شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
كنت أرى العالم من زاوية أمّي إلى أن أنقذتني الكتب

كنت أرى العالم من زاوية أمّي إلى أن أنقذتني الكتب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 20 يوليو 202210:12 ص


كنت مقبلةً على الحياة كأيّ مراهقةٍ تعتقد أنّ الزاوية التي تنظر منها أمّها إلى العالم هي الزاوية الوحيدة والصحيحة.

من تلك الزاوية، تُكال الاتهامات دون رحمة لامرأةٍ خلعت ثوب الحداد بعد انقضاء الأربعين، وتُحاك قصصٌ من نسج الخيال وتصّدق أكثر من الحقيقة نفسها. من تلك الزاوية، لا تُغتفر الخطايا التي تُرتكب في النهار.

كنت مقبلةً على الحياة كأيّ مراهقةٍ تعتقد أنّ الزاوية التي تنظر منها أمّها إلى العالم هي الزاوية الوحيدة والصحيحة.

ومن تلك الزاوية أيضاً، الاسم الوحيد لجميلة التي هربت مع حبيبها المسيحي سرَاً هو "عاهرة". بقيت قابعةً هناك حتّى عثرت صدفةً على كتابٍ لجبران خليل جبران، واكتشفت أنّ هناك شخصاً آخر في مكانٍ ما يفكّر بطريقة أخرى، وأنّ لا شيء أكثر من عدد الزوايا في هذا العالم.

تعويذة النجاة

على الرغم من مرور سنوات طويلةٍ، وعلى الرغم من تطوّر ذائقتي الأدبية واختلافها جذرياً عن السابق، ما زلت أعتقد أنّ كتاب جبران ذاك كان تعويذة النجاة الخاصّة بي. وبفضله فقط بدأت البحث عن نفسي، وعن نظرتي الخاصّة. ربما كلّ ما أردته وقتها هو أن أجد طريقةً لأبرّئ جميلة. أخبرني جبران أنّ الزاوية التي تحاول أمي حشري بها ليست الزاوية الوحيدة، وأنّ الحياة ليست بهذه البساطة. والأشياء أكثر تعقيداً مما تبدو عليه. وإصدار الأحكام أمرٌ لا يخصّنا كبشر. النظر لكلّ شيءٍ بعينٍ واحدة يعني إعلان استسلامنا لما كان قد خُطط له حتّى قبل ولادتنا، أن نصبح جزءاً منسجماً مع القطيع.

"الكتب تفسد العقول" كانت أمي تردد تلك العبارة كلّما رأتني أمسك كتاباً، وتتحسر لحالي، مؤكدةً في كلّ مرّة أنّي لن أحظى بعريس يوماً. أعتقد أنّ داخل كلّ إنسان عاش الظروف ذاتها التي عشتها، وجاء من بيئة تعتبر قراءة الكتب عاراً وانفتاحاً مبالغاً به في أحسن الأحوال، وكان محكوماً لتلك الدرجة بالعادات والتقاليد، ومكبلاً باسم العائلة، ومحكوماً بسطوة الحبّ الكبير لأهله، كان داخله شخصٌ آخر نحاول بشتى الطرق أن نبعده، نتجاهله، نكبته، نخبئه، نخاف أن نظهره كي لا نخسر القبول الذي يشعرنا بالرضا والاستحسان والانسجام.

"الكتب تفسد العقول" كانت أمي تردد تلك العبارة كلّما رأتني أمسك كتاباً، وتتحسر لحالي، مؤكدةً في كلّ مرّة أنّي لن أحظى بعريس يوماً

ولن أنكر انبهاري بهذا النعيم الكاذب يوماً. لكنّ القراءة أشعلت الفتيل الأوّل داخلي لتغيير الخطة إلى الأبد. حررت ذاك الشخص المسجون في أعماقي. وبيدي، قتلت ما كان من المفترض أن أكونه ودفنته دون أن يرمش لي جفن. لم يعد يهمني ذلك المكان الضيق والعالم الصغير الذي أنتمي إليه. أصبحت أريد عالماً آخر، عالماً يفهم أنّ النظر وحده ليس كافياً للمعرفة، وأنّ المهم التعلّم كيف ننظر حتى لا يغرينا المظهر وننخدع بالضوء ونحيد عن الجزء الأهم من الحكايات. الجزء الذي لن يراه إلّا من اعتاد البحث عن القسم المفقود من الأحجية. الوضوح ليس إلّا مكراً من الحياة، والأحكام المسبقة ليست إلّا انهزاماً حقيقياً أمام القدرة على الرؤية.

القراءة تعلّمك الشك بكلّ شيء حولك وعدم الاكتفاء بإجابة واحدة تعطيك المفتاح الأهم لتكتشف العالم، تعلّمك أن تبحث عمّا وراء المعنى. هناك فقط تستطيع أن تلمس الحقيقة المجرّدة من كلّ خدعة. أولئك الذين قرروا الاكتفاء بما تلقنوه لن ينعموا أبداً بلذة كهذه

النافذة الوحيدة التي عرفتها ولم تطل على جدار

من هنا، بدأت أبدّل الزوايا وأبحث جيداً عن معنى لكلّ شيء. لم أعد أصدّق ما أراه في المرآة، ولا ما أراه في الشارع، ولا ما أراه في وجوه الناس، حتّى أنّي لم أعد أصدّق الابتسامات، ولا الكلام، ولا المشاعر. القراءة تعلّمك الشك بكلّ شيء حولك وعدم الاكتفاء بإجابة واحدة تعطيك المفتاح الأهم لتكتشف العالم، تعلّمك أن تبحث عمّا وراء المعنى. هناك فقط تستطيع أن تلمس الحقيقة المجرّدة من كلّ خدعة. أولئك الذين قرروا الاكتفاء بما تلقنوه لن ينعموا أبداً بلذة كهذه.

أردت هروباً مشرفاً من عالم القوالب الجاهزة والأحكام المسبقة والنظرة الواحدة. أردت أن أجد نفسي بعيداً عن كلّ هذا الهراء الذي يُحيط بي.

احتجت نافذة أخرى، نافذة لا تطلّ على بيت عمتي وحديقة جارتنا وحكايات جدتي التي لا تنتهي. أردت نافذة تطلّ على العالم الآخر المختلف. أنا المحبوسة بين جدران غرفتي الصغيرة، أحدّق بالجدران تنمو من كلّ جهة، أردت أن أضع خطّة نجاة أخيرة. أردت هروباً مشرفاً من عالم القوالب الجاهزة والأحكام المسبقة والنظرة الواحدة. أردت أن أجد نفسي بعيداً عن كلّ هذا الهراء الذي يُحيط بي، فكان عليّ أن أجلب العالم كلّه وأضعه تحت نافذتي، وهذا ما تمكنت حقّاً من فعله بوساطة الكتب.

الحرب الأولى كانت مع نفسي

كنت بعد كلّ روايةٍ أقرأها أجلس لأحاكم الكاتب، أرفضه، أخافه، أقتله وأُحييه مئات المرات ثمّ أعود لاهثةً إليه. سجنت الكاتب الأميركي بول أوستر طويلاً لأنّ فكرة اشتهائه لأخته أغضبتني ولم أطلق سراحه إلّا مؤخراً. وعلى الرف وضعت الشاعر السوري أدونيس لأنّه وصف دمشق بالسجن وتغنّى ببيروت. كان بالنسبة لي، لزمن طويل، كالشخص الذي أخبر طفلاً في الخامسة أن بابا نويل ليس حقيقياً. لم أبرر للرواية الروسية آنا كارنينينا كما لمت الرواية الفرنسية مدام بوفاري طويلاً واعتذرت منها لجهلي نصّاً طويلاً كتبته منذ سنة. اكتشف بعد فترة من القراءة أنّي لم أكن أحاكم الكاتب، بل كنت أحاكم نفسي. وكلّ رفضٍ لفكرة خارجة عن السياق كان معركة بيني وبين ذاتي وكان المنتصر "هم" الذين في داخلي. صرفت سنوات طويلة حتى تمكنت أن أزيح عن كاهلي تلك الحمولة الكبيرة من الأفكار المكدّسة فيّ، لم يكن سهلاً التعامل مع كلّ تلك الأفكار الآتية من عالم لم أعرف بوجوده مسبقاً. لم أكن أعتقد أن أحداً يمتلك كلّ تلك الجرأة للتعبير عن مكنونات نفسه. كنت غاضبة من نفسي، أوبخها قبالة المرآة لأني أعرف جيداً أني مبهورة بما كنت لتلك اللحظة أسميه كما تسميه أمي وجدتي وأبي وعمي وخالي "فجوراً" وخروجاً سافراً عن المألوف. كانت الكلمات تنزل على عقلي كالصاعقة وكان البركان في داخلي يتجهّز لينفجر.

لكنّ القراءة أشعلت الفتيل الأوّل داخلي لتغيير الخطة إلى الأبد. حررت ذاك الشخص المسجون في أعماقي. وبيدي، قتلت ما كان من المفترض أن أكونه ودفنته دون أن يرمش لي جفن. لم يعد يهمني ذلك المكان الضيق والعالم الصغير الذي أنتمي إليه. أصبحت أريد عالماً آخر، عالماً يفهم أنّ النظر وحده ليس كافياً للمعرفة

كل رواية قرأتها وجهت لي صفعةً قويةً حتى وجدت نفسي في النهاية. الناقد الصغير داخلي كبر الآن ولم يعد يتفق أو يستسيغ كلّ ما تقع عينه عليه. لكني صرت أدرك تماماً أنّ كلّ ما يُكتب مهم، حتّى ذاك النوع الرديء، لأنّك من خلاله فقط تعرف الاتجاه الذي تُشير إليه بوصلة العصر الذي تعيشه.

ليس من المهم أن نقبل أو أن نرفض، أن نحب أو نكره، فالكتابة كما يقول الروائي الفرنسي أدموند جالو "فعلٌ حرّ، لا ضرورة لها سوى متعة المؤلف". المهم في هذا الأمر هو النافذة التي تفتحها القراءة على عوالم أخرى لا تشبهنا. قبل الانتهاء من كتابة هذه الكلمات، قرأت منشوراً لصديقة عشرينية على فيسبوك تقول فيه: "القراءة تحدث فرقاً". هذه حقيقة لا لبس فيها. أنا مدينة للقراءة بما أنا عليه الآن، مدينةً لها لأنّها حررتني وجعلتني قادرةً على تقبّل أي اختلاف دون أن أتكلّف عناء معركة صغيرة مع نفسي. الكتب أنقذتني عشرات المرات، وهذا ليس مجازاً.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard