شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هديةٌ من السماء وامبراطورية المائدة...أبرز حكايات وطقوس

هديةٌ من السماء وامبراطورية المائدة...أبرز حكايات وطقوس "الكمأة" السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 25 أبريل 201903:29 م
Read in English:

The Syrian Desert Truffle... A Gift of the Sky

"الكماية بخمسميّة...الكماية بخمسميّة..." بنغمةٍ منتظمةٍ وبصوتٍ مرتفعٍ، ينشغل باعة سوق الوادي، وسط مدينة دير الزور شرق سوريا، بالمناداة على واحدةٍ من البضائع الأكثر انتشاراً في الأسواق السوريّة خلال الشهرين الأخيرين: الكمأة، أو كما تسمّى باللهجة المحليّة "ﭼمة".

هذا الموسم "لم تشهد البلاد مثيلاً لوفرته وخيره منذ عقودٍ"، وفق ما يؤكّده أصحاب المحال والبسطات في المدينة، معتبرين بأن الكمأة "هي هديّة السماء بامتياز، والسماء كانت سخيّة هذا العام".

على امتداد السوق الطويل الذي يعجّ بمحال الخضار والفاكهة واللحوم والسمك والحلويات، تنتشر السلال الكبيرة التي يضع فيها الباعة هذا النبات الذي يظهر في معظم المناطق الصحراويّة بعد هطول الأمطار، والذي يُعتبر من أغنى أنواع الفطريّات بالعناصر الغذائيّة، كالبروتين والنشويات والدهن، إلى حدّ تشبيه الكمأ باللحم الأحمر.

أما أسعار الكمأة فتتراوح بين 500 ليرة سورية (دولار واحد) وصولاً إلى 6000 ليرة للكيلوغرام الواحد، حسب لونها وحجمها اللذين يختلفان بدورهما وفق نوع التربة التي تنبت الكمأة فيها.


الكمأ...أنواع وأشكال

يبرع الباعة في التمييز بين الكمأة السمراء الصغيرة التي تُدعى باللهجة المحليّة "الحرقة" وقد لا يتجاوز حجمها حبّة الجوز، و"الزبيديّة" ذات الحجم الأكبر واللون الأفتح، و"الشيوخ" التي سُمّيت تشبّهاً بلحية الشيوخ البيضاء الكثّة وقد تصل الواحدة منها لحجم حبّة البطاطا الكبيرة.

وبصيحاتٍ مشابهةٍ ينادي باعة الكمأة على بضائعهم في الأسواق الشعبيّة وسط العاصمة دمشق، ومنها سوق باب سريجة، "سمرا الكماية سمرا.. سمرا وبنت العرب"، يرفع أبو سلطان صوته مع مرور كلّ شخصٍ جانب محلّه، محاولاً جذب المزيد من الزبائن لهذه البضاعة القادمة من شرق البلاد.

الكمأة "هي هديّة السماء بامتياز، والسماء كانت سخيّة هذا العام

"السعر حسب الحجم والجودة والطعم"، هذا ما يشرحه البائع الستيني لسيّدةٍ تقترب منه وتسأل عن التفاصيل والأسعار، متباهياً بمعرفته الدقيقة بهذا النبات: "تختلف كمأة المناطق الشاميّة، أي غرب الفرات، عن كمأة مناطق الجزيرة، شرق النهر: السمراء ذات طعمٍ مميزٍ وطراوة رائعة تذوب داخل الفم، في حين أن للزبيديّة مذاق مختلف ولذيذ أيضاً"، ويضيف ضاحكاً:"بإمكاننا القول بأن السمراء هي اللحم البلدي، والأكثر بياضاً هي لحم العجل".


رحلة الكمأة من الصحراء إلى الأسواق

تنبت الكمأة في المناطق الصحراويّة أو شبه الصحراويّة بسوريا وغيرها من بلدان الشرق الأوسط وحوض المتوسط، وهي من أنواع الفطريّات التي لا تحتاج بذوراً للنموّ، وتظهر غالباً إلى جانب بعض النباتات الصحراويّة أو قرب جذور الأشجار، وعلى عمقٍ يتراوح بين 5 و15 سنتيمتراً.

ولا تظهر الكمأة سوى في مواسم المطر، وتحديداً عند حدوث البرق والرعد، حيث يساهم البرق في إحداث تفاعلٍ بين بعض المكوّنات والبقايا الحيويّة الموجودة في التربة ومنها الأملاح والمعادن، لتتشكّل ثمار بأنواعٍ وأحجامٍ مختلفةٍ تصل حتى 30 نوعاً حسب منطقة نموّها، وليشرع السكان في المناطق القريبة للبحث عنها بعد كل ليلةٍ ماطرةٍ، مُطلقين عليها ألقاباً عديدة، منها "ابنة الرعد" و"نبات الرعد" و"الفقع".

على طول الطريق الواصل بين مدينة دمشق ودير الزور شرق سوريا، وبخاصّةٍ في المناطق الصحراويّة، ينتشر العشرات ممن يبحثون عن ضالّتهم من الكمأة بين الأتربة والأعشاب، حيث يميّزونها نتيجة التغيّر في شكل سطح التربة، أو بوجود نوعٍ معيّنٍ من الأزهار إلى جانبها، وأحياناً من خلال تجمّع بعض الحشرات حولها.

ويقضي العديد من أهالي دير الزور وغيرها من المدن والقرى ساعاتٍ طويلةً في جمع الكمأة بأيديهم، أو باستخدام بعض الأدوات المعدنيّة البسيطة، الأمر الذي كان شبه غائبٍ خلال السنوات الأخيرة نتيجة المعارك التي كانت دائرة في معظم مناطق نموّ هذه النبتة.

"هذا العام مميّز لسببين: الأول انتهاء المعارك وتمكّننا من العودة للصحراء والبحث عن الكمأة، والثاني هو وفرة الموسم الذي شَهِدَ تساقطاً غير مسبوقٍ للأمطار المصحوبة بالرعد"، وفق ما يقوله أبو علي وهو أحد سكان دير الزور لرصيف22 ويتابع: "أحد رجال المدينة وعمره تسعون عاماً أخبرني بأنه لا يذكر مرور سنة خير ٍكهذه منذ أكثر من خمسة عقود".

ومن الصحراء تُنقل حمولة الكمأة إلى دير الزور والمدن والقرى القريبة، وأيضاً إلى المدن السورية الأبعد، لتُباع في مختلف الأسواق وبأسعارٍ متباينةٍ، تبدأ من 500 ليرة (دولار واحد) للكيلوغرام في أسواق دير الزور، وتنتهي في بعض أسواق دمشق الفخمة بثمانية آلاف ليرة وربما أكثر، وهي أسعار منخفضة عن السنوات الماضية التي لم تشهد مواسم أمطارٍ كافية، ووصل فيها سعر كيلو الكمأة لأكثر من خمسين دولار.

ويشرح الرجل الخسميني في حديثه لموقعنا عن أسعار الكمأة بالقول."لا توجد قاعدة معيّنة لتحديد سعر الكمأة، فهي لا تكلّف سوى الجهد البشري في مراحل جمعها ونقلها للأسواق. يعتمد ذلك بالدرجة الأولى على وفرة الموسم، وكمية الطلب، وأيضاً القدرة على تصديرها خارج البلاد، كما يختلف السعر من سوقٍ لآخر، فهنا في دير الزور هو الأقلّ، ويرتفع كلما ابتعدنا نحو مدنٍ أخرى، وحتى داخل المدينة الواحدة يتباين تِبْعاً لشكل السوق إن كان شعبيّاً أم لا".

بكلّ الأحوال فإن هامش ربح من يقومون بجمع الكمأة قد لا يتجاوز 15 بالمئة من سعر بيعها الأساسي، كما أنها بضاعة موسميّة تمتدّ من أواخر أكتوبر حتى أواخر أبريل، ولا يمكن الاعتماد عليها كمصدر دخلٍ أساسي، لكنّها ساهمت خلال الأشهر الأخيرة بإعانة عشرات العائلات التي فقدت مصادر رزقها بسبب الحرب والدمار الاقتصادي في البلاد.

هذا ولا تخلو رحلة الباحثين عن الكمأ من المخاطر، حيث تواردت أنباء نقلتها وسائل إعلام محليّة سوريّة عن وفاة عشرات الفلاحين وهم يبحثون عن الكمأة، نتيجة انفجار ألغامٍ من مخلّفات المعارك التي شهدتها مختلف المناطق الصحراويّة السوريّة.

ساهمت الكمأة خلال الأشهر الأخيرة بإعانة عشرات العائلات التي فقدت مصادر رزقها بسبب الحرب والدمار الاقتصادي في البلاد

طقوس ومعتقدات

نتيجة توافرها بكثرةٍ في المناطق الصحراويّة، ترتبط الكمأة بشكلٍ خاص بحياة أهالي مدن المناطق الشرقيّة في سوريا، ولها في ذاكرتهم ووجدانهم الكثير من الحكايات والأقاويل والمعتقدات.

يقول أبو علي بصوتٍ متهدّجٍ: "موسم الكمه هو موسمٌ للدم...هكذا كانت رواية جدّاتنا، حيث يسود الاعتقاد هنا في دير الزور بأن السنة التي تنبت فيها الكمأة بوفرةٍ هي نذير شؤمٍ للمنطقة، فنأكلها ونقول في سرّنا الله يستر من سنة الكمه"، لكنه يتابع حديثه مع ابتسامةٍ عريضةٍ هذه المرة: "إلا أن الجدّات لم يتنبأن بكلّ تأكيدٍ بالحرب في البلاد، وهل هناك مواسم دم أسوأ من تلك التي عشناها في السنوات الأخيرة؟ مع ذلك، لا زلنا نأكل الكمه ونتخوّف من شرورٍ محتملةٍ قادمة".

هذا المعتقد كان يدفع بعض النساء لرمي المياه المستخدمة في غسيل الكمأة أمام بيوت الجيران الذين يبغضونهم، وإثر ذلك كانت تنشب خلافات حادّة بين الجيران، فهذا الفعل أشبه بالسحر، ومياه الكمأة تجلب الشؤم، كما يظنّ أهل المدينة.

يسود الاعتقاد في دير الزور بأن السنة التي تنبت فيها الكمأة بوفرةٍ هي نذير شؤمٍ للمنطقة، فنأكلها ونقول في سرّنا الله يستر من سنة الكمه

بالرغم من هذه المعتقدات والحكايات التي لا تنتهي، فإن تناول الكمأة في دير الزور قبل اندلاع الحرب كان أشبه بطقسٍ احتفالي، حيث اعتادت معظم العائلات الخروج في الأيام المُشمسة التي تعقب الأمطار لخارج المدينة، بهدف جمع الكمأة وشويها على الفحم، مع أصنافٍ أخرى ومنها اللحم والخضار: "في السابق كانت البادية تمتلئ بنا وبضحكاتنا وبرائحة الطعام كلّ خميس وجمعة، هذا ما كشفته "ريم"، وهي من أبناء دير الزور، في لقاءٍ مع رصيف22 قبل أن تضيف بحسرةٍ: "بالفعل كانت أياماً لا تُنسى".

أسرار تحضير الكمأ

في دير الزور، هناك عشر طرق مختلفة لتحضير الكمأة، كالشوي، والطبخ مع الأرز أو مع السمن العربي، والقلي مع البيض، والتقطيع مع اللحم ضمن أصنافٍ تُحشى عادةً باللحم والأرز، كما تُحفظ الكمأة كمؤونة من خلال تقطيعها لدوائر رفيعة وتجفيفها لتُطبخ خلال فصل الصيف.

وعن أسرار تحضير الكمأة تقول "ريم":"الكمأة امبراطورة المائدة بالنسبة لنا، ونحضّرها فقط مع المكوّنات الفخمة كاللحم والسمن والأرز، أما المواد الأقلّ قيمةً منها كالبندورة فلا تتوافق أبداً مع الكمأة"، وتضيف: "ارتباطنا العاطفي بها يجعلنا نستمتع بتناولها على خلاف المناطق السوريّة الأخرى. الكمأة بالنسبة لنا تراثٌ مرتبطٌ بسنوات الرخاء، وبذاكرة وبطقوسٍ عديدةٍ لها علاقة بالحياة والطعام".


الكمأة امبراطورة المائدة بالنسبة لنا، ونحضّرها فقط مع المكوّنات الفخمة كاللحم والسمن والأرز

هذه العادات لم تبق بمنأى عن تبعات الحرب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فالعائلات في دير الزور كما في كل سوريا قد تفرّقت، ما أدّى نسبياً إلى زوال طقوس رحلات جمع الكمأة وتناولها، خاصّةً وأن الكمأ لم يعد بمتناول معظم السوريين الذين يعيش أكثر من ثلاثة أرباعهم تحت خطّ الفقر.

الكمأة بالنسبة لنا تراثٌ مرتبطٌ بسنوات الرخاء، وبذاكرة وبطقوسٍ عديدةٍ لها علاقة بالحياة والطعام

الجدير بالذكر أنه كان للكمأة نصيب من حبِّ أهل الصحراء للأشعار والأغاني فينشدون وهم يجمعونها "لحم بلا عظم يا ﭼمة"، أو يردّدون أغنية الفنان العراقي سعدون الجابر والتي يقول فيها:"ﭼمّاي ماني ﭼمّاي.. درب الﭽمه اندليته.. والله هواه يعذب.. كل العمر داريته"، قاصداً بها لحاقه بحبيبته التي خرجت للبحث عن الكمأة في الصحراء، وتحوّله إلى جامعٍ لهذه النبتة بسبب ولعه بالفتاة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image