شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"زلابية وقلب اللوز وجوزية"... خارطة من الحلويات الرمضانية في قسنطينة الجزائرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 8 مايو 202102:29 م

للزائر مرةً واحدةً في العام، طقوسه الخاصة في البيت والشارع، بين الناس، في المساجد والبقالة، وفي كل مكان يمكن للقدمين أن تحطا فيه.

يمكنك وأنت الغريب عن المدينة أن تشمّ رائحة رمضان من بعيد، والمُقيم فيها يعرف أن هذه الطاولات الممتلئة بحلوى المكسرات أو الجوزية ما هي إلا مشهد راسخ ليوم رمضاني دافئ.

ستحملك قدماك إلى وسط قسنطينة الجزائرية، حيث تصطف الروائح آتية من كل "زلابجي"، كما يُسمى بائع الزلابية ومشتقاتها، إذ تزدهر تجارة الحلويات التقليدية منذ بداية هذا الشهر وحتى آخر يوم فيه، وتحتفي العائلات كل على طريقتها، ولكن يجمع بينها صحن من الحلويات المحلية الخالصة، الغارقة في رائحة ماء الزهر والعسل.

تخبرنا السيدة الستينية حورية خ، بأن الحلويات في قسنطينة لم تتغير. ما زالت الأماكن والأيام تحتفظ بالروائح، والأيادي تتناقل الطريقة جيلاً بعد جيل، وكثيراً ما تورث الصنعة مع الأماكن المخصصة لها: الزلابية بأنواعها، الصامصة مثلثة الشكل، قلب اللوز، حلوى المكسرات والجوزية التي تحضر من العسل والبيض والجوز، والكوكاوية.

تزدهر تجارة الحلويات التقليدية في قسنطينة الجزائرية خلال رمضان، وتحتفي العائلات بصحون الحلويات المحلية الغارقة في رائحة ماء الزهر والعسل.


أقدم بائع للزلابية

في زيارة لأقدم بائع للزلابية في المدينة، التقى رصيف22 الحاج م. الذي رفض تصويره أو التعاطي إلا قليلاً مع دكانه الذي يعود إلى قرن من الزمن بالطريق الجديدة وعلى مقربة من ضريح السيدة.

سرد الرجل جزءاً من سنواته الطوال في هذا المكان بين روائح العجين المقلي بالزيت والملاعق الطويلة في قدور العسل: هذه مهنة "الفطايري"، والفطاير عبارة عن عجينة على شكل حلقة مختمرة طويلاً، تُقلى وتباع في الصباح الباكر حيث يمرّ المشترون بعد صلاة الفجر، أو عند توجههم إلى أعمالهم، بعدها تحضر حلوى "المقرود"، وهي عجينة من السميد والسمن بحشو من عجينة التمر، تُقلى وتوضع في العسل. هذا برنامج مكرّر في الأيام العادية، حيث تبدأ النهارات مبكراً ليستمر البائع لحدود المغرب ببيع الفطائر التي تستهلك عادة مع الحليب والقهوة بعد العصر. أما في رمضان فالأمر مختلف.

يُعرّفني الحاج على أنواع الزلابية التي يحضرها مشيراً بأصابعه إلى كل واحدة على حدة: زلابية تونسية (سميت كذلك لأن كثراً من صناعها كانوا من تونس)، مقرقشات، بنانية، زلابية خشينة، تمرية، صبع العروس، بالإضافة إلى المقرود بأحجامه المختلفة.

الزلابية والمقرمشات والبنانية

الزلابية والمقرمشات والبنانية - تصوير هاجر شويط

تصنع الزلابية -التي تعتبر من أرخص الحلويات الجزائرية- من الطحين المختمر ليومين، وهي واحدة من الطرق المصرّح عنها بين طرق كثيرة لا يفصح عنها باعتها، فهذا "سر المهنة" كما يقال، ترسم بشكل كف اليد على الزيت، وما إن تأخذ اللون الأحمر الذي يميل للبني تنقل إلى قدر من العسل ثم تُصفى وتقدم للزبون. ويبلغ سعر الكيلوغرام منها حوالي 400 دينار (ثلاثة دولارات).

يردد البائع بحسرة: "لم نستطع تحضير كل أنواع الحلويات كما تعودنا هذا العام، بسبب أزمة الزيت التي تمر بها البلاد من نهاية شباط/ فبراير الفائت، كما أن الإقبال على الاقتناء أقل هذا العام بسبب كورونا. رغم أننا استطعنا العمل عكس العام الماضي حين فرض علينا الإغلاق والحظر، إلا أن أغلبية الناس يعانون مادياً وما عادوا يستهلكون الزلابية كما السابق".

يتجمّع المشترون أمام المحل بعد صلاة العصر، إذ يضمنون الحصول على زلابية ساخنة ومقرمشة، مع اقتراب آذان المغرب. هكذا ينهي الرجل كلامه محضراً طلبيات الزبائن.


"سنيوات" قلب اللوز

في ليالي رمضان الأولى، تكتب صديقة على صفتحها على فيسبوك أنها تريد "سنيوة (صينية) قلب اللوز" من قسنطينة، وهي المنتقلة منذ سنوات قليلة للعاصمة.

يبدو الطلب كوميديا ساخراً، لكنها تخبر الأصدقاء ومعارفها بجدية بالغة أنها تريد "قلب اللوز" التي تعد في قسنطينة تحديداً، فهناك تحضر في صينيات صغيرة وليس كبيرة كما في العاصمة، مما يمنحها طعماً خاصاً ومتفرداً.

في الحي العتيق لمدينة قسنطينة، يوجد محل متخصص في تحضير قلب اللوز، لا سلعة معروضة غير "سنيوات" من هذه الحلوى، يهجم عليها النحل لرائحة الزهر والعسل التي تخرج من المحل لتصل أنف كل مارٍ.

حلويات قلب اللوز

حلويات قلب اللوز - تصوير هاجر شويط

في المحل متوسط المساحة يقف رجل في العقد السادس من عمره، بشوش ويرتدي مئزراً أبيض، ليخبرني أنها سميت مؤخراً هكذا، ولكن في العقود الماضية كانت لها تسمية خاصة في قسنطينة "الهريسة الحلوة"، لتفريقها عن "الهريسة الحارة" التي تعد من الفلفل الحار. ولانتشارها في كامل الجزائر بهذا الاسم اعتمد هنا أيضاً، وقد سميت هكذا لأنها تحوي طبقة من اللوز المطحون بالداخل، وتصنعُ أساساً من السميد الخشن والسكر، ومادة دسمة (زيت، سمن، زبدة)، وقد تستبدل طبقة اللوز الداخلية بالفول السوداني لتكون أقل سعراً، ويمكن أن تصنع منزلياً أو ضمن المحلات.

هناك خارطة تفتحها أمامك المدينة لصناع الحلوى، فكل ثلاثة أمتار أنت على موعد مع طاولة للصامصة أو قلب اللوز، أو محل ينهمك صاحبه بإعداد الزلابية، ومارة من مختلف الأعمار حاملين أكياساً تعرفها من الخارج، على الأخص تلك الأكياس البنية التي ترتسم عليها بقايا العسل

يقول البائع إن الإقبال على شراء هذه الحلويات قلّ بسبب السعر الذي يتزايد مع غلاء المواد الأساسية المكونة، خاصة السكر والزيت، بالإضافة إلى ما خلفته أزمة كورونا على جيب المواطن، حيث فقد الكثير من الموظفين مناصبهم بعد توقف المشاريع بسبب ظرف الفيروس، أو المشاريع التي كانت لرجال أعمال مقربين من النظام السابق.

ويبلغ سعر صينية قلب اللوز 250 ديناراً (حوالي دولارين)، في حين أن متوسط الدخل الفردي في الجزائر لا يتجاوز 200 دولار. بالنسبة للمتحدث، وهو رب عائلة، كان معتاداً على توفير قرابة 600 دولار كل عام لرمضان، لكن الأمر مختلف بعد ما شهده العالم، فكثيرون فقدوا أعمالهم، ومن لم يفقد عمله نقصت أجرته، وأصحاب العمل أنفسهم قاموا بخفض الإنتاج بسبب انخفاض الطلب، خاصة على الحلويات الأغلى سعراً مثل الجوزية، وتباع بالقطعة وسعرها نصف دولار.

"مع هذا فهناك مشترون يواظبون على الاقتناء شبه اليومي، فقلب اللوز حلوى رمضانية بامتياز، وعروس اللمات والسهرات الرمضانية مع كؤوس الشاي"، يختتم حديثه.


ماء وسكر وملون

يتواجد مشروب "الشربات" بشكل أوسع في رمضان، ولا يكاد يكون متواجداً خارجه، ويباع ضمن أكياس من مصانع مختصة أو في قارورات بلاستيكية شفافة على طاولات تصف على الأرصفة.

اقتربت من أحد الباعة الشباب، حيث يصف عشرات القارورات الشفافة على طاولته الخشبية، ليصرح بأنه يبيع ما لا يقل عن 60 لتراً كل يومين، ويبلغ سعر اللتر الواحد 70 ديناراً (نصف دولار). ويصنع المشروب من الماء والسكر، مع نكهة الليمون وملون أصفر يميل للاخضرار، وعادة ما يقدم على طاولة الإفطار كمشروب بارد، ومانع للشعور بالتخمة.


خبز الدار عوضاً عن الخبز العادي

تعمل المخابز طيلة السنة، مخابز للخبز العادي الذي يستهلك بشكل يومي، خبز السميد، البريوش، والكرواسان، وتزدهر تجارة البريوش وخبز الدار في هذا الشهر، حيث يعد خبزاً أخف وبطعم أطيب مناسباً للأكلات الرمضانية مع الطواجن الحلوة وتحليات المساء.

لم نستطع تحضير كل أنواع الحلويات كما تعودنا هذا العام، بسبب أزمة الزيت التي تمر بها البلاد من نهاية شباط/ فبراير الفائت، كما أن الإقبال على الاقتناء أقل هذا العام بسبب كورونا. أغلبية الناس يعانون مادياً وما عادوا يستهلكون الزلابية كما السابق

فيصل واحد من هؤلاء المختصين في إعداد "خبز الدار" الذي يتكون من السميد عوض الطحين الذي يعد به الخبز العادي، الزيت، ماء الزهر، والخميرة، ويشكل كدوائر متفاوتة الحجم مع تزيينه بالسمسم وحبة البركة، حيث تباع القطعة الواحدة بدولار.

يقول فيصل (40 عاماً) لرصيف22 أن المخبز يعمل بشكل أفضل خارج رمضان، ذلك أن الكثير من التجار يتحولون من نشاطاتهم التجارة الأساسية إلى النشاطات الأكثر رواجاً في رمضان كالحلويات التقليدية وخبز الدار، هكذا يتجه الزبائن لأقرب مكان للاقتناء. مع ذلك فهناك زبائن دائمون، يعتبرون هذا النوع من الخبز أساسياً لطاولة الإفطار أو بجانب التحليات.

خبز الدار

خبز الدار - تصوير هاجر شويط

فرصةٌ لتغيير النشاط التجاري

المحال التي يتحول نشاطها خلال هذا الشهر كثيرة، كيفما تمد بصرك، ستشاهد بائعاً يرتدي مئزراً أبيض ويصنع نوعاً من الحلويات. في منتصف زقاق قديم يبيع أحد المحال الصامصة "المورقة" وهي شبيهة إلى حدٍ ما بالسمبوسة لكن العجين الخارجي يصنع من الطحين والسمن مع ماء الورد والخميرة، وتُقدّم بحشوات مختلفة: فول سوداني، جوز ولوز، أو أي نوع من المكسرات المتوفرة، فيختلف سعرها وفق ذلك، ويبلغ وسطياً ثلاثة دولارات للكيلوغرام الواحد.

ووفق الأخوين كمال وعبد الرزاق، وقد حولا نشاطهما في رمضان من المأكولات الخفيفة إلى الصامصة، توجها بشكل أساسي لاستخدام حشوة الفول السوداني وهي أكثر اقتصادية وبالتالي تشهد إقبالاً من المشترين. يقولان في لقاء مع رصيف22: "هذا العام سيء للتجارة، فقد تراجع إنتاجنا اليومي بشكل ملحوظ بسبب انخفاض الإقبال".

الصامصة والزلابية

الصامصة والزلابية - تصوير هاجر شويط

خارطة للحلويات الرمضانية، وأخرى لحلويات العيد

هناك خارطة تفتحها أمامك المدينة لصناع الحلوى، فكل ثلاثة أمتار أنت على موعد مع طاولة للصامصة أو قلب اللوز، أو محل ينهمك صاحبه بإعداد الزلابية، ومارة من مختلف الأعمار حاملين أكياساً تعرفها من الخارج، على الأخص تلك الأكياس البنية التي ترتسم عليها بقايا العسل.

هذه مناظر لا بد أن تعيشها كل عام، ثم تبدأ في الانسحاب تدريجياً من الصورة في الأسبوع الأخير من رمضان، لينتقل المواطنون تدريجياً لمحلات بيع مستلزمات حلويات العيد المختلفة تماماً عن الحلوى الرمضانية، والتي تعد غالباً في البيوت وتعرض أيضاً لدى محلات بيع المرطبات حسب الطلب، ومنها البقلاوة والغريبية والصابلية والقطائف، كأن المدينة تخبرك: "لكل مناسبة حلوياتها الخاصة، ولكل حلويات أهل اختصاص".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image