى الستة ملايين دولار لخمس سنوات؟". هذا علماً بأن شركات موت مكدونالد وسوكومي وCES، تقاضت نحو 14 مليوناً و300 ألف دولار عبر مجلس الإنماء والإعمار خلال خمس سنوات لإنشاء المعمل وتشغيله.

أكثر من 1.89 مليار دولار خلال 20 سنة

أين وزارة البيئة من هذا الملف؟ سأل رصيف22 وزير البيئة د. ناصر ياسين، فأخبر أنه تدخّل في الشتاء الماضي ليتأكد من تنفيس الغاز المخزَّن في المطمر، بعد أن أوقفت الشركة المشغّلة لمعمل الكهرباء العمل، وذلك وسط مخاوف من انفجار المطمر.

وأشار ياسين إلى أن تنفيس غاز الميثان في الهواء أو حرقه، لهما آثار على التغيير المناخي في المنطقة. يقول إن لبنان التزم في قمة المناخ الأخيرة بتخفيف انبعاثات غاز الميثان، ومن هنا ضرورة معالجة انبعاثات مطمر الناعمة.

ولفت إلى أن لمطمر الناعمه آثاراً أخرى تتعلق بكيفية معالجة العصارة الناتجة عن تخمّر النفايات، إذ إن المعالجة الحالية بدائية جداً في ظل الأزمة المالية وهناك تخوف فعلي من تسرب العصارة إلى المياه الجوفية.

أما عن خطة الوزارة لمعالجة النفايات في الفترة المقبلة في ظل الأزمة المالية، فيعدد وزير البيئة توجهات وزارته بتشجيع الفرز من المصدر، والفرز الثانوي عبر البلديات واتحادت البلديات، وبتحويل المرفوضات إلى طاقة عبر تقنية الـRDF، وباستحداث نحو 12 مطمراً جديداً. ويقول إن السبيل لتحقيق هذه الخطوات يكمن في حوكمة القطاع عبر إنشاء هيئة وطنية لإدارة النفايات الصلبة وفي تأمين التكلفة عبر اعتماد مبدأ استرداد الكلفة بشكل مباشر من السكان.

في مقابل هذه الخطة، ما الذي يضمن ألا تتحول المطامر المقترَح إنشاؤها من قبل الوزارة إلى نسخة أخرى عن مطمر الناعمة، حيث كانت النفايات تُطمر من دون أي معالجة جدية بالرغم من إنفاق الدولة اللبنانية أكثر من 1.89 مليار دولار في العشرين سنة الماضية (كلفة عقود جمع النفايات ومعالجتها بين مجلس الإنماء والإعمار وشركتي سوكلين وسوكومي بحسب أرقام مبادرة غربال). عن هذا التخوف، يجيب وزير البيئة بأنه سيعتمد فصل إدارة المطامر عن إدارة معامل الفرز، بالإضافة إلى إعطاء حوافز مالية تشجّع السلطات المحلية على الفرز، بحيث تكون عملية الطمر هي الأعلى ثمناً.

خطة وزارة البيئة أُقرّت في شهر نيسان/ أبريل 2022، في مجلس الوزراء، قبل تحوّله إلى حكومة تصريف أعمال. إذاً، يقع على عاتق الحكومة المقبلة إصدار مراسيم تشكيل الهيئة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة، وفي هذا الوقت عادت ظاهرة إحراق النفايات في الهواء الطلق في بعض المناطق اللبنانية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image