شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مسلسل

مسلسل "براءة" والتاريخ البديل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 17 أبريل 202211:13 ص

تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"

ارتبط الأدب والفن في العالم بإنتاج المعرفة واستباق العلوم أحياناً، كما فعل ليوناردو دافنشي في لوحاته ورسوماته مثلاً، أو ديستويفسكي في نشأة التحليل النفسي واستفادة فرويد منه، والرواية الغربية التي كانت وراء نظريات فلسفية كثيرة من أعمال ميشال فوكو حول الجنون، وبورديو حول المجال، حتى دفيد لويروتون حول الجسد والألم والأدب الاستباقي والاستشرافي بيوتوبياته أو ديستوبياته، والخيال العلمي والتنبؤ بالتحولات السياسية والمناخية والفلكية، وكل ذلك جعل ممارسة الفن والأدب وتلقيهما تشترط في جوهرها المعرفة، فينقطع المبدع باحثاً في العلوم والتاريخ وتاريخ الفن، ليصل إلى ما سينتج به عمله.

ومن ضمن الأنواع الأدبية والفنية التي انتشرت في الغرب، كشكل من أشكال المقاربات الاستباقية للأزمات، ما يعرف بـ"التاريخ البديل" الذي يعيد التفكير في الواقعة التاريخية بطريقة أخرى غير التي جرت عليها.

ومن دوافع الكتاب لاختلاق التاريخ البديل، تنبيه المجتمعات من خطر الظواهر الاجتماعية التي تنتشر في فترات معينة، فيقع تهويل تلك الظواهر في الروايات والأفلام والدراما، حتى تكون واقعاً عاماً يكتشف المجتمع من خلال تلك الأعمال خطورتها.

فكانت رواية 1984 لجورج أورويل، إنذاراً بخطورة الشيوعية على الحريات الفردية والعامة، "أو خطر المسلمين على الغرب، وبريطانيا تحديداً، في رواية "1985" لأنتوني برجس، التي نشرها سنة  1978، والتي يتوقع فيها ما يمكن أن يحدث للندن لو تمكن منها المسلمون بثرواتهم وشرائهم للعقارات البريطانية، ورواية "المؤامرة ضد أمريكا" التي  تقدم تاريخاً بديلاً لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، وتضع فرضية فوز هتلر في الحرب واكتساح النازية لأمريكا، وهي ذات الفكرة التي عالجها منذ سنوات كي ديك في روايته "الرجل في القلعة العالية"، وكذلك فعل بول أوستر في روايته "رجل في الظلام"، حيث تنطلق حرب أهلية أمريكية إثر فوز جورج بوش الابن، فيتغير كل تاريخ العالم بسبب هذا التغير. ويمكن للكاتب أن يضع أحداثه في الماضي، كما يمكن أن يذهب بالعمل إلى المستقبل، فيتعالق التاريخ البديل بالديستوبيا أو ما يعرف بأدب المدينة الفاسدة.

يمكننا ببساطة إدخال مسلسل "براءة" ضمن ما يسمى بـ"التاريخ البديل"، غير أن كاتب السيناريو تعامل مع هذا التيار بالكثير من الخبث، فجعله غير معلن، حتى تكاد تشاهد المسلسل كما لو أنه واقع، لأن البديل الذي وضعه سامي الفهري ليس غريباً كل الغرابة عن المجتمع التونسي

"براءة" و التاريخ الاجتماعي البديل

أقدم المخرج والمنتج والإعلامي سامي الفهري على انجاز عمل درامي بعنوان "براءة"، صرح قبل بث المسلسل برمضان أن عمله سيكون أفضل مسلسل عبر كل الأزمنة. وبدا ذلك التصريح مستفزاً، خاصة أن الرجل أعلن عن إطلاق منصة لبث المسلسل عبر الاشتراكات مسبقة الدفع، غير أن المسلسل قرصن بعد بث أول حلقة، وصار متاحاً على أكثر من باقة وعبر الإنترنت.

صنع المسلسل الحدث بالنسبة للنقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول شتم العمل وصاحبه موعداً مع كل بث حلقة جديدة، والتهمة المتكررة حول المسلسل هو أنه "تطبيع" مع فكرة تعدد الزوجات التي قضى عليها القانون التونسي عبر مجلة الأحوال الشخصية، واعتبروا ظهور زوجة ثانية لرجل تونسي وتعيش مع الزوجة الأولى وأبنائها، اعتداء على مكتسبات الحداثة في تونس. فكيف يقدم هذا على أنه واقع تونسي وهو ممنوع قانوناً؟

كان يمكن أن نعتبر ذلك النقاش شبيه بما يتعرض له بعض الكتاب في العالم العربي، من قرائهم المحدودين، في الخلط بينهم وبين رواة الروايات أو شخصياتها، فيحاكمون على مخاطبهم ومفرداتهم التي قد يتلفظون بها عبر اختيارات الكاتب، للاقتراب من الواقعية أو الايهام بها، غير أن انخراط النخبة في محاكمة عمل تخييلي عبر القانون يعتبر فضيحة وعي.

يمكننا ببساطة إدخال المسلسل ضمن ما يسمى بـ"التاريخ البديل"، غير أن كاتب السيناريو تعامل مع هذا التيار بالكثير من الخبث، فجعله غير معلن، حتى تكاد تشاهد المسلسل كما لو أنه واقع، لأن البديل الذي وضعه سامي الفهري ليس غريباً كل الغرابة عن المجتمع التونسي، بل هو تاريخ وقع عيشه ما قبل الاستقلال وما قبل مجلة الأحوال الشخصية من ناحية، وهو أيضاً مجموعة من الأفكار والمطالب التي تداولت منذ انتفاضة يناير 2011  إلى اليوم، فنادت أحزاب وشخصيات، بمراجعة مجلة الأحوال الشخصية والعودة إلى "الشرع"، كما يقولون، في السماح للرجل بالزواج من أكثر من زوجة، ووقع الرد عليها من العلمانيين ومعظم الشعب التونسي عبر حملات الاستنكار أو عبر السخرية.

بل إن بعض السياسيين الإسلاميين ضربوا صدقية بورقيبة، صاحب مجلة الأحوال الشخصية، واتهموه بتعدد الزوجات، كرضا بلحاج  من حزب التحرير، وكيف كان يعاشر ماتيلد ووسيلة في نفس الوقت في القصر، قبل أن يطلق ماتيلد، ويسترجع كيف طلق وسيلة نفسها بطريقة لا تمت بصلة لمجلة الأحوال الشخصية.

كيف ندين الجماهير العامة على عدم فهمها لطرق تشكيل عمل درامي، وأحد أهم كتّاب العالم العربي، وأستاذ التاريخ وصاحب جائزة البوكر العربية، يوسف زيدان، لا يعرف التاريخ البديل، ورفض المصطلح برمته

وقد شكل قرب هذه التجربة تاريخياً في نسختها الأولى، وفترة الصراع بين العلمانيين والإسلامين في العشرية الأخيرة، واتهام التونسيين البورقيبيين للإسلاميين بأنهم يحاولون تغيير نمط حياة التونسي في اللباس والحياة، سبباً أساسياً في الالتباس الذي وقع عند التونسيين في متابعة مسلسل "براءة".

والغريب أن الإعلام بما يعيشه من سطحية، إلى جانب خبث المخرج، ورط الكل في قراءة مضادة لفكرة المسلسل نفسه، فإذا بالشعب العلماني يهاجم مسلسلاً يهاجم الفكر الرجعي الذي يتبناه عدد مهم من الإسلاميين ويتمنون أن يعاد إنتاجه، والمضحك أن ما يسمى بـ"المرصد التونسي للدفاع عن مدنية الدولة"، والذي يديره عدد من الجامعيين، يطالب بإيقاف المسلسل لأن يتبنى أفكاراً ظلامية.

طبعا لا يمكن أن نقارن الأدمغة السردية التي كتبت هذه الأعمال الروائية الغربية بموهبة سامي الفهري، ولكنها كلها تنطلق  من نفس الفكرة "ماذا لو" لم يسر التاريخ على النحو الذي سار عليه؟ وفي حالة مسلسل "براءة": ماذا لو في تلك الفترة التي ضرب فيها الإرهاب تونس سقطت الدولة المدنية فعلاً، ونفذ المشروع الظلامي حتى بأقل راديكالية تحت طائلة العادات والتقاليد والشرع الديني، وسقطنا في الدجل والسحر وتعدد الزوجات وانهيار المؤسسات، إلى أن  تصبح التعويضات للشهداء تسلم في ظروف  كما يفعل رجال العصابات أو الميليشيات في بعض الدول العربية؟

لماذا لم يفهم التونسيون "براءة"؟

هناك احتياطي كبير من الكراهية والعداء الذي يكنه عدد من التونسيين، وخاصة من بقايا الطبقة المتوسطة، للمخرج سامي الفهري وقناته، ويحملانه مسؤولية تردي أخلاق الشباب وانتهاك حرمة العائلات، بإطلاق هذه النوعية من المسلسلات الجريئة، والتي تدور في غالبها حول عالم الجنس والمخدرات والعنف، وهذه الكراهية ولدت عندهم اتهاماً قبلياً لأي عمل يقدمه سامي الفهري، ومع ذلك يتابعون كل أعماله من باب الفضول والتأثير المضاد، حتى صاروا أسرى ما ينتجه لهم. 

الغريب أن الإعلام بما يعيشه من سطحية، إلى جانب خبث المخرج، ورط الكل في قراءة مضادة لفكرة المسلسل نفسه، فإذا بالشعب العلماني يهاجم مسلسلاً يهاجم الفكر الرجعي الذي يتبناه عدد مهم من الإسلاميين ويتمنون أن يعاد إنتاجه

وساهم سامي الفهري في هذا الانحراف في عملية التلقي، اختار الصمت أثناء بث المسلسل والنقاش الذي تلاه، لأن ذلك الانحراف وسوء الفهم حققا له نسبة مشاهدة غير متوقعة، كانت ستنهار ربما لو تدخل في أي تصريح وأشار إلى طبيعة المسلسل الذي يدين فكرة تغيير نمط التونسي، لأن عمله سينخرط في العادي.

والحق إن رسالة مسلسل "الاختيار" المصري ورسالة "براءة" التونسي تتقاطعان بشكل كبير في الفكرة الرئيسية، وهي إدانة الإسلاميين، واحدة عبر المباشرة والتدليل عليها بالمقاطع المسربة من القصر للإخوان وما كانوا يفكرون به وبالأحداث الأمنية وغيرها، والآخر عبر تشخيص الممكن لو تمكنوا فعلاً من الدولة وغيروا نمط حياة التونسي.

حيث تحولت تونس في المسلسل إلى ديستوبيا اجتماعية من خلال الفساد العام الذي يعيشه المجتمع، بداية بالزواج العرفي، إلى استغلال المرضى والجار الذي يستغل مرض جارته وصديقتها ليواقعها يومياً وينجب منها الأطفال خارج الزواج، إلى الزوجة التي تعيش حياة موازية لحياتها الزوجية، إلى الإرهاب والتطرف إلى الفساد الاقتصادي وتنامي ظاهرة التهريب والمخدرات واستغلال الأطفال والسرقة... فلا شيء في عالم "براءة" بريء، الكل ينتهك الكل، وهو واقع الديستوبيا التي يعيشها فتحي الهداوي في العمل. وكأنه بالعمل يرد على أصحاب فكرة المجتمع البديل الذي يقدمه الإسلاميون بمستوياتهم المتعددة، بأن هذه جنتكم وقد جسدناها لكم في المسلسل.

ولكن تبقى الفكرة الرئيسية وراء لبس التلقي لمسلسل الفهري، هو أن المجتمع نفسه والمرأة نفسها من طرحا سؤال تعدد الزوجات لسنوات بسبب انتشار "العنوسة".

 الدراما التي يريدها الشعب

تطلب الجماهير التونسية نوعية من الدراما التي تسببت في انهيار الوعي بالعمل الفني، فهي تهرع لمسلسلات البكاء التركية، أو المسلسلات التي تقدمهم كضحايا للآخرين، أو تجترح من تلك الطبقات المسحوقة بطلاً خارقاً، يحطم العالم الفاسد ويعيد تشييد واقع يحلمون به، أما بخصوص المرأة، فيطالبون بامرأة قوية، لا تقبل العنف، ولا ترضى بأن يشاركها في زوجها أخرى، على طريقة "باب الحارة"، ويجب أن يحدث كل ذلك بوضوح وبشكل مباشر لا عبر التورية والتأويل وتقديم النظير المضاد.

هنا نصبح أمام جمهور يعيش حالة فزع نفسي من فكرة الفقدان، فهو يرفض أن يرى يهودياً في حكومة بلاده، ويدافع عن التعددية في نفس الوقت، ويرفض أن يناقش موضوع "تغيير نمط العيش" عبر التشخيص، ويرفض أن تهتز صورة الأم أو صورة الأب أو المدرسة أو حتى البوليس. 

هذا الوعي السطحي بالإنتاج الدرامي والفني عامة، أغرق المشهد التونسي في الدعاية للأعمال الرديئة أدبياً أو سينمائياً أو درامياً.

ولا نعتقد أن مسلسل "براءة" عمل رائع فنياً، بل هو مثقل بالأخطاء الفنية في الكتابة والتمثيل، خاصة واستنجاده بفكرة التاريخ الاجتماعي البديل لا تغطي على نقائصه الكثيرة. غير أن جودة الإخراج في مسلسل "حرقة2" ونبل القضية التي يطرحها أيضاً، لا تغطي على نقاصه الكثيرة، أولها ترهل السيناريو الذي يبدو أنه استنزف نفسه في جزئه الأول، وسوء إدارة بعض الممثلين، وخاصة منهم البطل الرئيسي، الذي سقط في الاستعراض، كما سقط المسلسل في المونولوغية البائسة والبطولات الوهمية، ورفع بينه وبين الواقعية جداراً عبر رومانسيات البطولة، ومع ذلك ظل التلقي في لحظة الحد الأدنى تلك اللحظة الانفعالية، والتي اشتغل عليها فريق الإنتاج لاستدرار تعاطف المشاهدين، كمشهد محاكمة التونسي في المحكمة الإيطالية، والخطاب الطويل الذي يدين فيه الآخر على طريقة أحمد زكي في فيلم "ضد الحكومة"، واستنساخ للمشهد في غير السياق الذي كان فيه الفيلم، فقد كان أحمد زكي محامياً بينما بطل المسلسل متهم، وخروجه للحظة وبكلمة عن سؤال القاضي يجعله محل مساءلة ويقع منعه من المواصلة، غير أن المخرج وصاحب السيناريو جعلا من غير الممكن ممكناً، من أجل إشباع الذهنية الشعبوية لغالبية المشاهدين.

ولكن كيف أدين الجماهير العامة على عدم فهمها لطرق تشكيل عمل درامي، وأحد أهم كتّاب العالم العربي، وأستاذ التاريخ وصاحب جائزة البوكر العربية، لا يعرف التاريخ البديل، ورفض المصطلح برمته في معرض بغداد الدولي للكتاب في حوار جمعه مع الروائي العراقي علي بدر، أمام جمهور غفير، ولعله تورط في ذلك المشهد الغريب بسبب تركيبة السؤال، عندما نسب علي بدر المصطلح لنفسه، ربما سهواً، بقوله:

"ما أسميه أنا بالتاريخ البديل" فأنكره عليه يوسف زيدان، مع أن اللقاء كان في أوله، وكان أول سؤال ونصفه ترحيبي، ولا يمكن أن نرجع ذلك إلى حالة من التشنج التي أوصلت الضيف إلى الارتباك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image