لم يعد لبنان ذلك الوجه الصيفي الباسم في عيون زوّاره. استحال اليوم مكسوراً، يحمل ثقل سؤال أهله: "ماذا سنفعل؟". يعاني لبنان اليوم من أسوأ أزمة اقتصادية تعصف به، وتدقّ البطالة فيه ناقوس الخطر، إذ بدأت تشكل أكبر مخاوف كثيرين من سكانه، وخصوصاً فئة الشباب والخريجين الجدد، وأصبح شح فرص العمل وارتفاع الأسعار الهمّ الشاغل للناس كلهم والثقل الذي "يهدّ حيل" الجميع.
على مدى عشر سنوات، كان أهالي حي المحطة في منطقة الأشرفية في بيروت، يراقبون جوسلين ه.، ونشاطها. اعتادت قطط الحي أن تجتمع عند باب منزل السيدة اللبنانية الأربعينية في الخامسة والنصف صباحاً. لم تتأخر جوسلين عن إطعامها يوماً، كل صباح ومساء من دون ملل، واستأجرت شقةً بجانب منزلها وخصصتها كمأوى للحيوانات المريضة والمشردة.
اضطرت جوسلين إلى الاستغناء عن المنزل الذي استأجرته، وتخفيف نشاطها بعد أن خسرت عملها مسؤولة موارد في مؤسسة محلية، حين قررت المؤسسة الاستغناء عن عدد من الموظفين أو تخفيض دخلهم بسبب الأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على صرف الرواتب.
تدقّ البطالة في لبنان ناقوس الخطر، إذ بدأت تشكل أكبر مخاوف كثيرين من سكانه، وخصوصاً فئة الشباب.
لا تزال قطط الحي تنتظر جوسلين التي قررت السفر إلى كندا حيث أهلها. تقول لرصيف22: "لا أعرف كيف سأتركهم. أتمنى أن يأتي شخص ليهتم بهم من بعدي. أشعر بأنني أرتكب جرماً بسفري، ولكن لم أعد أستطيع مواصلة العيش هنا".
أعمال تحتضر
كان عبد الله (29 عاماً)، يعمل محاسباً في أحد مقاهي بيروت، لكن مرتبه لم يعد يكفي لسد إيجار منزله، فترك العمل. يقول الشاب السوري لرصيف22: "بحثت في الشهرين الأولَين عن عمل جديد ثم يئست، فالأمور تسوء يوماً بعد يوم. أعتمد بشكل أساسي على ما يصلني من أخي الذي يقطن في الخارج، وأحياناً أضطر إلى الاستدانة".
يجلس عبد لله مع صديقته نور وهبة، مستغرقَين في التفكير في المستقبل ووضعهما الحالي. الشابة اللبنانية العشرينية كانت تعمل في مقهى ومطعم في شارع الحمرا في بيروت، واليوم تحاول بشتى الطرق الحصول على عمل جديد بدخل يستطيع أن يؤمّن حاجياتها. تقول: "لا يخلو الأمر من مناصب شاغرة لكن المردود غير عادل، وزاد الأمر سوءاً رفع أقساط الجامعة اليسوعية حيث أدرس، إذ أضيف إلى الأقساط مبلغ 500 دولار لدعم الجامعة، وعلينا دفعها بالدولار وليس بالليرة اللبنانية. أفكر في توقيف تسجيلي حتى أؤمّن فرصة عمل مستقرةً أو سفراً إلى الخارج".
ولا تشكل الرواتب التي يتقاضاها عاملو المقاهي والمطاعم نصف الحاجة الشهرية للفرد، إذ لا يتجاوز الراتب الشهري 3 ملايين ليرة لبنانية، وهي تعادل قرابة المئة دولار فقط.
أصبحت عاطلاً عن العمل بصفة رسمية، مع شهادة جامعية في الكيمياء. عدت لأعمل برفقة أمي كي لا أشعر بالفراغ. قدّمت للحصول على تأشيرة للهجرة إلى كندا، لا أعرف إن كنت أقدر على الاستمرار في هذه الخطوة وترك والديّ المسنين، ولكني أشعر بأنني عالة عليهما هنا
في بيروت أيضاً، تعمل مروة ب. (47 عاماً)، في مجال الخياطة، وهي أم معيلة لثلاثة أبناء، وقد فقدت محلها في سوريا ولجأت إلى لبنان عام 2014.
تتحدث مروة لرصيف22، عن تدهور عملها: "منذ سنتين إلى اليوم، اختلف وضعي بشكل لا أستطيع وصفه. عندما أنظر إلى حالي قبل سنتين أشعر بالصدمة. كنت أعمل ست أو سبع ساعات يومياً، وكان المردود يكفيني أنا وأبنائي. اليوم أعمل بشكل متقطع بسبب أزمة الكهرباء، والخمسة آلاف ليرة التي كنت أتقاضاها أصبحت اليوم عشرين ألفاً وهي غير عادلة، فهي تكفي ثمن علبة سجائر أدخّنها وأنا أنتظر الكهرباء".
مشغل مروة للخياطة في بيروت - خاص رصيف22
بجانب مشغل مروة، كان يقع محل جان بيار سركيس، حيث كان يبيع الملابس المستوردة من تركيا. عاش جان بيار طوال حياته في هذه الحارة البيروتية الهادئة، واليوم أغلق محله الذي أصبح يخسر نقوداً بدلاً من كسبها، وقرر أن يساعد والديه في محل الخضار الذي تديره أمه.
يقول الشاب العشريني لرصيف22: "أصبحت عاطلاً عن العمل بصفة رسمية، مع شهادة جامعية في الكيمياء. عدت لأعمل برفقة أمي كي لا أشعر بالفراغ. قدّمت للحصول على تأشيرة للسفر والهجرة إلى كندا، لا أعرف إن كنت أقدر على الاستمرار في هذه الخطوة وترك والديّ المسنين وحدهما، ولكني أشعر بأنني عالة عليهما هنا".
"الفعالة" والعمل اليومي
يعمل ربيع ب. (30 عاماً)، في مهنة تلبيس الحجر، وهو خبير في هذه المهنة بعد أن خسر فرصته بإكمال دراسة الإعلام في سوريا، واضطر إلى احتراف مهنة ليكسب لقمة عيشه في لبنان الذي لجأ إليه عام 2014.
أفكر في توقيف تسجيلي في الجامعة حتى أؤمّن فرصة عمل مستقرةً أو سفراً إلى الخارج.
يُعدّ العمل في ورشات تلبيس الحجر ومعامل الباطون وغيرهما، من المهن الشاقة للغاية، لكنها الأعمال الوحيدة المتوفرة تقريباً للشبان من قاطني منطقة البقاع، سواء كانوا من اللاجئين أو من اللبنانيين على حد سواء، وتُسمى هذه الأعمال "الفعالة"، واليوم أصبح مردودها لا يكفي ثمن لقمة الطعام.
يتحدث ربيع إلى رصيف22، عن العمل بالفعالة، بقوله: "كنا نتقاضى قبل ارتفاع سعر الصرف 50 ألف ليرة لبنانية مقابل يوم من العمل، وكانت تعادل 30 دولاراً، اليوم لا تتجاوز قيمتها 4 دولارات، ولكنها الفرصة الوحيدة أمامنا نحن الشباب. إما أن نقتنصها أو نصبح عاطلين".
ولا تقتصر تحديات هذا النوع من العمل على صعوبته وقلة الأجر، لكن اللاجئين بشكل خاص يتعرّضون لحالات وقرارات تحمل في طياتها انتهاكات إنسانيةً بحقهم، ومنها ما يحدد أجور عملهم بمبالغ زهيدة للغاية، أو يحدّ من قدرتهم على التحرك ضمن المناطق التي يعيشون فيها، ما يجعل فرص حصولهم على عمل لائق يكفيهم لسد لقمتهم، أمراً تزداد صعوبته في بلد اللجوء، عاماً بعد آخر.
على الطريق
يجتمع سائقو خدمات التوصيل "الدليفري" التابعون لشركة "توترز" في مناطق عدة من بيروت، مثل الداون تاون، أو بالقرب من مسرح المدينة في الحمرا. ينتظرون أن يأتيهم إشعار على هواتفهم المحمولة ليهموا بالانطلاق لتوصيل طلبية من أحد المطاعم إلى زبون ما.
غالباً لا يشكل ما يتقاضاه هؤلاء السائقون خمسة في المئة من مجمل سعر الطلبية، ويعتمد أغلبهم على "إكراميات" الزبائن التي بدأت تصبح نادرةً. وإن كان السائق محظوظاً وحصل على 20 في المئة من سعر طلبية ثمنها 100 ألف ليرة لبنانية مثلاً، فهو أقل من دولار واحد.
كنا نتقاضى قبل ارتفاع سعر الصرف 50 ألف ليرة لبنانية مقابل يوم من العمل، وكانت تعادل 30 دولاراً، اليوم لا تتجاوز قيمتها 4 دولارات، ولكنها الفرصة الوحيدة أمامنا نحن الشباب. إما أن نقتنصها أو نصبح عاطلين
أحمد ج. (23 سنةً)، وهو شاب سوري يتحدر من ريف حلب، وصل إلى لبنان وهو لا يزال طفلاً، وقطن مع أهله في مخيمات البقاع، يعمل اليوم في بيروت سائقاً مع "توترز". لا يكترث أحمد لعوامل الطقس، بالنسبة له وضعه أفضل من وضع أهله في البقاع، وهو يحاول مساعدتهم قدر استطاعته، وجزء كبير منهم عاطل عن العمل، ولكن جل ما يخشاه الحوادث كما يقول لرصيف22: "أكثر ما يخيفني تعطّل الدراجة، أو توقيفي من قبل دورية شرطة وسؤالي عن أوراقها، فأنا كأغلب العمال لا أملك أوراقاً رسميةً لها، وإن تعطلت أو تعرضت لحادث سير سأتكفل بإصلاحها، إذ لا تغطي الشركة أي ضرر خارجي".
محاولات في وجه كارثة
مع تضاعف نسبة البطالة في لبنان، نتيجة الانهيار الاقتصادي المستمر منذ عام 2019، وبلوغها قرابة ثلاثين في المئة في كانون الثاني/ يناير الفائت، تسعى منظمات وجمعيات محلية ودولية لإعداد خطط وبرامج لمكافحة هذه الظاهرة، سواء بين اللبنانيين أنفسهم، أو بين صفوف اللاجئين السوريين، ويبلغ عددهم قرابة تسعمئة ألف شخص، أي ربع السكان في البلد الصغير، وفق إحصائيات أممية، وترتفع نسبة البطالة بين صفوفهم أكثر بكثير.
تحاول بعض المؤسسات في لبنان خلق مساحة للهرب من البطالة وتمكين الشباب مهنياً.
منذ مطلع العام الحالي، بدأ المجلس الدنماركي في لبنان بتنفيذ برامج تدريب مهني للشباب في البقاع والذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 عاماً، تهدف إلى تمكينهم من مهن حرفية، مثل تركيب الطاقة الشمسية، ويعلن المجلس عن هذه البرامج عبر صفحاته على مواقع التواصل.
وبشكل مشابه، تقيم منظمة Multi Aid Programs، بشكل دوري، ورشات تدريب مهني، وتخصص بعضها للسيدات اللاجئات مثل الكروشيه وصناعة الدمى، وكذلك مؤسسة "إنترسوس"، ببرامجها التدريبة المهنية الخاصة، ومنها ما قد بدأ يلبي احتياجات الوضع الحالي، كتركيب الطاقة الشمسية وأساسيات الصحافة، وأيضاً مؤسسة "أنيرا"، التي تقدم تدريبات مهنيةً تُختم بتدريب عملي مدفوع الأجر وفرص للتوظيف، وتشمل برامجها اختصاصات تلبّي حاجة سوق العمل، كمجال الطعام والشراب أو الزراعة وغيرها.
أيضاً، تعمل مؤسسة "تيكفيوجز Techfugees"، التي تهدف إلى تمكين مجتمع اللاجئين عن طريق التكنولوجيا، في مناطق عدة في لبنان، وخصصت برامج تدريبيةً مكثفةً منذ العام الفائت، موجهةً إلى فئة الشباب، ضمن مشروع "ديجيتال كوريدور".
تتحدث مسؤولة هذا المشروع، هبة أبو هيكل، إلى رصيف22، عنه شارحةً: "المشروع موجه بشكل أساسي إلى اللاجئين من أي جنسية كانت. عملنا مع 30 متدرباً بين بيروت وطرابلس والبقاع، وكانت الفكرة الأساسية تأمين فرص عمل عن بعد للأشخاص حتى يتمكنوا من تجاوز إشكاليات يعاني منها اللاجئون، كصعوبات الوصول إلى عمل بعد التخرج، والعنصرية التي قد يتعرضون لها".
من الدورات التي تقيمها "تكفيوجيز" - المصدر: مواقع التواصل
ووفق حديث أبو هيكل، يساعد العمل عن بعد على خلق مجالات واسعة، وتضيف: "نحن نركز على أساسيات العمل، واستطعنا تأمين فرص تدريب مدفوع للمتدربين، وإلى الآن التجربة ناجحة جداً، إذ يوجد احتمال عالٍ للمتدربين للعثور على فرص عمل بعد التدريب". وتعلن "تيكيفوجز"، عن الدورات عبر صفحاتها على مواقع التواصل.
مساحة أخرى توفرها مؤسسة "لي إكسبيرينس"، والتي تدربت معها هند الخالد وهي سورية عشرينية، ضمن برنامج للحصول على تمويل مهني لحرفة، ويتضمن تدريبات نظريةً وعمليةً على التسويق وإدارة المشاريع. وقد نجح مشروع هند لتصنيع الطحينة في المنزل، وحصلت على التمويل وهي الآن في طور الإنتاج.
تتحدث الشابة إلى رصيف22، عن التجربة: "استفدت جداً على الصعيد العملي، ولكن لم تخلُ التجربة من إشكاليات، مثل عدم العدل في نسب تمويل المشاريع بين اللاجئين وبين اللبنانيين، حتى وإن كانت لها التكاليف نفسها، وما زلت أواجه أزمة الكهرباء التي تقف في وجه الإنتاج".
من تدريبات مؤسسة "لي إكسبيرينس" ضمن حاضنة الأعمال الخاصة بها - المصدر: مواقع التواصل
مساحة الهرب من البطالة التي تحاول المؤسسات خلقها، يقف في وجهها الوضع المتدهور في لبنان، وتحتاج إلى التوسع والاستمرار لضمان تأمين فرص عمل حقيقية ومستدامة.
يقول ربيع في نهاية حديثه: "حصلت على شهادة نجارة، وشاركت في أكثر من دورة تدريبية كانت مفيدةً على الصعيد المهني، إلا أنه من الصعب جداً، إن لم يكن من المستحيل، تأسيس عمل خاص بي في هذا المجال، فالحاجة ملحة وعاجلة، لذا اتجهت نحو الاستمرار في العمل في الحجر، عامل فعالة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...