شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"دفاتر مايا" و"أعنف حبّ"... تتنوّع حكايات الحرب الأهلية اللبنانية، لكن الوجع واحد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 23 أبريل 202209:19 ص

يأتي هذا المقال ضمن تغطية رصيف22 لمهرجان الفيلم العربي- برلين (الفيلم) بدورته الثالثة عشر عشر، والذي تُقام ما بين 20 إلى 26 من نيسان/ أبريل 2022.

تحت شعار "لبنان: من الحرب الأهلية إلى الفوضى… سينما المقاومة تحت الضوء"، يحتفي برنامج بقعة ضوء للدورة الثالثة عشرة من مهرجان الفيلم العربي في برلين، التي تقام بين 20 الشهر الجاري و26 منه، بالسينما اللبنانية هذا العام. هذا الاحتفاء يضم أفلاماً تم إنتاجها في سنوات متفاوتة، إضافة الى أفلام من فئات متنوعة تصدرت مشهد الصناعة السينمائية العربية لعام 2021. 

ما بين نبش الذاكرة في  الفيلم الروائي "دفاتر مايا" والفيلم الوثائقي "أعنف حُب"، ثمة صندوق سيُفتح، والصناديق دائماً تخفي الحقيقة.
في البرنامج الذي يعرض أكثر من 15 فيلماً بين روائي ووثائقي وقصير، ثمة فرصة لمشاهدة تأثير المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي حدث وما زال يحدث في لبنان، عبر أشرطة سينمائية، ستُفتتح بالروائي الطويل "دفاتر مايا" للمخرجة  جوانا حاجي توم، الذي عرض لأول مرة عالمياً في مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الـ71، ونافس على الدب الذهبي. ولأن فكرة الفيلم قائمة على نبش الذاكرة، فهذا يستدعي الحديث أيضاً عن الفيلم الوثائقي "أعنف حب" للمخرجة إليان الراهب الذي عرض هو أيضاً في الدورة نفسها، إذ من الصعب عرضه في أقطار عربية بسبب موضوعه الذي تلعب بطولته شخصية مثلية الجنس ويناقش تأثير الحرب الأهلية على هذه الشخصية.
فما بين نبش الذاكرة في روائي حاجي توم ووثائقي الراهب، ثمة صندوق سيُفتح، والصناديق دائماً تخفي الحقيقة.

دفاتر مايا

ما زالت أهوال الحرب الأهلية حاضرة في السينما، فهي الموضوع الذي يكاد يكون جامعاً لثيمة غالبية الأفلام اللبنانية، ولكل مؤلف وصانع عمل حربه ووجعه الخاصان. لذلك تتنوع الحكايات. لكن الوجع واحد.
في "دفاتر مايا" تجسيد للحرب بشكل مغاير، قررت المخرجة أن تحوله إلى صندوق بيد ساعي بريد يطرق باب بيت محاط بالثلوج في مونتريال بكندا. بياض الثلج في الخارج لا يشبه كمية الوجع المتشح بالسواد الذي سيكون شاهداً على ذكريات سيتم نبشها.
ما زالت أهوال الحرب الأهلية حاضرة في السينما، فهي الموضوع الذي يكاد يكون جامعاً لثيمة غالبية الأفلام اللبنانية، ولكل مؤلف وصانع عمل حربه ووجعه الخاصان. لذلك تتنوع الحكايات. لكن الوجع واحد
نتعرف في الفيلم إلى مايا وهي أم لفتاة اسمها أليكس، ووالدتها التي تعيش في نفس المنطقة وتزورهما من حين لآخر، وتكرر دائماً: "تركنا كل شيء وحاولت طول الوقت انسيها، طول الوقت بطبخ وبغسل". هذه الكلمات تخاطب بها حفيدتها التي لا تتقن العربية. صحيح أن الصندوق الذي وصل وحاولت الجدة إخفاءه يحمل العديد من الذكريات والتفاصيل المؤلمة التي كانت ترسلها مايا، وهي مراهقة، إلى صديقتها ليزا، وتتحدث فيها عن يومياتها في الحرب. لكن ثمة صندوقاً لا يمكن الوصول إليه وهو يعشعش في الذاكرة، وهذه هي الحكاية.
فضول أليكس، الابنة والحفيدة، تجاه الصندوق، جعلها تتسلل إلى المخزن. لهذا الفضول علاقة بأنها تحاول معرفة أمها بشكل أكبر. فهي تشعر دائماً أن ثمة حزناً في عينيها لم تعرف سببه. لكن عملية التلصص تغير مجريات القصة التي ستتحول إلى فيلم داخل فيلم مصنوع من خلال التطبيقات الذكية في الهواتف. فأليكس قررت تحريك الصور العديدة في الصندوق وتحويلها إلى صور متحركة على وقع المؤثرات التي تسمعها من خلال أشرطة كاسيت قديمة شغلتها عبر جهاز ألعاب أطفال.
 لكن ثمة صندوقاً لا يمكن الوصول إليه وهو يعشعش في الذاكرة، وهذه هي الحكاية.
هذا الشكل التقني استُخدم كثيراً في السينما وتحديداً الإيطالية، التي ترتبط دائماً بآلية تحويل ألبوم صور إلى فيلم متحرك. ولكن في موضوع الحرب الأهلية، هذه التقنية ضرورة، لأنها مختلفة عن الفلاش باك الذي يستخدم في مثل هذا النوع من الحكايات. وأراد صناع الفيلم أن يبرزوا أليكس كفتاةً من الجيل الحديث مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهاتفها، وعملوا على توظيف هذا الهاتف بالاتساق مع عقلية الجيل المعاصر، وهي طريقة تحسب للمخرجة بإيصال الحبكة إلى جيل الإنترنت.
ستعرف أليكس الفرق بين جدها، مدير المدرسة الذي فقد ابنه، خالها، في تلك الحرب وأصر على مدنية الدولة وحاول أن يزرع ذلك في عقول طلاب المدرسة، وبين حبيب أمها السابق رجا الذي إذا أراد أن يحتفي بأمر ما يحمل سلاحه ويطلق الأعيرة النارية. ستدرك أليكس أن الحب الذي جمع مايا ورجا لم يثنِ الأخير عن دخول الحرب.
تفاصيل كثيرة في الفيلم، من غير المنصف الحديث عنها كي لا تخفت متعة مشاهدته، لكن من المنصف الإشادة بأداء الممثلة منال عيسى التي لعبت دور مايا وهي مراهقة. هذه الممثلة استطاعت أن تتصدر المشهد بأدائها المدروس والمتسق مع إدارة حاجي توم للممثلين.

أعنف حُب

في فيلم إليان الراهب "أعنف حب" الذي يمزج بين التسجيلي والوثائقي، ثمة حكاية كانت في البال وتحولت إلى حكاية تجسدت أمامها، فلم تستطع تجاهلها، بل كأنها ركنت حكايتها الخاصة لتحكي حكاية للجميع. فالراهب قصدت برشلونة للبحث عن حبيبة والدها السابقة ولديها رغبة في أن تصنع فيلماً عنها. غيرت كل خطتها عندما قابلت ميشيل جليلاتي، الذي كانت وظيفته مترجماً خاصاً لها، وكان من المفترض أن يساعدها في البحث عن تلك الحبيبة واسمها باكيتا. فلدى الراهب حكاية معها، لأنها كانت عند كل مشكلة تحدث بينها وبين أمها تذهب للبكاء ويلحق بها والدها ويحدثها عن تلك الحبيبة حتى أنها شعرت أن باكيتا هي المفترض أن تكون أمها. قصة كشفت عنها الراهب في المشاهد الأخيرة في الفيلم وهي تحكيها لأمها. فموضوع الأم هو أمر أساسي في الفيلم، وهو الذي يجب العودة له لدى الحديث عن ميشيل.
ساعتان هما مدة الفيلم، تقسمهما الراهب عناوين أشبه بعناوين لوحات، وتفاصيل عاشها ميشيل جعلته يصل إلى حالة من الرضا، تكمن في قصة عنصر من حزب الكتائب اللبنانية قرر أن يقوي قلب ميشيل عبر حكاية قالها بكل فخر: "بشاتيلا بعد ما صفيت عيلة كاملة، انتبهت لبنت صغيرة شقراء حلوة، رحت اغتصبتها وقتلتها بعدها". هنا شعر ميشيل بأنه إذا لم يهرب فسيؤول حاله إلى حال الطفلة الفلسطينية التي يتغنى راوي حكايتها بفخر اغتصابها. وبالفعل هرب ميشيل إلى إسبانيا. والمفارقة أن الهروب كان بمساعدة أمه، التي ماتت في سوريا.
الحياة، الموت، الهرب، البوح، النجاة، هذه كلها حالات متصلة في فيلم الراهب، صاحبة "ليالي بلا نوم" و"ميّل يا غزيل". هذه المخرجة القادرة دائماً على استفزاز أبطال حكايتها، وميشيل بطل أعنف حب وجد نفسه منساباً لها وكأنه أدرك أنها فرصة لبث كل مشاهد الألم التي رافقته منذ لحظة تهريبه في الثمانينيات من خلال أمه الى إسبانيا، كما أنها فرصة ليعلن عن مثليته للملأ عبر فيلم من الصعب عرضه عربياً، ليس فقط بسبب مثلية البطل بل بسبب الطريقة الواضحة والصريحة لهذه المثلية عبر مشاهد جنسية ومحطات عاشها ميشيل بكل تفاصيلها.
لأن فكرة فيلم "دفاتر مايا" قائمة على نبش الذاكرة، فهذا يستدعي الحديث أيضاً عن الفيلم الوثائقي "أعنف حب" للمخرجة إليان الراهب الذي عرض هو أيضاً في الدورة نفسها، إذ من الصعب عرضه في أقطار عربية بسبب موضوعه الذي تلعب بطولته شخصية مثلية الجنس ويناقش تأثير الحرب الأهلية على هذه الشخصية
في أعنف حب، تقرر الراهب أن تستخدم تقنية الكولاج والرسوم المتحركة في تتبع حكاية ميشيل إلى جانب الأسلوب الوثائقي، بحيث تعيده طفلاً ومراهقاً وشاباً، بتقنية القص واللصق، فتضفي شيئاً من الكوميديا على قصة لا شيء أمامها سوى الغصة. وبسبب هذه التقنية في الصناعة يحتمل الفيلم أن يكون خليطاً بين توثيقي وتسجيلي وروائي ومسرحي. فهي تحاول البحث عن شخصيات عبر اختبار أداء لتمثيل قصة ميشيل، بحيث يجلس إلى جانبها ليقارب بين ما يعلق بذاكرته وبين شكل الشخصيات التي تريد تأدية دورها لأجله. وهنا عملياً تتحول إلى إعطاء ميشيل فرصة ليتخلص من كوابيسه المرتبطة بعقد ساهمت بتكوينها أمه، وشقيقه إيلي وبشير جميل على ما يبدو.
عندما تسأل الراهب ميشيل عن سنة تاريخ ميلاده، يجيبها 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، مع أن عمره قارب الخمسين، لكن هذا التاريخ هو يوم وصوله إلى إسبانيا، لذلك يعتبره يوم ميلاده.
ميشيل شخصية هاربة من كل شيء يحيط به، قالت أمه له يوماً: "أنت مستحيل تكون ابني". تراكمات هذه العلاقة غير السوية جعلت ميشيل يعيش مع أمنياته التي تتلخص بقتل أمه وأخيه الذي تفضله العائلة. هذا الشعور هو وراء التحاقه بصفوف حزب الكتائب في معركة الجبل، وهو لا يعرف من كان يقاتل من فيها، حسب تعبيره.
أحلام ميشيل دائماً تحتوي على قتل الآخر، وقد حوّلتها الراهب قصصاً كرتونية على أمل التخفيف من وطأتها. والأهم أن ميشيل الهارب حتى من اسمه بحيث غيره إلى ميغيل ليتناسب وإسبانيا التي يعيش بها، قرر أن يحكي كل ما في جعبته، حتى لو اختلطت القصص وتزعزعت الثقة ما بين الحقيقة والخيال.
في المقابل، تقرر الراهب سرد الحكاية أيضاً على طريقتها أو بشكل أدق تسيير خط الحكاية بحيث تتقاطع مع أمور أكثر شمولية، حتى بوجود البطل الرئيسي فيها، من خلال تقنية الرسوم المتحركة والكولاج  بشكل كوميدي. ثمة إسقاطات واضحة على الوضع اللبناني بشكل عام، حيث تساعد سرياليتها على التأكيد بذكاء على التحليلات، مثل تجسيد القضيب وأبعاده من خلال الجنس أو من خلال الأمثال الشعبية، هذيان الصواريخ وطريقة رسمها لها، تجسيد أوجاع ميشيل تجاه الإذلال الجنسي الذي تعرض له وقد ربطتها الراهب بسخريته من الدين والحرب الأهلية والوجود الدائم للأم. كل هذا مصحوب بأغانٍ لفيروز ونجاة الصغيرة.
رغم اختلاف الفيلمين، تجمع بينهما الحرب الأهلية اللبنانية التي ما زال أثرها مدعاة لكتاب وصناع أفلام كي ينقلوها عبر كاميراتهم. 

ولم تكتف الراهب بوجود ميشيل في إسبانيا، بل قامت بدعوته للعودة الى لبنان، لمواجهة مخاوفه المتعلقة بسنوات الحرب، لأنها طوال حديثها كانت مصرة على أن ثمة نقصاً في الرواية، واكتمالها سيكون من موطن انطلاقها. 

"أعنف حب"، من الأفلام التي يصعب تجاهل ما تحمله من تفاصيل، والذكاء فيه يكمن في تخفيف الجرعة المتعلقة بالشكل السائد في صناعة الفيلم الوثائقي وتحويله الى متعة بصرية جاذبة، موضوعه يعتبر حساساً في العالم العربي ومن السهل اتهامه بأنه يستفز مشاعر من يتلقاه بسبب بطله مثلي الجنس وطريقه تصوير عذاباته. والمفارقة أن ما يحكيه الفيلم عن شخصية ميشيل وما مر به هو الذي من المفترض أن يستفز المشاعر، ويجعلها غاضبة، وليس كون ميشيل مثلي الجنس.
رغم اختلاف الفيلمين، تجمع بينهما الحرب الأهلية اللبنانية التي ما زال أثرها مدعاة لكتاب وصناع أفلام كي ينقلوها عبر كاميراتهم. ولكل فيلم حكايته وطريقة نظرته لتلك الحرب، وما يجمع بين فيلمي "دفاتر مايا" و"أعنف حب" مساحة للبوح، فيها الانكشاف العاطفي الذي يجعلك متيقظاً لكل عبارة. وما يجمع بينهما أيضاً بالرغم من اختلاف نوعيهما (روائي، وثائقي) اعتمادهما على فن التحريك، تحريك الصور الفوتوغرافية في صندوق مايا، واعتماد إليان الراهب في أعنف حب هذا النوع من التكنيك بغية الاستعانة بالبوح عندما تعجز الكلمة عن الإفصاح.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard