شهدت الدراما التونسية في العشرية الأخيرة، تغيّراً لافتاً على مستوى المواضيع التي يتم طرحها لتصبح أكثر عمقاً في محاكاة الواقع وأكثر جرأةً في التطرق إلى قضايا مسكوت عنها وكان ممنوعاً الخوض فيها أو الإشارة إليها قبل الثورة.
وتتناول الدراما التونسية التي تشهد انتعاشةً خلال شهر رمضان، قضايا تتعلق بالتحرش الجنسي والتهريب واجتياز الحدود خلسةً والإرهاب والتدين.
نقاط استفهام
يثير تناول مسألة التدين في الدراما التونسية العديد من نقاط الاستفهام، خاصةً أن جل الأعمال الدرامية تقدّم الشخصية المتدينة في أبشع الصور إذ تتسم بالنفاق والتطرف والسذاجة والكبت الجنسي وغيرها من الصفات السيئة في غياب تام لأي شخصية متدينة متوازنة.
يتواصل تسليط الضوء على مسألة التدين في "مسلسل براءة"، الذي يُعرَض على قناة تلفزيونية خاصة، وقد حقق نسب مشاهدة عالية، بتطرقه إلى موضوع الزواج العرفي والإرهاب والاغتصاب والعديد من القضايا الأخرى.
تدور أحداث المسلسل حول رجل ستيني ملتزم دينياً، تزوج "زواجاً عرفياً" من الخادمة التي لا تتجاوز الثمانية عشر عاماً من العمر، بعد أن أجاز له إمام ذلك بقوله: "ما ستفعله حلال محلل لكن كن حذراً لأنك ستخالف قانونهم، وأنت تعرف أن قانونهم ظالم. احمِ نفسك حتى بالتقية. لم يتركوا لنا حلاً آخر".
تُبيّن أحداث المسلسل أن بطل المسلسل "ونّاس"، الملتزم بالصلاة والتسبيح والذي يستحضر في كل موقف آيات من القرآن الكريم، حصل على رُخَص سيارات أجرة بطرق ملتوية ويقرض الناس بالربا، كما يبيّن تطور الأحداث أن تفكير "ونّاس"، وجل ممارساته، تثبت أنه ليس سوى شخص يتظاهر بالتدين.
عمامة زيتونية وفتاوى شيعية
ساهم استسهال تناول المسألة الدينية في الدراما التونسية من دون بحث وتدقيق، في ارتكاب العديد من الأخطاء التي يمكن أن ترسّخ صورةً مغلوطةً لدى المتلقي، وتخلط المفاهيم.
وقد ظهر شيخ بعمامة زيتونية يشرّع الزواج العرفي بما يتنافى مع منظور الأئمة الزيتونيين، كما تحدث عن "التقية" وهي من أصول الدين لدى الشيعة، ولا يعتمدها أهل السُّنة، وقد كان الشيخ في صدد استعمال السبحة، وهو ما يتعارض مع مبادئ التيار السلفي الذي يعدّ ذلك غير جائز ويطرح أكثر من تساؤل حول الفئة التي يمثّلها هذا الشيخ، في ظل هذا الخلط الكبير، وهل أن هذا الخلط ناجم عن قصور في البحث في المسائل الدينية قبل طرحها ومعالجتها؟ أم أنه سياق درامي لا يعكس الحقيقة ولا يُعتدّ به لفهم واقع التدين في تونس؟ كما يجدر التساؤل حول سبب الربط الرغبة في الزواج العرفي بالشخص المتدين؟
شيطنة المتدين التونسي وتقديم شيخ بعمامة زيتونية يقدم فتاوى شيعية كلها أمور تطرح أسئلة حول صورة المسلم المحافظ في الدراما التونسية
يرى الإعلامي والباحث في الحضارة والإسلاميات، غفران حسايني، أن طرح مسألة التدين في الدراما التونسية تثير أكثر من نقطة استفهام حول حقيقة الصورة التي يراد ترويجها، لأن المتتبع للمسلسلات التونسية حتى العشرية الأخيرة، يلاحظ أن المتدين إما يكون متطرفاً أو متشدداً دينياً، أو ساذجاً في طريقة فهمه، أو سطحياً في تفكيره، عادّاً أن هذه الصورة ليست حقيقيةً، وأن الشبان التونسيين "الملتزمين"، الذين يرتادون المساجد أذكياء ومثقفون ومن أصحاب الشهادات العليا، وبينهم أطباء ومهندسون ومنهم من تفوقوا حتى في حفظ القرآن وشاركوا في مسابقات عالمية.
لا تنتمي إلى "الإسلام التونسي"
أضاف الحسايني، في حديثه إلى رصيف22، أنه يراد من خلالها تكريس صورة خطأ عن المتدين. "في الإسلام والفقه مسألة العقود في مرتبة قبل إشهار الزواج، وفي تطور الفقه الإسلامي وثيقة عقد القران أساسية لصحة الزواج من عدمه، لأنه من خلالها يضمن حق المرأة والرجل والأبناء والأسرة والمجتمع، وهي الأبعاد الأربعة الأساسية. مسألة أهمية العقد كانت على جانب كبير من الأهمية، نتيجة تطور الفقه الإسلامي عبر قرون، ففي البداية لم يكن الزواج يُعقد ويُبرم في المحاكم، لأنه لم تكن هناك مؤسسات. لكن مع إيجاد المؤسسات في المجتمعات الإسلامية وبروز المحاكم كمؤسسات قضائية وظهور عدول الإشهاد كشرط أساسي في إبرام العقد ارتأى الفقهاء أنه من الضروري إبرام العقود حتى تعرف الأسر والأنساب وتُحدَّد المواريث، وهذا من مقاصد الشريعة الإسلامية. حسب الطاهر بن عاشور، فإن الإسلام يحفظ الأنساب وفي حال لم تعترف المحكمة بالزواج لأنه أُبرم بغير الصيغ القانونية ستُحرم المرأة من ميراث زوجها هي والأبناء. أما الزواج العرفي فيتبعه وينتج عنه طلاق عرفي. لهذا الفقه والإسلام بشكل عام يقدران حقوق المرأة في منطلق الزواج، وحقوق المرأة في فرضية انتهاء الزواج بالطلاق أو الوفاة".
جل الأعمال الدرامية تقدّم الشخصية المتدينة في أبشع الصور إذ تتسم بالنفاق والتطرف والسذاجة والكبت الجنسي وغيرها من الصفات السيئة في غياب تام لأي شخصية متدينة متوازنة
شرح المتحدث أن الزواج العرفي، من منظور فقهي، يراد به استغلال المرأة جنسياً، فيكون الرجل متزوجاً وله أبناء ويبحث عن زوجة أخرى للمتعة وفي هذا مساس بكرامة المرأة وحقوقها، لافتاً إلى أن ظهور شيخ بلباس زيتوني وبعمامة زيتونية برمزيّتها وبدلالتها، في صدد عقد زواج عرفي باطل في الشرع، قائلاً: "الصورة المطبوعة في أذهاننا هي أن الشيخ هو الذي يضفي شرعيةً على المسائل التي يتكلم فيها أو العقود التي يبرمها، فإذا نزع عمامته يعبّر عن آرائه وأفكاره ومواقفه الخاصة. أما إذا ارتدى اللباس الزيتوني والعمامة الزيتونية فهو يصادر الرمزية الزيتونية لصالح مشهد درامي فيه عقد زواج باطل شرعاً. ليست غاية الشيخ أو الباحث أن يظهرا في المشاهد التلفزيونية لمجرد الظهور لشخصيهما، بل إنهما يعبران عن رؤية دينية ومرجعية فلا يمكن لهما أن يوظفاها لصالح مشهد منافٍ لما جرى عليه القانون التونسي، ومنافٍ للشرع لأن القانون التونسي لا يخالف الشريعة، بل على العكس القانون كان اجتهاداً لفقهاء تونسيين، وحقوق المرأة لم يسنّها الحبيب بورقيبة بمفرده، بل استأنس بآراء كبار العلماء التونسيين الذين اجتهدوا في تحديد المواريث حسب المذهب الحنفي، واجتهدوا في مسألة الزواج حسب ما يقتضيه الواقع والنصوص الشرعية ومقاصدها".
كما رأى غفران الحسايني، أن ظهور إمام بلباس زيتوني أيضاً، ليشرع للزواج أمر مسيء إلى صورة الأئمة التونسيين الذين هم في أغلبيتهم الساحقة معتدلون وتصدوا للفكر المتطرف والإرهابي في العشرية الأخيرة، وتصدوا كذلك للفكر الذي يدعو للزواج العرفي، وتعرض كثيرون منهم للعنف والإنزال عن المنابر من قبل المجموعات المتطرفة، عادّاً أن الصورة الحقيقة لأئمة تونس هي أنهم مناضلون داخل المساجد ضد الفكر المتطرف وتصويرهم على تلك الشاكلة إساءة إلى صورة الإمام التونسي المعروف باعتداله ووسطيته وسعيه إلى أن يكون منسجماً مع مجتمعه وواقعه.
وشدد المتحدث على أن كل من يرتدي جبةً تونسيةً وعمامةً زيتونيةً، لا يمكن أن يبدي آراءً متطرفةً، قائلاً: "أتعجب من تقديم إمام بلباس زيتوني يفتي فتاوى حنبليةً. من يتبنون هذه الأفكار يلبسون القميص واللباس الخليجي أو الأفغاني، أما من يرتدي اللباس التونسي فلا يمكن أن يُصدر مثل هذه الفتاوى".
الدراما ليست فيلماً وثائقياً
إن تَعَرُّض مسلسل "براءة" لنقد لاذع في ما يتعلق بتناوله لمواضيع مسكوت عنها وتطرقه إلى مسألة الدين على الشاكلة التي ذُكرت في هذا التقرير، يراه الناقد خميس الخياطي، مسألةً طبيعيةً في الدراما التونسية، فلا وجود لمجتمع حي لا يتطرق إلى موضوع الدين لأنه من مكونات الحياة الاجتماعية حتى في ظل وجود اللا دينيين.
ويرى الخياطي، أن الإشكالية تتمثل في عدم سماح الإنتاج بتطور الرؤية والتناول لمسألة الدين، فالمسلسلات المصرية والسورية كانت لديها قوة كبيرة في تناول المواضيع الدينية والتاريخية، وكانت تتحدث عن قوة الإسلام والوجود العربي في الأندلس، لكن اليوم الإنتاج قلّ.
كما عاب على الدراما التونسية غياب تناول الديانة المسيحية واليهودية والاكتفاء فقط بالدين الإسلامي، في حين أن التونسيين بينهم يهود ومسيحيون، قائلاً: "هذه الفئة لا يتم التطرق إليها، وكأنهم ليسوا تونسيين. أرى أن قلة وجود الديانات الأخرى في الدراما التونسية مؤشر غير جيد".
قال الخياطي إن الدراما ليست واقعاً، وما يُعرض من متطلبات السياق الدرامي، والمعالجة الدرامية تُظهر الشخصية "متعصّبةً"
وتعليقاً على ظهور شيخ بجبّة وعمامة زيتونية، قال الخياطي في حديثه إلى رصيف22، إنه إذا قُدّم شيخ عصري ببدلة عصرية فلن يشدّ المشاهد وتالياً فإن رسْم شخصية رجل الدين على الشاكلة التي كان عليها في المسلسل، يأتي في سياق درامي، والدراما ليست فيلماً وثائقياً بإمكان المخرج تكييف لباس الممثل فيه وفق السياق الدرامي، مشيراً إلى أن البعض يرى أن ما يُعرَض على التلفاز يُعرَض كأنه شباك على العالم وحقيقة ثابتة في حين أن ما يتم بثّه خارج عن الواقع، إذ إن "بطل المسلسل تزوّج عرفياً، لكن في الواقع التونسي يُمنَع منعاً باتاً تعدد الزوجات".
وتعليقاً على الصورة التي يظهر عليها المتدين في الدراما التونسية، والتي تتسم عادةً بالعديد من الصفات السيئة، قال الخياطي إن الدراما ليست واقعاً، وما يُعرض من متطلبات السياق الدرامي، والمعالجة الدرامية تُظهر الشخصية "متعصّبةً".
كما لفت إلى أن المتطرفين دينياً سبق أن اتهموه بالكفر، وأنه إلى اليوم الإرهاب الموجود في الشرق لا علاقة له بالمسيحية ولا اليهودية، بل له علاقة فقط بمن يتحدثون باسم الإسلام، والأحداث التي جرت في العراق وسوريا وكذلك لبنان، كانت نتيجة أفعال تيارات متعصبة حد النخاع.
كما استنكر الناقد اقتصار إنتاج الدراما التونسية فقط على شهر رمضان، في ظل غياب شبه تام طوال السنة.
تجدر الإشارة إلى أن الشيخ بدر المداني، الذي ظهر في عقد قران "ونّاس" عرفياً، هو واعظ في وزارة الشؤون الدينية، وقد أكد في ظهوره الإعلامي أن ما قاله في الدور ليس موقفه، وإنما هو عمل درامي لإثارة القضية وتشجيع المشاهد على البحث، كما أكد أنه يعدّ الزواج العرفي فاسداً وباطلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين