مطلع عام 2011، وَصَلت ساركاتلو، ابنة الـ15 عاماً إلى بيروت، قادمةً من مسقط رأسها في جنوب إثيوبيا، لزيارة أختها الكبرى التي تعمل في الخدمة المنزلية لدى عائلة لبنانية، وكانت متلهفةً لرؤيتها بعد فراقٍ طويل.
"انبهرت بأضواء بيروت اللامعة، وثقافتها المنفتحة الأقرب إلى الثقافة الغربية، وكان كل شيء يسير على نحو ممتع في البداية"، تقول ساركاتلو لرصيف22. لكن الأمور لم تستمر على هذا النحو لفترةٍ طويلة. بعد مرور أيامٍ قليلة، "جاءت أختي الكبرى مع رجل خمسيني، واصطحباني إلى مكتب توظيف، أو ما يُعرف اصطلاحاً بمكتب استقدام العاملات في الخدمة المنزلية". وتضيف: "قمتُ مكرهةً بالتوقيع على عقدٍ مكتوب بلغة لم أفهمها، ولا أعرف عنها أي شيء (اللغة العربية)".
تصف ما شعرت به يومها، بالخيبة الكبيرة: "في تلك اللحظة تحديداً، انهار كل شيء. انقلبت البهجة إلى صدمةٍ، وانقلب شعور المتعة إلى جحيم". من المكتب مباشرةً "اقتادني الرجل الخمسيني إلى بيته، لأكتشف أن عائلتي لم ترسلني لزيارة أختي، بل لكي أعمل لدى ذلك الرجل نفسه، والذي صار منذ تلك اللحظة يملك أمري، بكل ما للكلمة من معنى".
"كيف لا يكون مالكاً أمري وهو الكفيل؟"، تتساءل هي التي تعرّفت بعد سنوات من عملها على تفاصيل نظام الكفالة الذي يحكم مصيرها في لبنان.
ساركاتلو تيشوما (26 عاماً)
نظام الكفالة... استعباد منظَّم
يوضح المحامي هادي نخول، وهو يتابع قضايا العاملات المهاجرات أمام القضاء، بالتعاون مع منظمات حقوقية، أن العمّال الأجانب يخضعون في لبنان، لجهة دخولهم وخروجهم وعملهم، لقانون تنظيم عمل الأجانب (المرسوم رقم 16571 الصادر في 18 أيلول/ سبتمبر 1964)، بالإضافة إلى أحكام قانون تنظيم الدخول إلى لبنان، والإقامة فيه، والخروج منه (الصادر بتاريخ 10 تموز/ يوليو 1962)، وتعديلاته، وهي نصوص تحدد أيضاً الإدارات المعنية بمتابعة شؤون هؤلاء الأجانب، وأبرزها المديرية العامة للأمن العام.
ويصف "نظام الكفالة" الذي ينظّم دخول العمال الأجانب وإقامتهم، وخروجهم، بـ"نظام استعباد بكل ما للكلمة من معنى، لا سيما لجهة العاملات في الخدمة المنزلية، وهنّ يشكّلن الفئة الأكبر".
ويضيف لرصيف22، أن "نظام الكفالة يشترط لدخول العاملات في الخدمة المنزلية، تكفّل العاملة من قبل صاحب العمل اللبناني". والكفالة في هذه الحالة، تثبَّت "بتسجيل اسم الكفيل/ ة في تأشيرة الدخول التي تحصل عليها العاملة في الخدمة المنزلية".
بهذا المعنى، فإن العاملة لا تعود قادرةً على الإقامة بصورة شرعية في لبنان، من دون ارتباطها بكفيل، ويعود للأخير أن يتنازل عن كفالته لشخص آخر، أو أن يمتنع عن ذلك. يعلّق نخول: "هكذا يصبح صاحب العمل مسؤولاً عن وجود العاملة في البلد، ولا يُسمح لها بمغادرة البلد، والعودة إليه، من دون موافقة كفيلها".
هذه الإجراءات أسست لممارسات طبيعتها عنصرية، أبرزها ما يشير إليه نخول لجهة قيام الكفيل "بحجز جواز سفر العاملة طوال فترة إقامتها".
بدأت ساركاتلو بالرضوخ للأمر الواقع، بعد أيام من انتقالها إلى منزل الكفيل. "أساساً، لم يكن أمامي خيارٌ آخر"، تقول. في المرحلة الأولى، كانت تحاول فهم آلية العمل وأوقاته: "واجهتُ صعوباتٍ هائلةً. لم أكن أعلم متى يبدأ عملي، ومتى ينتهي، ولم أكن أفهم اللغة العربية، وكان أفراد العائلة يصرخون في وجهي عندما يطلبون منّي تنفيذ عمل ما، ولا أفهم من المرة الأولى".
على الرغم من العقبات كلها، "كان عملي يشمل كل شيء في المنزل، من إعداد الطعام، وغسل الصحون، وحضانة الأولاد، وتلبية احتياجات العائلة الشخصية، داخل المنزل وخارجه، كتجهيز حقائب الأولاد المدرسية، وإحضار حاجيات المنزل من البقالة، ومحال الخضار".
تستعيد الشابة الأيام القليلة السابقة على أخذها إلى المكتب الذي وقّعت فيه عقدها: "لم أكن على دراية بكل ما سأواجه وقتها. كل ما كنت أفكر فيه هو وعد أختي لي بالأوقات الممتعة التي سوف أقضيها خلال زيارتي لها".
مرّت الأيام، وبدأت ساركاتلو تكتشف كيف خُدِعَت. تقول: "زوّرت عائلتي تاريخ ميلادي عبر إضافة ثلاثة أعوام على أعوامي الـ15، لترسلني إلى لبنان، ما سهّل عملية السفر والانخراط في العمل المنزلي بشكل قانوني". جرى ذلك بالتنسيق مع الأخت الكبرى، وبالتنسيق مع الأسرة التي تعمل لديها، والتي كانت تبحث عن عاملة جديدة في الخدمة المنزلية، لتعمل في منزل ابنتها.
بعدما عرفت ساركاتلو كيف دُبّر أمر تشغيلها في الخدمة المنزلية في لبنان، قررت ألا تستسلم للمصير الذي رُسم لها: "كان من المفترض أن أرسل راتبي إلى عائلتي. هذا ما كانوا يسعون إليه، لكنني بدلاً من هذا، قررت أن أحرمهم من إرسال الأموال لهم، واحتفظت بمدّخراتي لدى صاحبة المنزل الذي عملت فيه لمدة عامين ونصف العام".
"تتصاعد حدّة العنصرية حسب لون بشرة العامل/ ة، فكلّما كانت بشرته داكنةً أكثر كلّما واجه المزيد من الصعوبات"
يظهر الضيق على وجه ساركاتلو، وهي تتذكر مشقة العمل، وساعاته الطويلة، خلال تلك الفترة. "الأمر لم يتوقف عند المشقّة، كان ‘بابا’ (زوج ابنة كفيل شقيقة ساركاتلو) يتحرّش بي جنسياً عندما تكون زوجته خارج المنزل، وأولاده في المدرسة". في كل مرّة، "كنتُ أحاول صدّه بشتى الوسائل، لكنه لم يتوقف عن مضايقتي".
تستكمل ساركاتلو عملية استرجاع ذكريات لا تزال توجعها: "هناك أيام كنت أقضيها حبيسة غرفتي، إذ كانت صاحبة العمل تضربني وتحبسني في الغرفة، في كل مرّة أحاول تمضية بعض الوقت خارج المنزل، أو أذهب لزيارة أختي".
مع تفاقم الانتهاكات والعنف بحق ساركاتلو، "بدأت تراودني فكرة الهرب، لكنني كنت أتردد، كوني لا أعرف أحداً خارج منزلهم، لكنني وبعد أشهر من التفكير في الأمر، قررت الهرب منهم".
تروي الشابة تفاصيل تركها لبيت كفيلها: "لا أذكر في أي شهر من السنة كان وقتها تحديداً، لكنني أذكر أن ذلك كان في نهاية عام 2013، وكان يوم أحد. اخترت هذا اليوم لأن صاحبة المنزل تجتمع فيه مع أهلها على مأدبة غداء عائلي".
استغلّت ساركاتلو انشغال صاحبة العمل بعائلتها، و"دخلتُ إلى غرفتها (غرفة صاحبة العمل)، أخذتُ من خزانتها محفظتي التي كانت تحتوي على جواز سفري، وأوراقي الثبوتية، بالإضافة إلى صورةٍ لوالدي، ثم عدت إلى المطبخ، وحملت كيس النفايات، وتظاهرت بأنّي ذاهبة لرميه في الحاوية. وبالفعل، هذا ما قمت به، رميت النفايات، وأكملت سيري بعيداً عن منزلهم، ولم أعد أبداً".
"سرتُ لساعات في الشوارع، من دون وجهة محددة، إذ إنني لم أكن أعرف أحداً في لبنان سوى أختي التي سلّمتني إلى تلك العائلة". تصف الشابة التي لم تكن قد أتمّت الـ18 من العمر بعد، ما شعرت به يومها: "كنت خائفةً جداً، ولم أكن أعلم ما الذي سيحصل لي. وبالصدفة، بينما كنت أسير، رأيت أربع فتيات إثيوبيات، اقتربت منهنّ، وألقيت التحية عليهن، فأجابتني إحداهن بمودة، فشرحت لها الظروف التي أمرّ بها، وقررن مساعدتي".
تكمل الشابة: "ذهبتُ مع الفتيات إلى منطقة برج حمود، حيث يعشن، وسكنت معهن، وبقيت هناك إلى أن تعرّفت إلى فتاة لبنانية تملك صالون تجميل في الحي، وبدأت أذهب لأساعدها من دون أن أتقاضى أي أجر لقاء عملي في الصالون. كنت أريد التخفيف عن نفسي فحسب".
اليوم، تشغل ساركاتلو وظيفة سكرتيرة مساعدة في إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية. تفضّل التحفّظ عن ذكر اسمها، كي لا تدخل في روتين أخذ تصريح للحديث، ومهمتها القيام بتنسيق مواعيد المستفيدين والمستفيدات من خدمات المنظمة.
قبل تولّيها وظيفتها الحالية، سنحت لها الفرصة للتطوع في المنظمة نفسها. "تطوّعتُ في أحد الأيام للمساعدة في مجال الترجمة، وكانت مهمتي المساعدة في الترجمة، لكوني أجيد التحدث باللغة الإنكليزية بطلاقةٍ، وكان ذلك لفترة محدودة. لاحقاً، قامت المنظمة بالإعلان عن وظيفة سكرتيرة مساعدة، فتقدّمت للعمل فيها، وقُبلت"، تضيف ساركاتلو.
مواقف عنصرية وتمييز في العنف
"أواجه مواقف عنصرية في كل مكان. أذكر مرة أنني دخلت إلى مطعم مع مجموعة من أصدقائي اللبنانيين، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أنني معهم، كأي زبون يأتي لتناول وجبة في المطعم، إلا أن أحد العمال اقترب منّي عندما هممت بالخروج، وسألني إنْ كنتُ أبحث عن عمل في التنظيفات".
بغض النظر عن نوع العمل الذي تتولاه الشابة ذات البشرة السمراء، تواجه نوعاً من العنصرية المتعلق بشكل أساسي بربط الشابات الإثيوبيات نمطياً بالعمل المنزلي. تقول ساركاتلو إن "العنصرية بالنسبة إلى العمال المهاجرين مسلسل يومي، تبدأ مشاهده منذ أن يخرج الشخص من بيته إلى أن يعود إليه". وتضيف: "حين أخرج مع صديقتي اللبنانية لنتنزه في أيام العطل، على سبيل المثال، وعندما أوقف تاكسي للعودة إلى بيتي، أول سؤال يسأله السائق: ‘وين رح تنزلي؟ في برج حمود؟’، فيما أنا أسكن حالياً في حي الجعيتاوي في منطقة الأشرفية في بيروت". تكمن العنصرية في هذا السؤال، في حكم السائق على مكان سكن ساركاتلو، انطلاقاً من جنسيتها، أو شكلها. تقول: "أنا شخصياً لا تضايقني فكرة السكن في حي شعبي، لكن العنصرية تكمن في طرح هذا السؤال مباشرةً، وقبل أن أخبره بوجهتي. أليست هذه نظرة نمطية؟".
"هناك نمط واضح من العنصرية الممنهجة التي تمارَس على العمال والعاملات الأجانب تمكنّا من رصده خلال التعامل مع عشرات حالات العنف والتمييز التي يتعرض لها الكثيرون من العمال المهاجرين"، تقول فرح بابا، مسؤولة الإعلام والمناصرة لدى مركز العاملات الأجنبيات MCC التابع لـ"حركة مناهضة العنصرية" ARM، وهي حركة أنشأتها جهات شبابية ناشطة في لبنان بالتعاون مع عمال وعاملات أجانب.
وتضيف: "تتصاعد حدة العنصرية بحسب لون بشرة العامل/ ة، فكلّما كانت بشرته داكنة أكثر كلّما واجه المزيد من الصعوبات".
"العنصرية بالنسبة إلى العمال المهاجرين مسلسل يومي، تبدأ مشاهده منذ أن يخرج الشخص من بيته إلى أن يعود إليه"
"تبعاً لشهادات متكررة وثّقناها"، تتابع، "يظهر أن أصحاب العمل يعمدون إلى تجزئة المهام المنزلية حسب جنسية العاملة". على سبيل المثال، "إذا كانت العاملة قادمةً من دول مثل نيبال، أو الفلبين، يمكنها القيام بمهام مثل الطبخ للعائلة ورعاية الأطفال، أما إذا كانت من دول إفريقية ففي كثير من الحالات لا يُسمح لها بالاحتكاك بالأطفال، أو بالطبخ للعائلة، وكل هذا ليس لأي سبب سوى لون البشرة".
وحسب ما رصده المركز، "لا يقف الأمر عند تجزئة العمل حسب العرق ولون البشرة، بل حتى حدة العنف تجاه العاملة المنزلية تزداد وتنقص، بناءً على ذلك الأساس"، تقول بابا.
"نُعامَل كآلات لا كبشر"
هيلين (32 عاماً)، اضطرت إلى ترك بلدها إثيوبيا لتسافر إلى لبنان، عام 2011، للعمل من أجل إعالة أسرتها. تروي لرصيف22، أنها لم تشعر يوماً بأنها تعامَل من قبل أصحاب العمل وعائلاتهم على أنها "إنسان من لحم ودم ومشاعر". "دائماً، يعاملونني معاملة الآلة التي لا تتعب ولا ينبغي لها أن تعبّر عن شعورها بالتعب"، تقول.
ولو تبادر إلى ذهن هيلين التعبير عن تعبها، ولم تقم بعملها كالمعتاد، "ببساطة نُطرَد، ونُستبدل بأشخاصٍ آخرين".
عن هذه المشكلة، يوضح نخول أن "قانون العمل اللبناني يستثني العمل في الخدمة المنزلية من أحكامه، من هنا لا تنطبق على العاملات الأجنبيات الضمانات التي يمنحها هذا القانون للعمال، مثل الحد الأدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل، وساعات الراحة، والإجازة السنوية والتغطية الصحية".
بسبب هذا الاستثناء، يتابع، "تخضع العاملات في مجال العمل المنزلي إلى العديد من النصوص بدءاً من قانون تنظيم عمل الأجانب، مروراً بقرارات تصدر عن وزارة العمل وعن المديرية العامة للأمن العام، وصولاً إلى عقد العمل الموحّد".
عمل بلا أجر
تروي هيلين كيف حُرمت من أجرها عن الأعمال التي تقوم بها مرات عدة: "على مدار السنوات التي عملت فيها في مجال العمل المنزلي في لبنان، تعرّضتُ للحرمان من الأجر أكثر من مرة. كذلك، شاهدت الأمر يحدث للكثيرات من صديقاتي ممن يعملن في المجال نفسه".
تضيف متحدثةً عنها، وعن صديقاتها: "عندما نطالب برواتبنا، لا نأخذ إلا وعوداً، اليوم، وغداً، وبعد غد. وتلك الوعود قد تمتد إلى سنة وأكثر. وعندما نذهب إلى المنظمات الحقوقية، أو نلجأ إلى القانون، يطالبوننا بتقديم أدلة في الوقت الذي لا نملك فيه الحق في جعل أصحاب العمل يوقّعون على أي اتفاقية تلزمهم بدفع أجورنا".
وتتابع: "مسألة تقديم الأدلة أيضاً تقف عائقاً أمام إثبات حقنا عندما نتعرض للتعنيف اللفظي والجسدي". تشعر هيلين وكأن القانون يقول لها إنه "إذا لم تكن هناك آثار تعذيب جسدي، عندها لا يكون ما تعرّضنا له عنفاً، ذلك أن العاملة التي تخبر عن تعرّضها للعنف تُطالَب بتقديم أدلة ملموسة، مما يضعها في موقف ضعيف قانونياً لعدم توفر تلك الأدلة في أغلب الحالات".
اليوم، تعمل هيلين بدورها في إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية، الأمر الذي سهّل إمكانية مشاركتها شهادتها مع رصيف22، خلافاً لصديقاتها وأبناء جنسيتها اللواتي لا زلن يعملن في الخدمة المنزلية تحت رحمة نظام الكفالة.
يوضح نخول أن "الإقامة القانونية للعاملة تكون مرتبطةً بعلاقة العمل، بمعنى أنّه في حال انتهاء هذه العلاقة، تصبح العاملة في موضع غير نظامي أياً تكن أسباب انتهائها". ويضيف أن "إنهاء الكفيل لكفالته تجاه العاملة يجعل إقامتها غير شرعية، حتى ولو فعل ذلك إثر مطالبتها بدفع أجرها، بعد امتناع صاحب العمل عن تسديده، أو إثر تقدّمها بشكوى نتيجة الاعتداء عليها جنسياً".
ففي حال قرر الكفيل إلغاء كفالته، ورَفَض نقلها إلى غيره، عندها، يوضح نخول، "لا يمكن تغيير الكفيل، بمعنى أنّه يستحيل تسوية وضع العاملة من دون موافقته، وغالباً ما يرفق الأمن العام قرار الترحيل الناشئ عن خلاف بين العاملة في الخدمة المنزلية والكفيل، بقرار آخر قوامه منع دخول العاملة إلى لبنان لفترة زمنية غالباً ما تكون ثلاث سنوات، بحيث يستحيل على العاملة الالتفاف على نظام الكفالة من خلال ترك لبنان من دون تسوية أوضاعها مع كفيلها الأول، والعودة مجدداً على اسم كفيل آخر جديد".
"الامتيازات الممنوحة لصاحب العمل تفسح المجال واسعاً أمامه للاستقواء، وفرض شروط استغلالية على العاملة المهاجرة قد تصل إلى العمل القسري، والاعتداء الجنسي، والاستعباد والرقّ، وينتهي الأمر بالعاملة إلى الرضوخ لهذه الشروط مهما كانت مذِلّةً"
يستعيد نخول وصفه لنظام الكفالة بـ"العبودية"، ويقول إن "الامتيازات الممنوحة لصاحب العمل تفسح المجال واسعاً أمامه للاستقواء، وفرض شروط استغلالية على العاملة المهاجرة قد تصل إلى العمل القسري، والاعتداء الجنسي، والاستعباد والرقّ، وينتهي الأمر بالعاملة إلى الرضوخ لهذه الشروط مهما كانت مذِلّةً وغير إنسانية".
ويضيف: "لا تستطيع العاملات في المنازل الاستقالة أو إنهاء عقود عملهن من دون الحصول أولاً على موافقة صاحب العمل الرسمية، إذ لا يمكن للعاملة فسخ عقدها كأي عامل آخر عندما تريد ذلك". لا بل إن إنهاء عقد العمل في هذه الحالة "لا يمكن أن يتم إلا على شكل تنازل رسمي من قبل صاحب العمل يوقَّع أمام كاتب العدل، ويجب التوقيع بالتزامن معه على تعهّد من قبل صاحب عمل آخر باستخدام العاملة المنزلية، وتحمل مسؤوليتها كاملة"، في ما يسمّى بمعاملة التنازل عن الكفالة.
يشرح نخوّل أن "عقد العمل الموحّد يحرم العاملة المنزلية من فسخ العقد إلا لأسباب ثلاثة حصراً، ألا وهي: عدم دفع الأجور لمدّة ثلاثة أشهر متتالية، والاعتداء البدني أو الجنسي المثبت بتقرير طبيب، والتوظيف للقيام بأعمال أخرى غير العمل المنزلي، من دون أخذ موافقتها".
ويخلص نخول إلى أن "الصعوبة تكمن في الأساس، في مدى صعوبة توثيق هذه الحالات وإثباتها في الظروف التي تعيش فيها العاملات".
الأزمة الاقتصادية زادت الطين بلّةً
تأثرت العاملات في العمل المنزلي بالأزمة الاقتصادية التي أصابت لبنان، وتستمر في التفاقم بصورة مضاعَفة. تقول هيلين إن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان منذ أكثر من عام، أثّرت بشكل مباشر على حياتها كعاملة أجنبية في لبنان. تضيف أنه "قبل الأزمة، عندما كان الدولار الواحد يعادل 1500 ليرة لبنانية، كان أجري والذي يبلغ 600 ألف ليرة لبنانية يعادل 400 دولار أمريكي، ويكفي لسد بعض احتياجاتي الشخصية، وكنت أقوم بإرسال جزء منه إلى عائلتي في إثيوبيا. أما الآن، فالحال تغيّر بعد أن بلغ سعر صرف الدولار أضعاف ما كان عليه قبل الأزمة، ما دفع الكثير من العائلات إما إلى خفض رواتب العاملات (بالدولار)، أو إلى التخلي عنهن عبر فسخ العقود، سواء بطريقة قانونية، أو من خلال اصطحابهن ورميهن في الشارع أمام سفارات بلادهن".
تروي هيلين: "هذا ما حصل بالفعل مع إحدى صديقاتي. واجه كفيلها صعوبةً في دفع راتبها لأشهر عدة، وعندما بدأت تلحّ في طلب مستحقاتها المادية منه، نقلها بسيارته، ورماها أمام السفارة الإثيوبية".
لم يكن أمام صديقة هيلين إلا أن "تبحث عن عمل ومأوى جديدين، لأنها خافت من أن تلجأ إلى الشرطة، فكفيلها سيدافع عن نفسه من خلال تلفيق تهمة سرقة لها، أو ما شابه، مثلما يحصل عادةً".
حسب إحصاء نشرته "الدولية للمعلومات"، وهي مؤسسة متخصصة في مجال الإحصاءات، بتاريخ 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أدّت الأزمة الاقتصادية-المالية التي يمر بها لبنان منذ نهاية عام 2019، إلى تراجع أعداد العمال الأجانب فيه بصورة كبيرة.
فبالمقارنة بين عامي 2019 و2020، انخفض عدد العمال والعاملات الأجانب الحائزين على إجازات عمل من 247،088 شخصاً، إلى 157،105.
وفيما سجّل عام 2019 وصول 43،825 عاملاً أجنبياً جديداً إلى لبنان، تراجع الرقم في العام التالي إلى 13،467، قبل أن يعود ويرتفع قليلاً في عام 2021 الذي شهدت الأشهر التسعة الأولى منه دخول 18،214 عاملاً جديداً إلى لبنان.
بالعودة إلى هيلين، هي لم تواجه مصير صديقتها، لكنها اضطرت إلى القبول براتب منخفض جداً بالمقارنة مع راتبها قبل الأزمة، خلال الفترة التي كانت لا تزال تمارس فيها العمل المنزلي، وهو ما لم يكن يكفيها لسداد حاجاتها، أو لتغطية حاجات عائلتها التي أتت أساساً لتتمكن من مساعدتها.
تغيّرت الأمور عندما تمكّنت هيلين من الانضمام إلى فريق عمل منظمة غير حكومية، فهي الآن تستطيع توفير متطلبات عيشها في لبنان، وإعالة عائلتها من جديد.
مشقّة هجرة الفقراء
وصل أحمد حنفي (35 عاماً)، قادماً من بلده الأم مصر، إلى بيروت، في نهاية عام 2005، بعد أن اضطر إلى ترك المدرسة لإعالة أسرته. دخل إلى لبنان بموجب فيزا سياحية استدان كلفتها وكلفة بطاقة السفر من صديق مصري كان هو الآخر يعيش ويعمل في بيروت.
خلال إقامته في لبنان، عمل أحمد في مهنٍ مختلفة، من بينها العمل في محطة وقود، كما عمل نادلاً في مقهى. كان يقوم بتقسيم مدّخراته إلى قسمين: واحد لتغطية مصاريفه المعيشية مثل إيجار السكن، وبدل طعام وثياب، وما شابه، والثاني يرسله إلى عائلته المكوّنة من والديه وإخوته في مصر.
يروي الشاب المصري لرصيف22، أنه بدأ يفكّر في الهجرة إلى لبنان، عندما تخطّى مرحلة الثانوية العامة. "كان عمري 19 عاماً، وبسبب ظروف عائلتي المعيشية الصعبة لم أستطع الالتحاق بالجامعة، وقررت السفر إلى لبنان". يكمل: "كان طموحي آنذاك أن أدّخر مبلغاً من المال أستطيع من خلاله أن أبدأ مشروعاً في مدينتي (القاهرة)، من شأنه أن يؤمّن لي ولعائلتي عيشةً كريمة ومستقبلاً مستقراً، وفعلاً بدأت أخطط للأمر".
يشرح نخول أنه "للإقامة والعمل في لبنان، يحتاج المواطن المصري أسوةً بأي عامل أجنبي آخر، إلى توفير إجازة عمل وكفيل لبناني سواء كان الكفيل فرداً، أو مؤسسة. لكن ما يميّز العامل المستقدَم من مصر، هي الكلفة المنخفضة لرسوم الإقامة وإجازة العمل". بالطبع يضاف إلى هذا التمييز، الاختلاف في نوع العمل الذي لا يلزم المصري بالإقامة في منزل كفيله، ولا يُخضعه لشروط عقد العمل الذي تخضع له العاملات المنزليات.
كان صديق أحمد في انتظاره عندما وصل إلى مطار بيروت الدولي. "من هناك استقلينا سيارة أجرة أوصلتنا إلى مكان سكنه في حي الأشرفية في بيروت. في الطريق، أخذ صديقي يشرح لي عن طبيعة الحياة والعمل في لبنان بالنسبة إلى المصريين، ويوجّه إليّ بعض النصائح حول ما يمكن أن يساعدني على تحسين وضعي في هذا البلد وما يمكن أن يجعلني أواجه مشكلات".
عندما وصلا إلى وجهتهما، دخلا إلى غرفة كان يتقاسم صديقه السكن فيها مع ثلاثة شبان مصريين. "قال لي سوف تسكن هنا معنا، ولن تدفع أجرة السكن إلى أن تجد وظيفة".
"بعد ثلاثة أسابيع من البحث، وبمساعدة أحد الشبان الذين يتشاركون معي وصديقي السكن، وجدت عملاً في أحد المقاهي في بيروت، ثم عملت بعدها بأشهر في محطة وقود. استمرّيت على تلك الحالة سنوات. تعرفت خلال تلك الفترة أكثر على أهالي الحي، وكانت علاقتي معهم إيجابيةً"، يقول أحمد، ويضيف: "عندما خسرت عملي في محطة الوقود، استطعت بمساعدة أحد الجيران أن أجد عملاً جديداً لدى صاحب مولّد كهرباء في حي الأشرفية، وكانت وظيفتي جابياً لفواتير الكهرباء من المشتركين من أهالي الحي".
على الرغم من علاقاته الإيجابية مع أبناء الحي، فإن الأمر "لا يخلو من مواقف وألفاظ عنصرية تصدر عن بعض الزبائن أو الجيران". يستعيد أحمد أحد الحوادث: "أذكر أنه في أثناء دوامي في المقهى، بدأ أحد الزبائن بالتنمّر على لهجتي المصرية بطريقة فظّة، وعندما حاولت الرد عليه بدأ يشتمني بألفاظ نابية قبل أن يغادر من دون أن يدفع ثمن فنجان القهوة الذي صنعته له".
يعلّق أحمد: "أجد نفسي محظوظاً بالمقارنة مع ما يواجهه العمال الأجانب من دول إفريقية أخرى، لا سيما العمال من ذوي البشرة الداكنة، أو الذين يتحدثون بلغات أخرى غير اللغة العربية".
يقول: "أولئك (يقصد العمال ذوي البشرة الداكنة) الله يكون في عونهم. الجميع يستغلونهم مادياً وجسدياً". ويضيف: "لكن على الجانب الآخر، يوجد أشخاص لبنانيون طيّبون ومتعاونون، ساعدوني كثيراً، سواء في مكان عملي، أو في الحي حيث أسكن".
عام 2019، عايش أحمد القلق الذي واجهه العمال المهاجرون الأجانب في لبنان، إثر إطلاق وزارة العمل "خطة مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية"، في 16 حزيران/ يونيو، والتي هدفت تبعاً للوزارة إلى "الحد من ارتفاع البطالة، وحماية اليد العاملة اللبنانية من المنافسة غير المشروعة".
أبرز ما انطوت عليه الخطة المذكورة، هو رفع قيمة إجازات العمل بصورة صادمة وصلت إلى حد زيادتها بأكثر من الضعف، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات لإقفال المحال التي تشغّل عمالاً غير حائزين على إقامات شرعية، وإجازات عمل.
عن هذه المرحلة يقول أحمد: "استمرّيت في المواظبة على إنجاز عملي في جباية فواتير اشتراك الكهرباء لصالح صاحب المولّد الذي كنت أعمل لديه آنذاك، ولم أصطدم بدوريات التفتيش، لكنني كنت أشاهد كيف يقوم العمال من الجالية السورية والمصرية بالتخفّي عند وصول دوريات التفتيش إلى المطاعم والمحال التجارية في الحي. لي أصدقاء يعملون في مطعم قاموا بتغيير لباسهم الرسمي المخصص لوظيفتهم، كتمويه لكي يتواروا بسهولة عن أعين الدرك عند وصولهم فجأة إلى المطعم، فيغادرون، أو يدّعون أنهم زبائن".
بقي أحمد "محظوظاً" حتى ضربت الأزمة الاقتصادية لبنان. "في السابق، كانت أسرتي في مصر تعتمد عليّ بشكل أساسي لتلبية احتياجاتها المعيشية، لكن بعد انهيار العملة اللبنانية، وبدء أرباب العمل بتقليص رواتب العمال، أنا شخصياً لم أعد قادراً على إرسال أي مبلغ إلى عائلتي، إذ إن راتبي تقلّص من 550 دولاراً أمريكياً في السابق، إلى 150 دولاراً حالياً. وهذا المبلغ ‘يا دوب’ يكفيني للأكل ولإيجار الغرفة التي أسكنها".
ويضيف: "هذه الحالة مرت على جميع مَن أعرفهم من المصريين، لا سيما العمال الذين يتوزعون على قطاعات العمل اليدوي، كمحطات الوقود، والزراعة، وأعمال التنظيفات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع