يمر النقد الأدبي في العالم بأزمة منذ التسعينيات، فقد عاش لحظات احتضار طويلة مع بداية اختفاء المجلات المتخصصة في الغرب والعالم العربي على السواء، وكانت الألفية الثانية، الألفية التي تحللت فيها جثة الناقد الذي مات سريرياً، كموت البطريرك في رواية "خريف البطريرك" لغابريال غاريثيا ماركيز، دون الإعلان عنه. حدث ذلك مع تغوّل لظاهرة مراجعي الكتب الذين قرصنوا دور الناقد، وصاروا يقودون عالم الكتابة في العالم العربي خاصة.
عرض الكتب ومراجعاتها مهنة؟
يمثل عرض الكتب تقليداً في الصحافة الغربية رافق الكتابة بأنواعها المتعددة، وكان مؤثراً تأثيراً كبيراً على نجاح الكتاب من عدمه. وتستحوذ المؤلفات الأدبية على القسم الأكبر من هذا الحقل، لذلك تعتبر مهنة مراجعي الكتب من أخطر المهن المتعلقة بالكتابة، فالناشر والكاتب والمحرر يظلون بعد إطلاق الكتاب ينتظرون بتوتر كبير المراجعة الأولى للكتاب في الصحف أو المجلات المؤثرة، ويمكننا أن نرى هذا المشهد حرفياً في فيلم "عبقري"، عندما كان المحرر ماكس بيركنز ينتظر العرض الأول لرواية توم وولف.
يمر النقد الأدبي في العالم بأزمة منذ التسعينيات، فقد عاش لحظات احتضار طويلة مع بداية اختفاء المجلات المتخصصة في الغرب والعالم العربي على السواء
ويمكننا اختزال مفهوم المراجعة بمقارنتها ببقية الأنشطة الكتابية المتصلة بها، فهي ليست دراسة أكاديمية ولا نقد أكاديمي محكم ومفصّل للعمل الأدبي، بل هي قراءة شمولية للنص وتقديم لأسئلته الكبرى والتيمة التي عالجها، مع إبراز لمواطن النجاح والإخفاق في الكتاب بشكل مكثّف دون تحليل.
وهذا يدفعنا للتساؤل عمن يكتب تلك المراجعات: من هو مراجع الكتب الإبداعية؟
في العادة يكون من خبراء السرد، إما ناقد محترف أو محرر أدبي أو صحفي ثقافي متخصص في المجال. إن خطورة تقديم الكتاب والحكم عليه في مساحات قليلة وبمنابر شعبية أو متخصصة في الكتاب من شأنها أن تؤثر في نجاح الكتاب أو عدمه، هو الذي يجعل من مراجع الكتب ذا شأن، وفساده من فساد حقل الكتابة برمته.
مراجعو الكتب في العالم العربي
انتشرت ظاهرة مراجعات الكتب في المجلات الأدبية غير العلمية، وازدهرت من الستينيات حتى أواخر التسعينيات مع مجلات كـ"الناقد الأدبي" و"الآداب "و"الحياة الثقافية" و"المعرفة" و"العربي" و"فصول في النقد" و"ابداع" و"الكرمل" و"عمان الثقافية" و"شؤون ثقافية" و"كتابات معاصرة"، وغيرها من المجلات التي كانت المواد فيها تشارف على العلمية، لأن الذين كانوا يكتبون فيها كانوا من خيرة الأقلام.
انتشرت ظاهرة مراجعات الكتب في المجلات الأدبية غير العلمية، وازدهرت من الستينيات حتى أواخر التسعينيات مع مجلات كـ"الناقد الأدبي" و"الآداب "و"الحياة الثقافية" و"المعرفة" و"العربي" و"فصول في النقد" و"ابداع" و"الكرمل"
ومع انحسار المنابر الورقية وانتشار المنصات وإطلاق الصحف مواقعها الخاصة، عرفت هذه الظاهرة انتعاشة في الظاهر بكثرة الفضاءات التي تقدم مراجعات للكتب، فحاولت بعض الصحف والمنصات استكتاب مجموعة من الكتاب المحترفين، والذين يمتلكون زاداً معرفياً يخوّلهم أن يقدموا الكتب، فاستعان بعضها بالكتاب الأكاديميين، بينما توجهت منابر أخرى نحو المبدعين أنفسهم، فاستثمرت في شهرتهم من ناحية ومعرفتهم بالأدب من ناحية ثانية، غير أن هذه الانتعاشة لم تستمر، لأسباب مختلفة .
فقد عجز بعض الأكاديميين المستكتبين لمراجعات الكتب التأقلم مع الفضاءات الجديدة، فظل بعضهم يكتب بلغة هجينة على هذه الفضاءات، التي تتوجه لعموم القراء الذين لا يمكنهم فك شفرة مصطلحات نقدية أكاديمية في مراجعة كتاب في جريدة أو منصة أدبية، فيغرق هؤلاء في الاغتراب عبر خطاب أكاديمي أسقطته مراجعاتهم في العجمة، وخسرت رهانها الأول بأن تصل بالكتاب إلى أكبر عدد من القراء.
بينما تمكن بعض الأكاديميين من التأقلم مع هذه الفضاءات، واكتشفوا أن الانتقال من الكتابة الأكاديمية في الأدب إلى مراجعات الكتب الأدبية، مثله مثل انتقال الشاعر إلى الكتابة الروائية، فكل جنس كتابي له أدواته وقوانينه ومفرداته ومحظوراته.
وكذلك الشأن بالنسبة للمبدعين العصاميين والذين لم يتخرجوا من جامعات العلوم الإنسانية والآداب، فكان يجب أن يمروا في هذه المهنة الجديدة من عالم الكتابة الإبداعية إلى عالم الكتابة النقدية في المراجعات، فخرجت علينا مراجعات بعضهم مثل الخواطر الأدبية، طغت عليها الذاتية والذوقية، فصار هؤلاء يحكمون على الأعمال الأدبية من خلال معارفهم الضيقة أو عبر انتسابهم إلى تيار أدبي معين.
وأسوأ ما تتعرض له المهنة هو تواطؤ المحرر مع المراجع الرديء، لأنه جاء بمادة تتحدث عن كتاب شهير، فينشر المراجعة من أجل الكتاب وليس من أجل جودتها، ليعلي من نسبة المشاهدة في المنصة أو الموقع أو يزيد من مبيعات الجريدة.
قرصنة مراجعي الكتب من دور النشر
بدأنا نرى في منابرنا ظاهرتين خطيرتين: الأولى، ظهور مراجعات رديئة لأعمال جيدة، فتلك المراجعات يقوم بها نكرات أو مبتدئون، لا يمتلكون شيئاً من المعرفة النقدية ولا مناهجها، وليست لهم ثقافة كبيرة بالأجناس التي يكتبون عنها. ونُرجع ظهور هذه المراجعات الهزيلة إلى المشرفين على المنابر والملاحق والأقسام الثقافية، التي نتفاجأ أحياناً عندما نسأل عن أسمائهم فنجدهم إما شركاء أو أصحاب المنابر، أو هم من ضعاف الكتّاب والذين لم يسبق لهم أن عرفوا في مجالات النقد الأدبي. فوظيفة المحرّر في القسم الثقافي أصبحت في بعض المنابر منصباً يهدى، أو هو منصب تشرّعه قدرة ذلك الشخص على تجنيد الأموال للمنبر.
وهنا تتسبب قلة الخبرة والمعرفة ظهور تلك المراجعات بتلك المنابر والتي يسعى المحرر فيها إلى تعبئة الفراغات، والحق أن كبرى المنابر الثقافية بدأت تسقط في هذا المأزق نتيجة الأزمات المادية التي يعيشها الإعلام العربي، فتقبل تلك المراجعات لأن أصحابها يكفيهم ظهور أسمائهم مع نصوصهم دون أن يطالبوا بمستحقات مادية على جهدهم. وهكذا ازدحمت المنابر بالأسماء التي بلا معرفة ولا خبرة بتقييم الأدب، وهكذا تصبح صناعة الأدب في خطر، لأن من يقيّمها ويقدمها للعموم أناس لا يمتلكون الخبرات التي تؤهلهم لإطلاق تلك الأحكام أو حتى اختيار الأفضل من الكتب.
أما الظاهرة الثانية والتي لا تخفى على أحد، هي أن مراجعي الكتب بحاجة دائماً للكتب لكي يقدموها للناس مقابل ما يتقاضونه من تلك المنابر، وفي ظل أزمة الكتاب وغلائه، تسرب الخطر الآخر للمهنة، فسقط بعض مراجعي الكتب في عبودية لدور نشر معينة، فصرت تراهم لا يكتبون إلا عن كتب تلك الدار، وتعمد الدار لتوفير مؤلفاتها مجاناً للناقد، فبتنا نعرف أن فلاناً لا يكتب إلا عن منشورات الدار الفلانية، وأنه إن كتب عن كتاب من دار منافسة فسيصفي حسابه مع الدار عبر الكتاب.
كيف نصحّح اليوم من المشهد السوريالي لواقع مراجعات الكتب، هل بالمزيد من المنابر أم بورشات ودورات تكوينية لفن مراجعات الكتب، أو بتعيين خبراء على المنابر وشخصيات تتابع تطور هذه المهنة في العالم؟
إن هذه النظرة السوداوية لعالم مراجعات الكتب تأتي من ممارسة هذه المهنة مدة تفوق العشرين عاماً، واكتشفت فيها أن صمود مراجع الكتب أمام محاولة الاستقطاب من دور النشر عملية صعبة جداً، في ظل ما يعيشه كاتب المقالات من وضع مادي صعب. وهذا الوضع الصعب لا يخفي نجاح العديد من مراجعي الكتب في خدمة الأدب، عبر مثابرتهم في البحث عن الجديد والمفيد دون أن يهزهم ضعف تجاه شيء، فلا الصداقات ولا الإغراءات المادية استطاعت أن تحولهم عن احترام هذه المهنة.
بينما ساهمت منابر أخرى في تشويه المشهد الأدبي، وساهمت حتى في التلاعب بنتائج الجوائز الأدبية، عبر الإعلاء من شأن كتب متواضعة على حساب أخرى، وينتهي الأمر بالقراء يركضون وراء تلك الكتب، ويهملون كتباً أخرى كان حظها من الدعاية والظهور في المنابر الكبيرة والأكثر مشاهدة ومبيعاً أقل.
إن موت الناقد اليوم يجعل من المشهد الأدبي في خطر، لأنه يقاد من الحشود نفسها التي صارت تفتي لنفسها الفتاوي النقدية والأدبية دون معرفة أو علم.
تصمد المنابر وتكسب قيمتها وتأثيرها من صدق مراجعيها، فمازال ظهور مراجعة صغيرة في مجلة "ذا نيويوركر" مثلاً يمثل حدثاً للكتاب، لأن المجلة لا تتلاعب بالقراء ولا تفتح أبوابها لكل من هب ودب ليكتب مراجعات عن الكتب. وهذا جعل الكثير من متابعي المشهد الأدبي يشتركون في تلك المنابر أو يتفاخرون أنهم يمتلكون أعداداً كبيرة منها.
كيف يمكن أن ننقذ مراجع الكتب من أزمته والتعامل معه كصاحب مهنة راقية وصعبة؟ وكيف نصحّح اليوم من هذا المشهد السوريالي لواقع مراجعات الكتب، هل بالمزيد من المنابر أم بورشات ودورات تكوينية لفن مراجعات الكتب، أو بتعيين خبراء على المنابر وشخصيات تتابع تطور هذه المهنة في العالم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه