يسود اعتقاد بأن الأعمال الفنية عموماً والدرامية خصوصاً، هي انعكاس لقضايا مجتمعات يتم طرحها لغايات عدة، منها تسليط الضوء على ظواهر خطيرة لم تتوسل الحل، ومحاولة إثارتها عسى أن يكون العمل الدرامي منطلقاً للبحث جدّياً عن الحل، أو لتكريسها أكثر والمساهمة في نشرها على نطاق أوسع. اليوم وبمناسبة الموسم الرمضاني، يجد المشاهد التونسي نفسه، كغيره من المشاهدين العرب، أمام تشكيلة من الأعمال الدرامية تصدّرها مسلسل "براءة" للمخرج سامي الفهري الذي أثار، وما زال، جدلاً كبيراً في البلاد بسبب طرحه قضيةً اعتقد التونسيون أنهم قد حسموا أمرها منذ ستينيات القرن الماضي قانونياً، وهي قضية تعدد الزوجات والزواج العرفي.
يدرك كل متابعي الدراما التونسية أن إثارة الجدل هي إحدى الهوايات المفضلة لسامي الفهري منذ تحوله من منشّط برامج ترفيهية إلى مخرج وصاحب قناة، ولهذا لم يتردد في طرق أبواب إحدى القضايا المسكوت عنها، بالرغم من تفشّيها منذ صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس، وأكثرها حساسيةً بالنسبة إلى التونسيات بشكل خاص، ويجعلها موضوعاً رئيسياً لمسلسله الذي يُعرض منذ الأول من رمضان على شاشة قناته "الحوار التونسي". قد يدعو الأمر للوهلة الأولى إلى الإعجاب لأن النبش في مثل هذه القضايا جرأة تُحسب لصاحبها، لكن بمجرد تتبع خطوات الفهري في عمله، يبدو جلياً أن الرجل لا يكترث حقاً لخطورة هذه القضية ولا لدقتها، ولا يشغله أن يكون جزءاً من الحل بقدر سعيه إلى جلب العدد الأكبر من المشاهدين، خاصةً أنه في سوق يشهد منافسةً كبيرةً.
يدرك كل متابعي الدراما التونسية أن إثارة الجدل هي إحدى الهوايات المفضلة لسامي الفهري منذ تحوله من منشّط برامج ترفيهية إلى مخرج وصاحب قناة، ولهذا لم يتردد في طرق أبواب إحدى القضايا المسكوت عنها، بالرغم من تفشّيها منذ صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس، وأكثرها حساسيةً بالنسبة إلى التونسيات
عادة متكررة
لقد اعتاد الفهري منذ عمله الأول "مكتوب" (أربعة أجزاء من 2008 حتى 2014)، ثم "أولاد مفيدة" (خمسة أجزاء من 2015 حتى 2020)، و"الفوندو" (جزئين 2021 و2022)، بذكاء أو بدهاء منه، على تحويل المجرمين وتجار المخدرات والقتلة إلى أبطال والتسويق لهم كضحايا يعاندون البرجوازية والفقر. صورة كان يدرك أنها ستجد قبولاً لدى شرائح واسعة من المجتمع التونسي، لأنها كسرت الصورة النمطية للبطل الأمين الصادق المكافح بعيداً عن بوتقة الفساد والإجرام، ورسمت آخر بمعايير جديدة لاقت قبولاً في البداية تحت تأثير حداثة التجربة. لكن إصرار الفهري على اللعب على هذا الوتر، بدأ يثير الريبة والتوجس ويبعث على الاعتقاد بأنه بهذا الإصرار على الترويج لهذا النموذج المبتذل للبطل، إنما يحاول تطبيع المجتمع مع الإجرام والفساد. لأن المتعارف في كل أصقاع العالم، أن الأبطال غالباً هم حمالة قضايا وأهداف نبيلة ذات فائدة مهما قل شأنها، وأن المجرمين لم يتحولوا إلا في مناسبات قليلة إلى أبطال لأسباب واضحة، وأنهم دائماً محل إدانة حتى لا يتم إيهام المتلقي بأن الاستثناء هو الأصل.
منذ حلقاته الأولى، أثار العمل جدلاً كبيراً أستطيع الجزم بأنه لم يطرحه أي عمل تونسي سابق أبداً، إذ هاجم كثر العمل ورأوا أنه يسيء إلى صورة المرأة التونسية.
لكن الفهري أصرّ على جعل الاستثناء هو الواقع والمألوف، محاولاً دغدغة عدد أكبر من المشاهدين، لا سيما أولئك الشباب اليائسين الذين ضاقت بهم الآفاق والذين طالت بطالتهم، وحتى من انساقوا لسبب أو لآخر إلى العمل الإجرامي. لقد حاول استغلال ما يجول في مخيلتهم من شعور بالظلم واللا مساواة مع غيرهم، خاصةً من الطبقات الغنية، ليرسم لهم شخصيات تشبههم من حيث الانتماء إلى الأحياء الشعبية المفقرة واليأس لكنها استطاعت أن تلج طرقاً سريعةً للاستثراء والخروج من بوتقة الفقر عبر بوابة المخدرات والسرقة وغيرها، مع امتياز البطل أو الضحية وحجب الإدانة، وهو يعرف كم أن هذه الصورة قادرة على دغدغة هشاشة هؤلاء وتالياً ضمان مشاهدة العمل على نطاق واسع حتى وإن كانت النتيجة الترويج للتطبيع مع الجريمة.
من الإجرام إلى تعدد الزوجات
هذه المرة، ربما استشعر الفهري أن هذا النهج الذي تمسّك به منذ سنة 2008، بدأ يفقد بريقه وبات مكشوفاً، توجه نحو طرح الزواج العرفي وتعدد الزوجات في عمله الجديد "براءة" الذي أنتجه وأخرجه وقال إنه قد كتب نصه في السجن عندما كان موقوفاً للتحقيق معه بسبب شبهات فساد. ويتناول المسلسل قصة رجل متقدّم في السن يفاجئ أبناءه وزوجته برغبته في الزواج عرفياً من الخادمة الشابة، لأن ذلك "يجيزه الشرع" وفق تبريره. والعمل من بطولة عدد من نجوم التمثيل في تونس، من بينهم فتحي الهداوي وريم الرياحي ومحمد علي السياري وغيرهم.
منذ حلقاته الأولى، أثار العمل جدلاً كبيراً أستطيع الجزم بأنه لم يطرحه أي عمل تونسي سابق أبداً، إذ هاجم كثر العمل ورأوا أنه يسيء إلى صورة المرأة التونسية التي ما زالت تجاهد للحفاظ على مكاسبها، وانتقده آخرون عادّين أنه يحاول الترويج لفكرة تعدد الزوجات ضارباً بعرض الحائط القانون التونسي الذي حسم الأمر منذ عقود، فيما ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن الزواج العرفي ظاهرة انتشرت بقوة في تونس منذ سنة 2011، ومن المهم التطرق إليها في أعمال فنية.
احتدام الجدل دفع الكثيرين لمتابعة العمل لفهم ما يجري، حتى من لم يتعودوا الالتفات إلى أعمال سامي الفهري، وهو تماماً الهدف الذي رسمه المخرج منذ البداية، وهو الحصول كما تعود على أعلى نسب مشاهدة. وهناك جملة من الدلائل التي تؤكد ذلك، أولها تركيز العمل على الجانب الشرعي لتبرير الزواج العرفي أو تعدد الزوجات والتركيز المتواصل على "قال الله" و"قال الرسول"، وإسقاط آيات عبثاً للتأكيد على أن ما أقدم عليه البطل هو حق مكفول شرعاً متجاهلاً تماماً القانون بالرغم من أنه المنظم الوحيد لهذه المسائل في تونس، ويحرّم تماماً هذه الظاهرة ويفرض عقوبات على المخالفين.
وهذا الطرح لم يدرجه الفهري عبثاً ومن دون ترتيب مسبق، فالأخير حاول اللعب على وتر النزعة الذكورية في المجتمع التونسي التي تختزن، وإن لم تصرح بذلك، شعوراً بأن الرئيس الأسبق الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، بإقراره مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات سنة 1956، قد حرمته الرجل حقه الشرعي في الزواج بأكثر من واحدة، وأن الحقوق التي تتمتع بها المرأة التونسية قد سحبت منه سلطةً كبيرةً كانت له عليها، وكان بإمكانه أن يظل محافظاً عليها في ما لو لم يتدخل بورقيبة مبكراً. الأكيد أن الفهري الذي تعود أن يلبّي حاجيات هذه النزعات وما يجول في المخيال، أراد أن يدغدغ هذه الرغبات المدفونة فاختار لهم شخصية "وناس" التي يؤديها الفنان الكبير فتحي الهداوي، والتي كانت صورةً مثاليةً عن أحلام عامة الرجال المكبوتة، وامتداداً للمجموعة التي انخرطت في الزواج العرفي في تونس، إلى جانب شخصية "زهرة" التي قامت بتأديتها الفنانة ريم الرياحي، التي كانت نموذجاً للمرأة المطيعة الخاضعة لسلطة زوجها حتى عندما أحضر زوجته الثانية إلى بيتها، تماماً كما يجول في المخيال الذكوري التونسي وعلى خلاف الواقع تماماً. وبذلك يكون الفهري قد نجح في استقطاب هذا المخيال عبر إثارة تلك الأفكار المكبوتة داخله وجعلها تقفز إلى الخارج ولو لمساحة زمنية مؤقتة.
إن قضية الزواج العرفي لا يمكن نكران انتشارها على نحو يدعو إلى القلق، منذ صعود الإسلاميين إلى الحكم ومحاولاتهم ضرب مكاسب المرأة وخاصةً مسألة منع تعدد الزوجات
قضية مقلقة
إن قضية الزواج العرفي لا يمكن نكران انتشارها على نحو يدعو إلى القلق، منذ صعود الإسلاميين إلى الحكم ومحاولاتهم ضرب مكاسب المرأة وخاصةً مسألة منع تعدد الزوجات، حتى أن القضاء التونسي قد نظر في 1،718 قضية زواج عرفي خلال السنوات الخمس الأخيرة، منها 287 قضيةً خلال سنة 2020، و369 قضيةً في سنة 2019. وهذا يستدعي الالتفات على أكثر من صعيد لمواجهة هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع التونسي بما في ذلك فنياً. لكن أن يتم الزج بمثل هذه القضية المهمة في هذه الزاوية المظلمة من الطرح التجاري "الرخيص" المتعطش إلى عدد المشاهدات من دون الاكتراث لخطورة المضامين وطرق الطرح حتى، وإن أدت إلى التطبيع مع الظواهر الخطيرة، فإنه من الضروري هنا أن تقف المرأة التونسية بشكل خاص وقفةً حازمةً لتواجه بنفسها هذا الخطر الداهم الذي بدأ مع الإسلاميين، ويبدو أن الفهري أخذ المشعل عنهم، بالرغم من ادّعائه الحداثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...