"ما عاد نفكر شو بدنا نساوي برمضان... صرنا نفكر شو بدنا ناكل"... عبارة تأتي على لسان مواطن سوري في مدينة اللاذقية، ضمن تقرير مصور لإحدى الصحف المحلية، يرصد حالة الأسواق في الأسبوع الأول من شهر رمضان. في هذه العبارة وفي نبرة الرجل وهو يقولها، حزن وعجز أشعر بهما اليوم في كل زاوية من دمشق.
منذ أن بدأ الشهر الذي يحمل مكانةً خاصةً ومميزةً لدى السوريين، أقضي ساعات عدة من النهار وأنا أسير في شوارع دمشق، ولا يسعني إلا الإحساس بالثقل المخيّم على صدور الجميع. قبيل ساعات الإفطار، تزدحم الأسواق، خاصةً الشعبية منها، مثل باب سريجة وباب الجابية والشاغور والشيخ محيي الدين والميدان، لكنه ازدحام يمتلئ حسرةً من متسوقين غير قادرين على تلبية أدنى متطلبات عائلاتهم. والكل يجمعون على أن أسعار كافة السلع، من دون استثناء تقريباً، تضاعفت مرات عدة عن رمضان الفائت.
أدخل سوق باب سريجة، فتستقبلني ابتسامات دافئة من بعض الباعة، وهتافاتهم وهم ينادون على بضائعهم: "يلي رماك الهوا يا ناعم"، و"قرّب عالطيّب"، وغيرهما من العبارات التي تميز هذا الشهر، وما يباع فيه، خاصةً الحلويات الدمشقية الشهيرة، مثل الناعم (أرغفة مقلية تُزيّن بالدبس)، والمعروك (عجين دائري مخبوز يُحشى بالتمر أو السكر أو جوز الهند وغيرها من المواد).
منذ أن بدأ شهر رمضان الذي يحمل مكانةً خاصةً ومميزةً لدى السوريين، أقضي ساعات عدة من النهار وأنا أسير في شوارع دمشق، ولا يسعني إلا الإحساس بالثقل المخيّم على صدور الجميع
"ثلاثة أرغفة صغيرة من الناعم، وهو أبسط نوع ممكن من الحلويات، بأربعة آلاف ليرة (دولار واحد)"، يخبرني معتصم، أحد الباعة، وهو يقلّب رغيفاً داخل المقلاة الكبيرة بكل مهارة بواسطة عصَوين خشبيتين طويلتين، وبجانبه زميله الذي يزيّن الأرغفة بالدبس باستخدام شوكة خشبية كبيرة، ويشيران إلى أن صعوبة تأمين الغاز واحدة من الأسباب الرئيسية لارتفاع تكلفة الناعم. "لم نبِع بشكل جيد سوى في أول يوم من رمضان، إذ يرغب الناس في دخول الشهر وهم يشعرون بقليل من أجواء الفرحة، أما الآن، فيمكنني أن أقول إن المبيعات أقل من نصف ما كانت عليه في رمضان الفائت"، يقول.
إلى جانب هذه العربة يقف باعة العصير: التمر الهندي، والعرقسوس، والليمون، والجلاب، وغيرها من الأنواع التي لا بد من وجودها على أي مائدة رمضانية وقت الإفطار. "الكيس بخمسة آلاف ليرة"، يخبرني أحدهم. آخر يبيعها بسعر أقل قليلاً.
سوق باب سريجة في دمشق - تصوير زينة شهلا
بعملية حسابية بسيطة، أتأكد من أن معظم العائلات اليوم لن تملك القدرة على شراء الحلويات والعصير كل يوم، ولا حتى كل يومين أو ثلاثة. ربما مرة في الأسبوع لا أكثر، مع كون الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز مئة ألف ليرة سورية (27 دولاراً وفق سعر الصرف الرائج في السوق الموازي).
بعملية حسابية بسيطة، أتأكد من أن معظم العائلات اليوم لن تملك القدرة على شراء الحلويات والعصير كل يوم.
يتوقف رجل أربعيني بجانب بائع الناعم، ويسأل عن سعر الرغيف الواحد، ويكمل طريقه من دون أن يشتري. يكمل نحو الفرن القريب الذي يبيع أرغفة المعروك الشهية. أصغرها، وهو بالكاد يكفي شخصاً واحداً، بألفين وخمسمئة ليرة. أسأله إن كان سيشتري شيئاً، ويجيب بأنه يفضّل أن يترك المبلغ الصغير الذي جناه اليوم من عمله في تحميل البضائع في سوق البزورية القريب، للحاجات الأكثر ضرورةً، فالحلويات أقل أهميةً من إعداد طبق رئيسي واحد على الأقل على مائدة الإفطار، وأي طبق، مهما كان بسيطاً، لا يمكن أن يكلّف أقل من عشرين ألف ليرة. "لكنني أرغب في إسعاد أطفالي ببعض أرغفة الناعم. ربما غداً"، يكمل طريقه بنظراته القاسية جداً.
لا حديث لكل من في السوق، من باعة ومشترين، سوى عن الارتفاع غير المسبوق للأسعار. وتقدّر إحدى الصحف المحلية نسبته بقرابة 40 في المئة منذ بداية العام. "يا أخي الحرب في أوكرانيا ذبحتنا". "والله ما فينا نبيع بأرخص من هيك... ما بتوفّي معنا". "شو بدي قلّك يا بنتي، رمضان زمان كان غير، كان كريم، وكانت الناس تحنّ على بعضها. هلأ ما عاد حدا قادر يحنّ على حدا".
بائع الناعم في سوق باب سريجة في دمشق - تصوير زينة شهلا
في شارع الجزماتية في حي الميدان، حيث ينتشر بشكل خاص باعة الحلويات الدمشقية الشهيرة، مثل القطايف والعوامة والوربات والشعيبيات وغيرها، يبدو المشهد من بعيد أشبه بمهرجان من الألوان والأشكال الهندسية، إذ يبرع الباعة في ترتيب قطع الحلويات بشكل أنيق، على مبدأ "العين بتاكل قبل الفم"، وينادون عليها محاولين جذب المارة الذين يكتفي معظمهم بإلقاء نظرة، وربما التوقف والسؤال عن أسعار بعض الأصناف. غالبية المحالّ فارغة من الزبائن تقريباً.
"صدّقيني هي المرة الأولى في حياتي التي لا أتمكن فيها من إعداد طبق رئيسي بشكل يومي على مائدة رمضان. يوم أمس تناولنا الفول بالزيت فقط. هل يُعقل هذا؟ كم أخشى قدوم نهاية الشهر والعيد، ولا أدري كيف يمكننا أن نشعر بأي بهجة حينها
"تتراوح أسعار أكثرية أنواع الحلويات، خاصةً تلك المحشوة بالقشطة، ما بين 25 و35 ألف ليرة للكيلو الواحد (6 إلى 9 دولارات)، أما بالنسبة إلى الحلويات العربية المصنوعة مع السمن والفستق الحلبي، فيبلغ سعر الكيلوغرام وسطياً، ثمانين ألف ليرة (21 دولاراً)، وهي أسعار مضاعفة عن الأسعار في رمضان الفائت"، يقول أحد الباعة، ويشير إلى أن معظم الناس، إن اشتروا، يكتفون بنصف أو بربع كيلو، وربما صحن صغير لا يكلفهم أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف.
"الحلويات مكوّن أساسي على مائدة رمضان، لكنه لم يعد يومياً، وعائلات كثيرة لن تتذوقه إلا مرة أو مرتين هذا العام"، يضيف متحسراً. أنتبه إلى أن سيارة يركبها رجل وامرأة وطفلة صغيرة، تقف بجانب المحل، ويطيلون جميعهم النظر إلى واجهته وما تعرضه من حلويات، ثم يتابعون سيرهم وهم صامتون.
سوق الجزماتية في حي الميدان في دمشق - تصوير زينة شهلا
أفكّر في أن المحل الذي يبيع المعروك في آخر السوق، لا بد وأن يكون مزدحماً أكثر من غيره، وفعلاً، أجد أمامه ستة أشخاص أو سبعة، أغلبهم يطلبون قطعةً أو قطعتَين من القياس الصغير. أسأل امرأةً عن النوع الذي اختارته، وتقول: "جوز الهند والزبيب. أبنائي يحبونها". لديها ثلاثة أولاد، لا أدري إن كانت القطعة الصغيرة التي لا يتجاوز قطرها عشرة سنتيمترات ستكفيهم.
"صدّقيني هي المرة الأولى في حياتي التي لا أتمكن فيها من إعداد طبق رئيسي بشكل يومي على مائدة رمضان"، تحدّثني بعينين دامعتين. "يوم أمس تناولنا الفول بالزيت فقط. هل يُعقل هذا؟ كم أخشى قدوم نهاية الشهر والعيد، ولا أدري كيف يمكننا أن نشعر بأي بهجة حينها". وأنا أيضاً، أبحث عن البهجة ولا أجدها. رمضان هذا العام في دمشق، حزين للغاية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...