شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"ما فينا نشتريها كل يوم"... حلويات رمضان ضيف ثقيل على موائد السوريين واللبنانيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 30 أبريل 202106:31 م
Read in English:

Most Syrians and Lebanese Can No Longer Afford Baklava and Barazek

"رمضان هذا العام لا يشبه أي رمضان سابق"، عبارة اعتاد كثر من سكان المنطقة العربية بأحوالها الاقتصادية المتراجعة ترديدها كل سنة، وهم يأسفون لما آلت إليه أحوالهم في الشهر المحبب إلى قلوبهم.

لكن هذا العام يبدو بالفعل مختلفاً في كل من سوريا ولبنان بشكل خاص، وهما البلدان اللذان عاشا خلال الأشهر الأخيرة انهياراً اقتصادياً غير مسبوق، فتراجعت قيمة عملتيهما، وارتفعت الأسعار، وبات من الصعب على عائلات كثيرة تدبر أمور معيشتها والحفاظ على ذات المستوى الذي اعتادت الحياة به. فكيف إن كنا نتحدث عن رمضان، شهر المأكولات والمآدب وأصناف الطعام والحلويات المختلفة التي اشتهر بها هذان البلدان، ولا تكتمل طقوس الاحتفاء به من دونها؟

نكتفي بالحلويات البسيطة

وسط شارع الجزماتية في حي الميدان في دمشق، وهو المنطقة الأكثر شهرة ببيع الحلويات في المدينة، تشهد الدراجة الهوائية التي يبيع عليها أبو علاء قطعاً من الحلويات ازدحاماً، في حين يمتلئ الشارع بالمتسوقين مع اقتراب ساعة الإفطار. ينادي الرجل الأربعيني على بضاعته المكوّنة من "الوربات"، وهي عجين هش وقشطة وقطر وسعر القطعة منها 500 ليرة (15 سنتاً)، و"العثمنلية" المصنوعة من الشعيرية الخشنة والقشطة والقطر، وسعر القطعة منها 1000 ليرة (30 سنتاً).

بائع الحلويات أبو علاء في سوق الجزماتية في دمشق - تصوير زينة شهلا

يقف أبو بدوي، وهو رجل خمسيني، بجانب الدراجة، ويطلب ثلاث "وربات". يقول إنها النوع الوحيد من الحلويات الذي يستطيع اليوم شراءه لعائلته الصغيرة، ليُدخل "فرحة رمضان" إلى قلوبهم. "العام الماضي كنّا نشتري الحلويات البسيطة من المحلات، مثل الهريسة أو النمورة، أما اليوم، فلا أجرؤ على دخول أي محل والسؤال عن الأسعار"، يضيف لرصيف22 شارحاً عن حاله، وهو اليوم موظف حكومي.

وتُعتبر الهريسة والنمورة من أرخص أنواع الحلويات الرمضانية، فهي مكونة من عجين وقشطة وقطر، ولا يتجاوز سعر الكيلوغرام منها 10 آلاف ليرة (حوالي 3 دولارات)، لكنه مبلغ باهظ مقارنة مع متوسط الرواتب في سوريا الذي لا يزيد عن 30 دولاراً.

لأنه يبيع بعضاً من أرخص أصناف الحلويات، يقول أبو علاء لرصيف22 إن عدد زبائنه هذا العام ازداد نسبياً نتيجة عزوف كثيرين عن شراء الحلويات الفاخرة. ورغم أن أسعاره تضاعفت عن العام الفائت، دون زيادة ملحوظة في متوسط الدخل في سوريا، تبقى دراجته التي يضع عليها بكل إتقان طبقين معدنيين كبيرين مقصداً لعشرات المارة كل يوم. "الحمد لله لم أعد يوماً إلى منزلي إلا وقد بعت كل ما أحمله، وبالطبع لا أنسى حصة عائلتي وأولادي الستة من هذه الحلويات الشهية كل يوم".

من أحد محال الحلويات في دمشق - تصوير زينة شهلا

لم يعد الناعم "ناعماً"

يعلو صوت أبو نبيل، البائع الأربعيني، في سوق باب سريجة الشعبي وسط دمشق. "قرّب عالناعم يا ناعم"، "يلا عالناعم"، ينادي على بضاعته الرمضانية التي اعتاد بيعها كل عام، وهي أرغفة "الناعم" التي تُعتبر من أكثر حلويات رمضان الدمشقية شعبية وأقلها تكلفة.

مع ذلك، يشتكي الرجل من انخفاض المبيعات نسبياً مقارنة بالسنة الماضية. يقول بحسرة لرصيف22: "مكونات الناعم بسيطة وهي طحين وماء ودبس، لكن المشكلة في أنه عجينة تقلى بالزيت، وسعر الزيت تضاعف بين رمضان الماضي واليوم". بذلك، رفع أبو نبيل سعر كيس الناعم الذي يحتوي ثلاثة أرغفة كبيرة من 1500 ليرة الموسم الفائت إلى ثلاثة آلاف (دولار واحد).

أحد باعة الناعم في دمشق - تصوير زينة شهلا

قد يبدو المبلغ بسيطاً، لكنه ليس كذلك بالنسبة لأم ربيع، السيدة الخمسينية التي تعيش في حي باب الجابية المجاور مع أولادها الثلاثة، بعد وفاة زوجها ونزوحهم من غوطة دمشق الشرقية منذ سبع سنوات.

"إذا أردنا أن نتحلى كل يوم على سفرة رمضان، فذلك يعني على الأقل 90 ألف ليرة فقط كي نشتري كيساً من الناعم، أو قطعتين من المعروك (عجينة تُحشى بالتمر أو السكر أو الزبيب)"، تقول لرصيف22، وهي تسير في السوق باحثة عن بعض ما يلزمها بأقل أسعار ممكنة، ومحاولة التأكد كما تفعل كل يوم إنْ كانت أسعار الحلويات انخفضت، ولو قليلاً.

"الناعم لم يعد ناعماً، ورمضان بات صعباً وثقيلاً للغاية"، تضيف بنبرة حزينة.

أحد باعة الناعم في دمشق - تصوير زينة شهلا

الأكل قبل الحلويات

رغم "الحركة القليلة" غير المألوفة في شهر رمضان، لا يفكر باعة الحلويات في أسواق دمشق بالتوقف عن العمل يوماً واحداً، بل يكيّفون قوائم منتجاتهم وأسعارها مع الظروف الاقتصادية المتغيرة في البلد الذي دخل عامه الحادي عشر من الحرب.

في أحد المحال الشعبية في سوق الجزماتية، ينشغل أبو محمد بتوضيب أطباق كبيرة تحتوي على الحلويات الدمشقية الأشهر: النمورة والهريسة والوربات والشعيبيات والقطائف، لكن عدد الأطباق هذا العام هو الأقل مذ بدأت الحرب. يقول لرصيف22: "العام الماضي كنا نصنع يومياً عشر صوانٍ من النمورة، وهي من الحلويات الأقل سعراً وبالتالي الأكثر طلباً، وهذا العام لا تتجاوز مبيعاتنا اليومية أربع صوانٍ، ويمكن القياس على ذلك بالنسبة لباقي الأنواع".

من أحد محال الحلويات في دمشق - تصوير زينة شهلا

في الجوار، يقف أبو عماد منتظراً دخول أي زبون إلى محله الصغير المتخصص ببيع القطائف والنمورة. يشير إلى أن "حركة البيع" كانت مقبولة في الأيام الأولى من رمضان، لكنها انخفضت بشكل ملحوظ في ما بعد، ويردّ الأمر إلى أن الناس كانوا فرحين بقدوم الشهر وأرادوا الاحتفاء بالأمر، لكن للأحوال الاقتصادية كلمتها العليا: "الناس ما بدها تشتري حلو، الناس بدها تاكل"، يقول لرصيف22 متأسفاً، ويشرح أن أقل سعر يمكن دفعه لقاء كيلوغرام واحد من الحلويات هو 10 آلاف ليرة سورية (3 دولارات)، ما يعادل خُمس راتب كثيرين من موظفي القطاع العام.

"كيف لنا أن نبيع بأقل من ذلك إذا كان سعر كيلو الفستق يتجاوز سبعين ألف ليرة (23 دولاراً)؟"، يقول بائع في محل ثالث مجاور، متخصص ببيع الحلويات الشرقية الفاخرة، وينوه إلى أن أرباح أي صانع حلويات، كما هو الحال بالنسبة إلى كل المهن الأخرى، انخفضت بشكل هائل خلال الأعوام العشرة الفائتة. "كنّا قبل الحرب نشتري كيلو الفستق بألف ليرة، ونبيع كيلو الحلويات الشرقية بألف. اليوم نشتري الفستق بـ75 ألفاً، ونبيع الحلويات بـ45 ألفاً. حتى متى سنتمكن من تحمّل هذه الأعباء؟".

يقطع الحديث رجل يسأل بخجل عن أسعار عدة أنواع من الحلويات. يتنهد البائع ويقرر تخفضيها قليلاً، ويقول: "هو شهر كريم، ولا مهرب من أن نكون رحماء مع بعضنا البعض".

من أحد محال الحلويات في دمشق - تصوير زينة شهلا

إذا أردنا أن نتحلى كل يوم على سفرة رمضان، فذلك يعني على الأقل 90 ألف سورية ليرة فقط كي نشتري كيساً من الناعم، أو قطعتين من المعروك. الناعم لم يعد ناعماً، ورمضان بات صعباً وثقيلاً للغاية

"سامحونا"

الوضع في لبنان المجاور لا يبدو أفضل حالاً بكثير، فالانهيار الاقتصادي المستمر منذ أكثر من عام، بعد انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وانفجار بيروت في آب/ أغسطس 2020، طال كل شيء، بما في ذلك حلويات رمضان، التي لا تخلو منها عادة موائد إفطار اللبنانيين. والقدرة الشرائية للبنانيين باتت شبه معدومة بعد أن لامس الحد الأدنى للأجور 70 دولاراً شهرياً، بينما الأسعار في ارتفاع مستمر نتيجة انخفاض قيمة الليرة اللبنانية.

أمام محل "صفصوف" في طريق الجديدة ببيروت، ينتظر الناس قبل ساعات الإفطار دورهم للدخول وشراء الحلويات الشهيرة.

يشرح أحد العمال في المحل لرصيف22 أن الوجوه هذا العام اختلفت، فالعديد من العائلات التي كانت تقصدهم العام الفائت لم تظهر هذه السنة، وفي حال ظهرت أصبحت تشتري كميات قليلة، أما الكميات الكبيرة فتشتريها العائلات المقتدرة مادياً، والأجانب المقيمون في المدينة.

من محل صفصوف للحلويات في بيروت - تصوير نغم شرف

أمام المحل وضعت إدارة صفصوف ورقة بالأسعار الجديدة، وفي نهايتها طلبت السماح من الزبائن، كاتبة "سامحونا"، فالأسعار تضاعفت عن العام الماضي، ودزينة الكلاّج –وهي عجينة تحشى بمواد مختلفة- التي كانت تكلّف 24 ألف ليرة صارت اليوم تكلّف 84 ألف ليرة (7 دولارات)، والسّبب ارتفاع أسعار المواد الأولية خاصة السمن.

على الطريق وجوه تنظر الى الحلويات ولا تبتاعها، وأخرى صارت تبتاع كميات أقل بكثير مما اعتادت شراءه العام الماضي، وهناك مَن لم يتغيّر الحال عندهم لأنهم يحصلون على رواتبهم بالدولار. هذا المحل الصغير في طريق الجديدة ومن خلال حلوياته يعكس الانهيار الاقتصادي والفروقات الطبقية في لبنان.

من محل صفصوف للحلويات في بيروت - تصوير نغم شرف

"يا حلو مين يشتريك؟"

يجلس السيد شكري (77 عاماً) على الدرج الذي اتّخذه مأوى له قبل حوالي العام في شارع الحمراء غرب بيروت، ويبكي لأنه غير قادر على الصيام.

العام الماضي وبعد تعرّضه لحادث سير أفقده قدرته على استخدام رجله اليمنى، صار عاطلاً عن العمل وتشرّد في الشارع وبات يعيش على المساعدات والإعانات.

السيد شكري على درج أحد الأبنية في شارع الحمرا - تصوير نغم شرف

عند سؤاله عن الحلويات التي يحب تناولها في رمضان شرح أنه غير قادر على تخيّل الحلوى فعقله لا يفكّر سوى بالحساء، وقال بلهجته المصرية: "العام الماضي كنت أصنع الحلوى في منزلي، فأنا مصري مقيم في لبنان منذ 50 عاماً، عملت في مجال المحاسبة ومن هواياتي الطبخ. أعطني منزلاً ومطبخاً وشاهديني أصنع أطيب المأكولات. اليوم أنا غير قادر على شراء أكثر من منقوشة زعتر، والحلويات الرمضانية أحلم بها فقط، وأوجّه خيالي نحو معمول القشطة. حلو إيه ده؟ يا حلو مين يشتريك؟".

يتراوح سعر كيلو معمول القشطة اليوم بين 60 و70 ألف ليرة، وبالتالي، السيد شكري مثله مثل العديد من العائلات اللبنانية التي لا يتجاوز دخلها الشهري 900 ألف ليرة، صاروا غير قادرين على تحقيق أحلامهم البسيطة بالحصول على الحلويات التي يرغبونها، فالأخيرة صارت تعتبر من كماليات الحياة، والأولوية لتأمين الخبز والسكّر والأرزّ.

اليوم أنا غير قادر على شراء أكثر من منقوشة زعتر، والحلويات الرمضانية أحلم بها فقط، وأوجّه خيالي نحو معمول القشطة. حلو إيه ده؟ يا حلو مين يشتريك؟

قشطة مصنوعة في المنزل

مع الارتفاع الكبير في الأسعار، صار على الصائم أن يجد بدائل عن المدلوقة وحلاوة الجبن والشعيبيات والكلاج والقطائف، وهي الحلويات الرمضانية الأشهر في لبنان، لكن شراءها لم يعد بمتناول الجميع، فسعر دزينة الشعيبيات (12 قطعة) يتراوح بين 20 و40 ألف ليرة، بعد أن كان ستة آلاف في العام الماضي، والأمر نفسه ينطبق على المدلوقة التي تضاعف سعرها من 20 إلى 40 ألف ليرة. أما حلوى القطايف وهي الأرخص، ارتفع سعرها من ستة إلى 12 ألف ليرة. كل ذلك ورواتب اللبنانيين بقيت على حالها.

لذلك، قررت الحاجّة جميلة هذا العام شراء عجينة القطائف بخمسة آلاف ليرة لبنانية، وأن تضيف إليها القشطة المصنوعة في المنزل. بالتأكيد هي لن تحصل على ذات طعم القطائف المشتراة من السوق، لكن تكلفة "الجاهز" فوق قدراتها المادية.

الحاجة جميلة وهي تحمل طبق ليالي لبنان - تصوير نغم شرف

تقف الحاجة جميلة وهي تحمل ما تبقّى لديها من "ليالي لبنان" أو القشطلية، وهو نوع حلويات لا يكلّف صنعه الكثير، ومكون من الحليب والسميد والسكر بشكل أساسي.

تقول جميلة بحزن لرصيف22: "بعد مدّة، حين ينتهي مخزون الحليب، سأكفّ عن صنع كل أنواع الحلوى حتى تلك الرخيصة، وسأوفّر الأموال لشراء الطعام لي ولزوجي التسعيني".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image