شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الدراما السورية والتطبيع مع تعدد الزوجات

الدراما السورية والتطبيع مع تعدد الزوجات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 21 مايو 202112:16 م

تنحت الدراما السورية في الصخر منذ بدء الحرب في سوريا، لتحاول أن تثبت وجودها بعد أن بدأ يخفت وهجها في سنوات الحرب، نتيجة الضعف الاقتصادي الحاصل في البلاد. لكنها على الرغم من الحصار الذي فُرض عليها من قنوات عدة، وامتناع الأخيرة عن شراء المسلسلات السورية، ظلت سوريا تقدم أفكاراً مهمة يُحكى بأمرها. بقيت الأعمال المهمة معدودةً على الأصابع في كل موسم، بعد أن كانت المواسم زاخرة بالأعمال التي تطرح القضايا المجتمعية التي يمكن إسقاطها على كل واقع عربي. في الموسم الأخير، حلّت المسلسلات السورية ضيفة على الشاشات، لكن ما كان واضحاً في جُلّ هذه الأعمال هو "ذكورية" النصوص المكتوبة، التي تهمّش قضايا النساء، وتكرّس تقبُّل فكرة تعدد الزوجات بشكل مبالغ فيه، وذلك في أعمال عدة تنوعت بين البيئات الشامية والمعاصرة والبدوية.

بات لا يمر عمل شامي إلا ويكرّس فكرة تعدد الزوجات، وكأنها حالة أساسية ودائمة في حارات دمشق القديمة، علماً أن تعدد الزوجات في ذلك الوقت، وإن كان موجوداً، إلا أنه لم يكن بهذه الفجاجة، أو مقبولاً من عائلة الزوجة، ولا من الزوجة نفسها. لكن دراما البيئة الشامية في مسلسلات هذا العام، تبيّن أنها حالة طبيعية تخضع المرأة لها، وتقبلها وكأنها من المسلمات، متناسية أن المرأة السورية كانت رائدة في المجال النسوي؛ طالبت بحريتها وحقوقها، وقادت مجتمعات منذ فجر التاريخ لتنهض بواقع بلادها. لكن هذه الأعمال لا تركّز -وليست المرة الأولى- سوى على أن المرأة السورية مجرد شخص في البيت، لا رأي له ولا مشاعر. ففي مسلسل "سوق الحرير" بجزءيه، بدأت الحكاية مع عمران الحرايرى المتزوج من أربع نساء، يعِشنَ معه جميعاً في منزل واحد. تموت إحداهن وتبقى الثلاث الأخريات. بعيداً عن تفاصيل الحكاية وتشعباتها، تتقبل الزوجات الثلاثة وضعهن نوعاً ما. وحين يقرّرن التمرد، يفاجأن برد فعل الأهل، والمجتمع القامع لهن، ليبقين مخذولاتٍ وراضيات بواقعهنّ، خائفاتٍ من دخول زوجة رابعة حياة زوجهن. وتبدو النساء في العمل منهمكات فقط في إرضاء الزوج، وكسب ودّه.

بات لا يمر عمل شامي إلا ويكرّس فكرة تعدد الزوجات، وكأنها حالة أساسية ودائمة في حارات دمشق القديمة

وفي أولى أجزاء مسلسل "حارة القبّة" المعروض في رمضان 2021، نشاهد قصة اللحام أبي راتب المتزوج بامرأتين، إحداهما صبية في بداية عمرها، ويسعى أيضاً للزواج بالثالثة. يحصل الزواج فعلاً، بعد أن أوقعته امرأة تأخرت عن الزواج بشِباكها، وهي سعاد التي تلعب دورها الفنانة شكران مرتجى. تبحث سعاد عن عريس بأي طريقة، فتجد في وجهها هذا الرجل المسن الذي تبحث له زوجته الأولى عن عروس، لتبدو وكأنها ليست مضطرة للقبول فقط، بل وتريد تسيير أمور زوجها، ولو على حساب كرامتها. يبدأ كيد النساء بعد الزيجة الأخيرة، ويشتعل بينهن، لا سيما من الزوجة الثالثة الجديدة، ويحتدم الصراع على رجل واحد لا يستحق أساساً هذا النزاع، ليصوّر العملُ لنا الزوج على أنه كنز ثمين للمرأة الشامية، ولا تستطيع العيش من دونه، وإن تزوج عليها تبقى مشغولة به، وتريده لها بأي طريقة، منها "السِّحْر" و "الحجابات" التي تُظهر نساء دمشق على أنهنّ ساذجات وسطحيات. كذلك تلعب الفنانة سلافة معمار دور أم العز التي تعرف أن زوجها متزوج عليها منذ سنوات. وعلى الرغم من معرفتها، فقد تحملت وصبرت من أجله وأجل عائلتها. وحين تتعرف إلى "ضرّتها"، تُخلَق حالة ود بينهما، لتتقبل الاثنتان بعضهما بشكل طبيعي، وكأن الموضوع "عادي" وبسيط.

من المستهجن حقاً أن تقبل سلافة بهذا الدور، خصوصاً أنها كانت من أكثر الفنانات السوريات اللواتي شجّعن على التمرد على أفكار المجتمع في أعمالها المختلفة مثل "قلم حمرة"، "ما ملكت أيمانكم"، "زمن العار"، "تخت شرقي" وغيرها. لكننا نجدها في "حارة القبّة" امرأة مكسورة، تتعرض للتعنيف، تخاف الطلاق، ومغطاة بملاءة سوداء تخشى خلعها، لتكرّس أعمال البيئة الشامية من جديد انصياع المرأة لخيارات الزوج، وقبولها بزيجاته وأفعاله العنيفة، حتى وإن لم تكن مبررة.

تعتمد الدراما البدوية على قصص شيوخ القبائل، وصراعاتٍ قد تكون قائمة على الثأر، أو الغنائم. في مسلسل "صقار"، كانت هذه الحكايات ناجزة، لكن أُضيفت إليها قصة تعدد الزوجات. إذ يتزوج الشيخ صقار -يلعب دوره الفنان رشيد عساف- ثلاث مرات، ويبحث عن الرابعة. كذلك يبيّن العمل أنه ليس للمرأة البدوية رأي أو حيلة في هذا الموضوع، فتضطر للقبول صاغرةً، وتحاول أن تبحث عن حلول لإبعاد الزوجة الجديدة عن شيخ القبيلة بالسحر والمكر والحيلة. كانت الأعمال البدوية تركّز سابقاً على القيم والمبادئ الموجودة لدى أهل الصحراء، بالإضافة إلى قصص مختلفة أخرى عن الفروسية، والاقتتال بين القبائل من دون التركيز على موضوع تعدد الزوجات الذي بات محور هذا المسلسل، لنشاهد كيف تبحث النسوة عن وسيلة للتخلص من "ضرّتهن"، فيبدو الشيخ صاحب الرجولة العالية التي تتمنى أن تنالها نسوته.

من المستهجن حقاً أن تقبل سلافة بهذا الدور، خصوصاً أنها كانت من أكثر الفنانات السوريات اللواتي شجّعن على التمرد على أفكار المجتمع في أعمالها

تنتج المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني أعمالاً اجتماعية تليق بالأسرة السورية. وعلى الرغم من التراجع الكبير في مستوى هذه الأعمال، يُحسب للمؤسسة تقديمها أعمالاً اجتماعية جيدة بين الفينة والأخرى. وفي هذا الموسم، كان للمؤسسة مسلسلان أحدهما بعنوان "بعد عدة سنوات"؛ عمل اجتماعي معاصر يحاكي مراحل زمنية متعاقبة تبدأ عام 1989 وتنتهي عام 2014. يكرّس العمل في أحد خطوطه الدرامية الأساسية فكرة تعدد الزوجات، من خلال شخصية "معروف" التي قدمها الفنان سعد مينة. إذ يتزوج بامرأة بعد أن تسبب لها بـ"قَتلة" من والدها المتعصب حين رآها معه على درج البناء، ما أفقدها البصر. يشعر بالذنب فيتزوجها، تاركاً حبيبته ابنة الجيران. لكن بعد مرور سنوات، يقرر العودة إلى حبيبته القديمة، والزواج بها. فيسأل زوجته الأولى التي توافق على هذا القرار، خصوصاً حين عرفت أنه تزوجها شفقةً، وليس حباً. لكن المعضلة تكمن في زواجه الثالث أيضاً، الذي يستأذن به من جديد زوجته الأولى، فترضى مرة أخرى، رداً للجميل الذي فعله معها حين تزوجها وهي ضريرة. فيصبح بدوره رجلاً باحثاً عن رضاه الخاص بكل أنانية من دون الأخذ بعين الاعتبار أي مشاعر لزوجتيه، فيتزوج فتاة ثالثة أصغر منه بسنوات. ولا يكون بيد امرأته الأولى سوى الرضوخ والقناعة والانكسار. أما العمل الذي يكرّس هذه الفكرة بشكل مباشر جداً، فهو مسلسل "زوج تحت الإقامة الجبرية"، الذي يلعب بطولته كل من زياد برجي ونادين الراسي وهبة نور. يختار الزوج "المتزوج" عروساً جديدة له، ويقرر أن يُحضرها إلى بيته رغماً عن الزوجة الأولى، لتسكن معها في فيلّا كبيرة. يدور العمل في إطار كوميدي، لكنه يمرّر أيضاً فكرة تقبّل المرأة العصرية المتعلمة المثقفة، في زمننا الحالي، للزواج الثاني، خصوصاً أن "الضرَّتَين" تسعيان لحماية زوجهما من الزواج بالثالثة، ليتبين أنهما تقبّلتا الأمر، بل وأصبحتا صديقتين. هكذا ببساطة، يحدث ذلك في العام 2021، فتبدو الحكاية غير مقنعة وساذجة، بل وتحمي فكرة تعدد الزوجات، وتقبّل قرارات الزوج حتى وإن كانت في فعله مهانة لقدسية الزواج والعائلة.

قلائل جداً هن النساء اللواتي يكتبن للدراما السورية في الوقت الحالي، مع العلم أن هناك أسماء مهمة قدّمت سابقاً أعمالاً اجتماعية ناجحة رفعت من قيمة المسلسلات السورية بأفكارها، وصُدّرت صورة المرأة فيها من دون تقليلٍ، أو تجريح مثل ريم حنا وأمل حنا ودلع ممدوح الرحبي ورانيا بيطار ويم مشهدي وهالة دياب"، وغيرهن. كما استطاع بعض الكتّاب الرجال تقديم صور وأنماط مختلفة عن النساء بطريقة راقية جداً مثل الثنائي حسن سامي يوسف ونجيب نصيّر.

تظهر المرأة السورية وكأنها سيدة خاوية من الثقافة والعلم والتفكير المنطقي، تبحث عن رجل لا يراها، وإن رآها حجّمها

لكن مع اختفاء الأقلام الأنثوية، وطغيان النصوص ذات الأفكار الذكورية، طفت على الشاشة فكرة تهميش المرأة، والتقليل من قيمتها، والثبات على فكرة تأليه الرجل، وعدّه السند الوحيد الذي تسند أي امرأة رأسها عليه، ولا وجود لها من بعده، وكأنها مجرد ظل له. علماً أنه يظهر في هذه المسلسلات كشخص مدمّر لكيانها، وطامس لوجودها. وتبقى مع ذلك تابعةً له، وتحبّه من دون أن تكترث لما فعل بها، لتغدو نساء المسلسلات ساذجات، وتظهر المرأة السورية وكأنها سيدة خاوية من الثقافة والعلم والتفكير المنطقي، تبحث عن رجل لا يراها، وإن رآها حجّمها، فتغيب عن الصورة السيدة السورية الواعية ذات الشخصية المتفردة المتمردة.

الدراما انعكاس للواقع، وحتماً توجد في الواقع الكثير من قصص تعدد الزوجات. لكن تقديم هذه الفكرة بكل مساوئها، وتكريس قبولها من الزوجة الأولى، أو الإبقاء عليها في المجتمعات العربية، وتمريرها على أنها أمر "طبيعي"، يشي بوضع خطير تنحو إليه الدراما، بدل الاعتناء بصورة المرأة وتقديمها بالشكل الصحيح، سيما مع غيابٍ شبه تام للكتّاب الذين يرسمون شخصيات نسائية بعين حساسة، وأفكار نظيفة بعيدة عن الضعف العام في رسم ملامح الشخصيات النسائية في الأعمال الحالية، وعدم إعطاء مساحة واسعة للنساء وقضاياهن عموماً في الأعمال السورية والعربية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image