في العام 2011، تابع محبّو الدراما في سوريا وحول الوطن العربي، مسلسل "الغفران"، ويحكي قصة حب تدور أحداثها في مواقع عدة. في الحلقة الحادية عشرة من العمل الذي أخرجه حاتم علي، وألّفه حسن سامي يوسف، تتكلل قصة الحب بالزواج، ويذهب الزوجان (باسل خياط وسلافة معمار)، لقضاء شهر عسلهما في مدينة تدمر التاريخية الشهيرة شرق سوريا.
كان هذا هو المسلسل الأخير الذي يصوَّر جزء من أحداثه في المدينة الأثرية قبل أن تطالها نيران الحرب، فتدمِّر جزءاً منها، وتجعل الوصول إليها، خاصةً لأغراض فنية ودرامية، صعباً للغاية، وهي التي شكّلت مع ما حولها من صحراء شاسعة، خلال العقود السابقة للحرب، موقعاً ثرياً لتصوير العديد من الأعمال الدرامية. ومن منّا لا يذكر مثلاً مسلسل "العبابيد 1997" الذي يحكي عن مملكة تدمر وعاداتها وتقاليدها، والذي صُوّر العديد من مشاهده فيها؟
ليست تدمر وحدها، بل يطول الحديث عن عشرات المواقع التي تتوزع في أرجاء سوريا، ولها خصوصية سواء طبيعية أو أثرية أو تاريخية أو عمرانية، وشكّلت في ما مضى "استديو تصوير غني"، يفتح للكتاب والمخرجين والمصورين باباً واسعاً لإنتاج أعمال درامية تستفيد من تلك المواقع المتنوعة، وتستلهم منها.
لكن الأمر لم يعد بهذه الأريحية في السنوات العشر الأخيرة. فعدا عن دمار العديد من المواقع، أو صعوبة وربما استحالة الوصول إلى أخرى، فقدت أماكن كثيرة متاحة للتصوير داخل سوريا جماليتها، وبات التشوّه والفوضى البصرية طاغيَين عليها، ويدفع ذلك بكثيرين من صناع الدراما السورية، التي ينتظرها المتابعون حول الوطن العربي في كل موسم رمضاني، لاجتراح حلول تصل بهم إلى النتائج الدرامية والبصرية التي يريدونها.
فقدت أماكن كثيرة متاحة للتصوير داخل سوريا جماليتها، وبعضها دُمّر أو بات الوصول إليه صعباً.
ويشهد هذا الموسم عرض قرابة 20 مسلسلاً سورياً، تتنوع بين الاجتماعي؛ "مع وقف التنفيذ"، و"على قيد الحب"، و"كسر عضم"، والشامي؛ "باب الحارة" و"جوقة عزيزة" و"بروكار"، والكوميدي؛ "الفرسان الثلاثة" و"حوازيق"، والبوليسي؛ "مقابلة مع السيد آدم". ولا ينكر القائمون عليها مواجهتهم تحديات عدة في ما يتعلق بمواقع التصوير، بدءاً من كتابة النص، واختيار أماكن ملائمة يمكن التصوير فيها، وصولاً إلى تجهيزها ضمن ظروف عمل صعبة للغاية.
سلاح ذو حدين
وسط درجات حرارة متدنية، وفي شقة مكونة من ثلاثة طوابق تقع في ضاحية "قرى الأسد" غرب دمشق، ينشغل فريق مسلسل "مع وقف التنفيذ"، قبيل حلول شهر رمضان بأيام قليلة، لإنهاء تصوير مجموعة من أواخر مشاهد العمل الاجتماعي الذي كتبه كل من علي وجيه ويامن الحجلي، ويخرجه سيف السبيعي.
بين مشهد وآخر، يمازح المخرج والممثلون وفريق التصوير بعضهم حول "البرد الشديد" في المبنى، مع عدم القدرة على تشغيل وسائل تدفئة نظراً لانقطاع التيار الكهربائي، والاعتماد على المولدات التي بالكاد تكفي طاقتها معدّات التصوير. "هذا العام نعمل في ظروف استثنائية جداً"، يقول المخرج السبيعي في لقاء مع رصيف22 داخل الموقع، ويضيف مبتسماً: "برد غير مسبوق. أكلنا كلّ البرد آخر أسبوعين".
من مسلسل "مع وقف التنفيذ"
تبدأ هذه الظروف من النقص الحاد في المواد الأولية والوقود، ولا تنتهي عند صعوبة العثور على مواقع تلائم النصوص والحالة الدرامية المطلوبة في الوقت نفسه. ويشرح السبيعي عن ذلك قائلاً: "المواقع أصبحت أقل، والتنقل بينها بات أصعب، وحتى الشوارع التي يمكننا التصوير فيها تعاني من مشكلات مثل انقطاع الكهرباء وتالياً الظلام شبه الدامس، ووجود المولدات الكهربائية، وهي عناصر لا تخدم العمل، فنحن في نهاية المطاف لا نصوّر عملاً وثائقياً أو تسجيلياً، وإنما دراما تشبه حياة الناس لكنها تحتاج إلى عناصر جميلة بصرياً".
وتدور أحداث "مع وقف التنفيذ" بشكل أساسي في حارة في أطراف دمشق، عاد ساكنوها إليها بعد سنوات الحرب، وفي مواقع أخرى مختلفة ضمن المدينة وضواحيها، وجدير بالذكر أن المسلسل كسر حالة الحصار التي فُرضت على الدراما السورية خلال سنوات الحرب على صعيد الانتشار، إذ تعرضه محطة MBC السعودية، كأول عمل سوري اجتماعي منذ العام 2011.
المواقع أصبحت أقل، والتنقل بينها بات أصعب، وحتى الشوارع التي يمكننا التصوير فيها تعاني من مشكلات مثل انقطاع الكهرباء وتالياً الظلام شبه الدامس، ووجود المولدات الكهربائية، وهي عناصر لا تخدم العمل، فنحن لا نصوّر عملاً وثائقياً أو تسجيلياً
لكن المخرج ذا الخبرة الطويلة في مجال الإخراج والتمثيل، يشير إلى أن الحرب بشكل من الأشكال أعطت المادة النصية حالاتٍ مختلفةً وصراعات جديدةً، ما أدى برأيه إلى نشوء دراما تحاول الاستفادة من هذه الصراعات التي حولت قصص الناس من حكايات يومية عادية إلى مشكلات حقيقية. "إذاً هي سلاح ذو حدين"، يضيف.
وتتمثل صعوبة أخرى وفق حديثه بعدم قابلية الوصول إلى بعض المواقع حتى داخل دمشق، "فمثلاً كنا ننوي تصوير مشهد تحت قبة مجلس الشعب لكن لم يُسمح لنا بذلك، فاستعضنا عن الأمر بالتصوير داخل قاعة على أنها من قاعات المجلس. الحلول دائماً حاضرة حتى نتمكن من إنجاز العمل على أكمل وجه".
المدن السورية "متهالكة"
لا تتوقف مراعاة الحالة الراهنة لمواقع التصوير المتاحة في سوريا على الإخراج والتصوير فحسب، بل تبدأ من مرحلة كتابة النص، إذ لا بد أن يفكر كتاب السيناريو في ما هو متوافر وقابل للتطبيق بشكل واقعي منذ البداية، فلا يلجؤون إلى خطوط درامية في أماكن صعب الوصول إليها، وهو ما يشير إليه الكاتب والسيناريست علي وجيه، خلال لقاء مع رصيف22، ويضيف أنه خلال مرحلة الكتابة، كثيراً ما يستعين برأي المخرج لمعرفة إمكانية استخدام موقع ما، خاصةً بالنسبة إلى المشاهد والحكايات التي يصفها بأنها "غير مألوفة".
ويتفق وجيه مع السبيعي حول الأثر الذي تركته الحرب، "فهي من جهة حرمتنا من مواقع كثيرة طبيعية وعمرانية وأثرية، ومن جهة وفّرت لنا، بكل أسف، خيارات أخرى لمن يرغب بإضافة خطوط درامية ضمن مواقع مدمّرة على سبيل المثال".
من أحد مواقع تصوير مسلسل "على قيد الحب"
أما المواقع المتاحة للتصوير اليوم، كما يقول وجيه، فهي متهالكة وتعيش حالةً من الفوضى البصرية والخدمية والإهمال الذي لا بد للكاميرا أن تلتقطه مهما حاول فريق العمل ألا يحدث ذلك. "تفتقد الأماكن اليوم اللمسة الجمالية التي كانت موجودةً في السابق، وإن كانت للأمر دلالات درامية، فهو حقيقة ما نعيشه اليوم في سوريا، لكنه سلبي من الناحية الجمالية"، يشرح.
ولا تتوقف الصعوبات عند ذلك وفق حديث الكاتب، فإلى جانب هجرة الكثير من الكوادر الخبيرة، والصعوبات التقنية للعمل، فإن التصوير في سوريا أحياناً يغدو عملاً خطيراً، فكثيراً ما تساقطت القذائف في أماكن التصوير، وقد تسببت أحياناً بخسارات في الأرواح، وحتى اليوم ما زال الوصول إلى بعض المواقع محفوفاً بالمخاطر، ويذكر مثالاً عدم قبول كثيرين من الممثلين/ ات والكوادر الفنية التوجه نحو مواقع صحراوية بعيدة خوفاً من أحداث أمنية لا تُحمد عقباها، والاستعاضة عن ذلك بالتصوير في مناطق في محيط دمشق مثل "قطنا"، ذات الطبيعة المشابهة نوعاً ما.
لم ندخل أبداً على أي موقع جاهز. معظم المواقع يطغى عليها التلوث البصري والقِدم الواضح، ويستلزم الأمر منا تجهيزاتٍ كبيرةً، خاصةً على صعيد الديكورات. ندخل إلى المواقع التي نختارها ونضع عليها لمستنا الخاصة لتكون ملائمةً لما نريد قوله
المواقع غير مجهزة
بالنسبة لباسم سلكا، وهو مخرج "على قيد الحب"، فإن الحديث عما فرضته الحرب من محدودية في مواقع تصوير المسلسلات السورية يُترجَم بشكل أساسي إلى "صعوبة كبيرة في العثور على أماكن ملائمة داخل دمشق"، وفق ما يقوله في لقاء مع رصيف22، من أحد مواقع تصوير المسلسل الكائن في منزل تقليدي كبير في حارات دمشق القديمة. ويتحدث النص، وهو من كتابة فادي قوشقجي، عن عائلتين بينهما علاقات قرابة وصداقة قديمة، ويتعرض أفرادهما لأزمة تضع تلك العلاقات على المحك.
في غرفة صغيرة داخلية يجلس المخرج الشاب وراء شاشة كبيرة تتيح له رؤية ما تلتقطه الكاميرا في فسحة المنزل الخارجية، وينتبه لتفاصيل دقيقة تتعلق بالديكورات ومواقع بعض قطع الأثاث، فيطلب من الممثلين وكادر التصوير إعادة المشهد. "تدور أحداث المسلسل، وهو دراما اجتماعية تنتمي إلى الزمن الجميل بصيغة جديدة، في منازل دمشقية عدة، وهذه الصيغة تتطلب منا إبراز المدينة بشكل جميل كما هي في ذاكرة كثيرين، لكن بالطبع من دون مبالغة أو انفصال عن الواقع".
من أحد مواقع تصوير مسلسل "على قيد الحب"
لم يكن الأمر سهلاً كما يقول سلكا، "فنحن لم ندخل أبداً على أي موقع جاهز، سواء في دمشق القديمة، أو في مناطق الروضة وأبو رمانة وغيرها من الأحياء. معظم المواقع يطغى عليها التلوث البصري والقِدم الواضح، ويستلزم الأمر منا تجهيزاتٍ كبيرةً، خاصةً على صعيد الديكورات. ندخل إلى المواقع التي نختارها ونضع عليها لمستنا الخاصة لتكون ملائمةً لما نريد قوله".
يضيف سلكا أن الظرف الإنتاجي لم يكن عاملاً مساعداً للدراما السورية في السنوات الأخيرة، وهو كان أشبه "بعنق زجاجة" وفق تعبيره، إذ أحجم كثيرون من المنتجين عن صرف ميزانيات كافية، تخوفاً من عدم إمكانية تسويق المسلسلات وبيعها، لكنه يرى أن الأمر اليوم آخذ في التحسن، إذ عرف المنتجون أن العناية بتفاصيل الأعمال الدرامية شرط أساسي لجودتها، وتالياً تسويقها، وهو أمر له أثره الإيجابي من دون شك على كثير من النواحي، ومن ضمنها اختيار مواقع التصوير وتجهيزها كما يلزم.
من أحد مواقع تصوير مسلسل "على قيد الحب"
هو واقع جديد فرضته الحرب على الدراما كما على كامل البلاد، ولا رجعة عنه. يتمنى كثيرون من العاملين في هذا المجال أن تعود خيارات الكتابة والتصوير والإخراج غير محدودة بأي قيود كما في السابق. مثلاً، يحب سيف السبيعي أن تتاح له فرصة التصوير في مسرح بصرى جنوب سوريا، ويأمل علي وجيه بأن يكتب خطوطاً دراميةً جديدةً تتناول مختلف المدن السورية بشكلها الحقيقي، وليس فقط دمشق كما هو حال معظم الأعمال التلفزيونية، لكنه أمر مرهون بالحرب وتبعاتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...