شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ما لا يرويه التاريخ، تكشفه المذكرات... بين نوبار باشا وأربعة مغاربة

ما لا يرويه التاريخ، تكشفه المذكرات... بين نوبار باشا وأربعة مغاربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الخميس 25 أبريل 202411:51 ص

في قراءة اليوميات والمذكرات والسير الذاتية لا أنتظر الكلام الكبير، من كاتب أو سياسي يسعى إلى إبراء ذمّته، وغسل ضميره، وتضخيم ذاته بأثر رجعي؛ فيبدو نجماً مركزياً، والباقون يدورون في فلكه، وينصتون إلى نصائحه، ويهلكون إذا تجاهلوا حكمته. لا يهمني هذا كله، ولا يجذبني إلا البعد الإنساني والكتابة الرائقة.

وتصادف أن قرأت على التوالي "مذكرات نوبار باشا"، وكتاب "الذات والعالم" للكاتب المغربي صدوق نور الدين الذي درس يوميات أربعة مغاربة مرموقين: عبد الله العروي، ومحمد شكري، ومحمد خير الدين، وعبد اللطيف اللعبي.

نوبار الأرمني المسيحي جاء مصر، عام 1842 في سن السابعة عشرة، واتخذها وطنا لم يعرف غيره، وكتب أنها "في الحقيقة تستوعب، بل تفترس بشكل كامل الأجانب الذين يعيشون على ترابها". وعندما تعقدت الأزمة الاقتصادية، وأرسلت الحكومة الإنجليزية عام 1875، المسيو "كيڤ" على رأس لجنة اقتصادية ومالية، للتحقيق حول الوضع الاقتصادي، "غلت كل الدماء المصرية في عروقي"؛ لأن تلك الوصاية كانت بداية وضع أيديهم على مصر.

في قراءة اليوميات والمذكرات والسير الذاتية لا أنتظر الكلام الكبير، من كاتب أو سياسي يسعى إلى إبراء ذمّته، وغسل ضميره، وتضخيم ذاته بأثر رجعي؛ فيبدو نجماً مركزياً، والباقون يدورون في فلكه 

ترقي نوبار من مترجم إلى مستشار للحاكم، ووزير لأكثر من وزارة، فأول رئيس للوزراء، وتولى رئاسة مجلس الوزراء ثلاث مرات في ظل ثلاثة من الحكام. نوبار ظل بجوار إبراهيم باشا في رحلات أوروبية، وفي مرض الوفاة. يحكي أن نازلي هانم بنت محمد علي، "المعروفة بتاريخها الدامي والشهواني"، كانت قريبة من شقيقها إبراهيم في أيامه الأخيرة، وعند دخول نوبار ومساعديه، كانت نازلي تتخفى "في منتهى العناية"، وراء ستارة سوداء مفرودة، يحملها اثنان من الأغوات، وحين ترغب في الخروج "كنا ننبطح على الأرض وأعيننا تنظر إليها"، وهي وراء الستارة السوداء.

وضع نوبار مسافة سمحت برؤية التباينات بين الحكام، فالوالي محمد سعيد باشا قليل الحيلة، مغلول اليد، في مواجهة سلطة القناصل، وقد قال لأحدهم: "غطوا أنفسكم عزيزي القنصل، غطوا أنفسكم! هناك تيار هواء ومن الممكن أن تصابوا بالبرد فأضطر إلى دفع تعويضات لكم!".

غلاف كتاب "مذكرات نوبار باشا"

ذهب نوبار، ليلة زواجه في القسطنطينية عام 1850، للقاء السير ستراسفورد كاننج سفير بريطانيا ذي الإرادة الحديدية، فأخضعه للانتظار "القاتل" أربع ساعات، كإحدى الطرق لكي يدرك نوبار أن السفير "أعظم وأكبر" من الوالي عباس باشا. ثم استقبله السفير "دون أن يتحرك من مقعده الوثير، وأشار لي بحركة من يده إلى الكرسي". وقد أشفقتُ على نوبار، وأنا أتخيل مرور أربع ساعات من الانتظار، ساعات كبيسة، على شاب في الخامسة والعشرين، تنتظره عروسه، وهو ينتظر لقاء السفير، ويعلم أنه يتعمد إذلاله.

مات عباس وجاء الوالي سعيد باشا، وحدث بينه وبين السفير البريطاني في القسطنطينية السير هنري بولور سوء تفاهم، فأرسل نوبار إلى السفير، وانتظر في غرفة عارية، نحو نصف ساعة. ثم دخل نوبار، وأدهشه التناقض بين صالون الانتظار ومكتب السفير، فالجدران تكسوها ستائر من الهند، كما توجد هدايا تذكارية، وتماثيل، ومنضدة مغطاة بمفرش داكن عليها كميات من الأوراق، حتى إن السفير "كان يصعب عليه العثور على نفسه وسط هذا كله"، وكالعادة استقبله السفير "جالساً وطرف حذائه الرفيع يطل من قدمه المسجونة وراء المكتب بشكل مثير للضحك من تحت المفرش الذي يكسو مكتبه" بدا السفير وقوراً نبيلاً، كأنه قادم من القرن الثامن عشر، "ينقصه فقط منديل الرقبة لتكتمل هذه الصورة التي تبدو من الخيال".

غلاف كتاب "الذات والعالم"

بين عامي 1850 و1868 تغير اللورد ستراسفورد كاننج، لم يعد صاحب منصب سياسي. وفي لندن، استقبل نوبار من دون انتظار، لكنه احتفظ بهالة الهيمنة، والعيون المتسلطة نفسها. لمح نوبار أصابع "تخشبت بفعل النقرس، وأرجلاً مريضة مضمدة بقماش من الشاش".

في مذكرات نوبار باشا، التي نشرتها دار الشروق في القاهرة، هوامش شخصية حميمة، تجسدها رسائله إلى زوجته، ففي مواجهة تغوّل شركة قناة السويس ودفاع دي ليسبس عن السخرة، كان نوبار في القسطنطينية، يطالب بحق الفلاح العامل في القناة في نيل أجر "من قرش إلى اثنين في اليوم".

ومن هناك كتب إلى زوجته، في أيلول/سبتمبر 1863: "يا إلهي، يا لهم من رجال حتى الوجهاء منهم يجدون أنه من العدل أن نجعل الفلاحين يعملون دون أجر ودون طعام وأن يتم استعبادهم وإبعادهم عن زوجاتهم وأطفالهم لمدة خمسين يوماً. كم أود أن تتم معاملة كل هؤلاء الذين يتحدثون هكذا كما يُعامل الفلاح على أيديهم".

إنه سقوط الحداثة في الاختبار الإنساني، وسفور التناقض بين النظرية والتطبيق، واعتبار شعار الثورة الفرنسية امتيازاً للفرنسيين وللأوروبيين وحدهم، أما غيرهم فليست له حقوق، لا إخاء ولا مساواة. وفي تشرين الأول/أكتوبر 1863، كتب نوبار إلى زوجته أنه يعمل في "الجحيم"، محاولاً إقناع ممثلي شركة قناة السويس بحقوق مصر وبالعدالة للفلاحين، وهذا مجهود شاق "يفقدني الكثير من شبابي". وفي رسالة تالية يقول إنه عانى الأرق، وظل يعمل على أعصابه طوال النهار، "لقد أصبحت أكثر عصبية منك".

الذات والعالم

أما صدوق نور الدين، فلعله وجد أقرب تمثيل عربي لأدب اليوميات في أربعة أعمال مغربية، هي "خواطر الصباح"، و"جان جنيه في طنجة"، و"يوميات سرير الموت"، و"شاعر يمرّ". أربعة أعمال أخضعها للبحث في كتابه "الذات والعالم"، الصادر عن دار أكورا للنشر والتوزيع في طنجة.

في القسم النظري قارن المؤلف، كالعادة في هذا النوع من الدراسات، بين أدب اليوميات في الغرب وفي العالم العربي. هناك يتحرر الكاتب، وتتراجع القيود والمحرمات، ويتوفر منجز وتراكُم يمكن البناء عليه، وإن خضعت بعض اليوميات لرقابة عائلية، كما فعل ديفيد ريف في يوميات أمه سوزان سونتاج، وحذف "ما اعتبره غير متوافق وتقاليد العائلة، خاصة فيما يتعلق بتوجهات سونتاج الجنسية. ومن ثم أبقى على المختارات المتداولة وفق قراءته وتأويله الشخصي". كما مارس ماكس برود، محرر يوميات فرانز كافكا، "رقابة بالحذف عن المسائل الحميمية، وتلك التي رأى التكرار يسمها أو النقد الجارح". في هذا السلوك وصاية، وخيانة للنص.

في العالم العربي تزداد القيود. قوبلت السيرة الشهيرة "الخبز الحافي" لمحمد شكري "بالتنكر والجحود من طرف العائلة"، وبخاصة موقفه من الأب العنيف. أما سهيل إدريس فاكتفى بنشر الجزء الأول من سيرته "ذكريات الأدب والحب"، بعد الموقف الرقابي للعائلة، "عقب الكشف عن ميولات الأب الجنسية".

صدوق نور الدين

في العالم العربي أيضاً تبدو اليوميات "جنساً أدنى في الكتابة الأدبية"، واستشهد صدوق نور الدين "بأن التلقي الأدبي العربي لم يول كبير أهمية لـ'مذكرات طه حسين' (صدرت عن دار الآداب)، قياساً ببقية آثاره الأدبية والفكرية الثقافية". وأعترفُ بأنني لا أعرف أن لطه حسين مذكرات.

هذا القسم النظري من الكتاب يضيء جهود كثيرين تركوا أثراً، منهم توفيق الحكيم، عباس العقاد، حليم بركات، حسونة المصباحي، مؤنس الرزاز وإلياس فركوح في كتابهما "رسائلنا ـ ليست مكاتيب" الذي يوثق جانبا من "واقع الانحدار الذي انتهت إليه الثقافة العربية الحداثية والديمقراطية"، إنه "زمن خرائي بامتياز" بنص إلياس فركوح، رحمه الله.

وتشمل الدراسة التطبيقية أربعة أعمال أولها يوميات "خواطر الصباح" للمفكر عبد الله العروي، وتبدو أكثر التجارب ثراء؛ فكاتبها سياسي موسوعي الثقافة وثّق سيرة المغرب السياسي والفكري، في ضوء تجربته التي انتبه مبكرا إلى تسجيلها كيوميات، وهو تلميذ في ثانوية مراكش الثانوية عام 1949، "ولم أتوقف منذئذ". سيرة يراها صدوق نور الدين فريدة، تنهض على وعي المفكر، المؤرخ، السياسي، الإنسان.

هذا الوعي عصم صاحبه من الشعور بالدونية الحضارية، ومنحه قدرة على الرؤية الناقدة، فيقول مثلاً إن "الدولة الإسبانية متولدة عن الكنيسة بصفتها مؤسسة عالمية وليس وطنية. لذا تنبذ كل ما ليس أوروبياً نصرانياً غربياً".

أحببتُ وصف العروي لعاصمة النمسا: "فيينا مدينة جرمانية كاثوليكية، شمالية جنوبية، كلاسيكية باروكية. أثقلها الثراء دون أن يفسد نسقها". ليته يستطيع رؤية القاهرة الآن، قبل إتمام عمليات التجريف والتصحير، والبيع لتاريخها وتراثها.

فالعروي، الذي يصفه صدوق نور الدين بالراصد الاجتماعي، يجيد قراءة تحولات المشهد، وقد لاحظ بين طالبات قسم الفلسفة "فتاة مجلببة لا يرى من جسمها شيء، حتى العينان حجبتهما بنظارة سوداء سميكة. لم أر هذا اللباس منذ أربعين سنة وكان ذلك في قرية جبلية نائية. سألت عن حالها قيل لي إنها كانت إلى وقت قريب من أكثر الطالبات تمسكاً بالماركسية. قيل لي إن التيار الإسلامي قد انقسم على نفسه، كما هو الحال في باقي البلاد العربية والإسلامية، وإن كل جماعة تزايد على أختها. والأكثر تزمتا هي الجماعة المقيمة في مدينة سلا. والفتاة المذكورة تنتمي إليها".

في العالم العربي تبدو اليوميات "جنساً أدنى في الكتابة الأدبية"، واستشهد صدوق نور الدين "بأن التلقي الأدبي العربي لم يولِ كبيرَ أهمية لـ'مذكرات طه حسين' (صدرت عن دار الآداب)، قياساً ببقية آثاره الأدبية والفكرية الثقافية"

لن أتوقف طويلاً أمام يوميات محمد شكري مع الكاتب الفرنسي جان جينيه، فهي "سيرة ذات ومدينة"، ذات شكري وجينيه، وما بينهما من تشابه، في فضاء مدينة يطل منها المغرب على أوروبا. وأصل إلى "يوميات سرير الموت" لمحمد خير الدين (1942 ـ 1995). يكتب عنه المؤلف مرثية، آسفاً على أن تراثه "شبه مجهول"، لكاتب عاش بعيداً عن بلاده، بسبب "الموقف السياسي من النظام"، وكتب بالفرنسية أعمالاً لم تترجم، على الرغم من التزامه بقضايا وطنه.

عبد اللطيف اللعبي لم يختبر هذا المنفى اللغوي، لإجادته اللغتين، وعندما تمت الإجادة أطلق ما يشبه الزفرة: "أصبحت أخيراً أستعمل ساقيّ الاثنين لكي أسير". وفي يومياته "شاعر يمرّ" يطرح أسئلة حول الكتابة، وعلاقة الإبداع باللغة، فإذا كان يعيش في فرنسا، ويكتب الفرنسية، فكيف "تتأتى مواجهة الظاهرة الاستعمارية بلغة هي أصلاً لغة المحتل".

إنه كاتب يعي المأزق، ويرى تذبذب رؤية مواطنيه ورؤية الغرب لأعماله: "كم من العقبات على طريق شاعر عربي يعيش خارج بلده ويكتب بلغة مستعارة. ويعمل على أن تترجم أعماله إلى العربية، ولا يندرج إبداعه، لكي تكتمل غرابة الأمر، ضمن أي من التقاليد، ولا في أي تيار للحداثة الأدبية شرقية كانت أم غربية".

لعل اللغة، كأداة لا غاية، بريئة من هذه الهواجس. كتب مالك حداد وغيره بالفرنسية أعمالاً لا يمكن القول إلا أنها عربية. لم يكن في ذلك الاختيار رفاهية. اضطروا إلى استعمال الفرنسية، غنيمة الحرب، فقرأهم الفرنسيون والعرب. كانت الفرنسية سخية على مالك الذي استرد وطنه، ولم تسعفه اللغة العربية بالكتابة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image