لا يمكننا النظر إلى الفن عموماً، والدراما تحديداً، في عالمنا العربي، وفي سوريا خصوصاً، وعلاقته بالسياسة، إلا كشريكَين متلازِمَين أبداً في صناعة مشهدٍ نمطيٍّ غايته تعليب الأفكار، وتحريك الغرائز، وبرمجة الذائقة العامة وفقاً لضرورات السوق التجارية لهذه الصناعة الرائجة جداً، ودور الرأسمال المغذّي لها، بحجةٍ جاهزةٍ وسمجةٍ تقول إن "الجمهور عاوز كده".
وانسجاماً مع هذه الطبيعة الاستهلاكية لهذا الفنّ، في زمن ثورة الاتصالات والميديا، ومنصّات التراند، وأولوية نسب المشاهدة على حساب أهمية المضمون، وما يطرحه من أفكارٍ تؤثّر في خلق الوعي، وقضايا تجعل من هموم الإنسان العادي، وأحلامه، وما يعيشه، حقّاً لا تمثيلاً. هذا الفنّ الذي غدا تجارياً بامتياز، ليصبح الممثل مجرّد مؤدٍّ قوّال، لا حمّال أفكارٍ غايته التكسّب والاشتهار، صاعداً على أثير "يركبه" الجميع، وهو قضية الإنسان في الحرية والعدالة والوطن.
ظاهرة "اللحامية"
منذ مدّةٍ وجيزةٍ، أطلّ الفنان السوري دريد لحام على شبكة سكاي نيوز عربية، في لقاءٍ يهاجم فيه كلّ من خرج من سوريا خلال الحرب، لاجئاً، ويصفه بالخيانة قائلاً: "إنّه ومن بقي معه في سوريا، مذكورون في القرآن"، منسجماً مع طرح مفتي الجمهورية السابق، والمُقال حديثاً، بدر الدين حسّون، بأن خريطة سوريا مذكورة في القرآن.
دريد لحام الذي عمّر طويلاً في وجدان الناس، منذ ستينيات القرن الماضي، مؤدّياً شخصية غوار البلطجي المشاكس صاحب المقالب الفكاهية، والذي حمل الاسم نفسه في أطروحاته الثورية الناقدة التي جاءت "بعونٍ ماغوطي"، كما يقول الكاتب والمترجم السوري، ثائر ديب، متحدثاً عن ظاهرة اللحامية.
طرح التخوين ذاته أعلاه، ينسجم مع موقفه السياسي المعلن والمؤيد تماماً، والذي استدركه في المقابلة عينها، قائلاً إنه "من أكثر الناس انتقاداً للسياسات الحكومية الرسمية"، ما ينسجم مع هذه "اللحامية"، كما يعبّر ثائر ديب قائلاً: "شخصية تضحك الجميع على النكتة الناقدة الواحدة ذاتها: الحرامي والمسروق، والجلاد والضحية، والقاتل والمقتول. شخصية تبدو من جهةٍ أولى، ممتلكةً شجاعة النقد والهجاء، لكنها من جهةٍ ثانية، تتوجّه بانتقادها، وبطلب الحلّ، إلى من خلقوا المشكلة المنتقَدة أنفسهم".
ويخلص ثائر ديب: "ومن هنا، أخيراً، تلك الحاجة المؤسسية الماسّة التي تبديها الثقافة السائدة إلى إعادة إنتاج اللحامية، لا سيما على مستوى المخرجين والفنانين، مع أن اللحام الأصل لا يزال على قيد الحياة والعمل". ومن هذه النقطة، يمكننا فهم طبيعة الثقافة السورية التي أنتجتها الدراما التلفزيونية الناقدة، خصوصاً منذ عقود (سواء في ذلك أعمال دريد لحام وغيره من الفنانين، كياسر العظمة في "مرايا"، وأيمن زيدان في "يوميات مدير عام"، وسواهم)، لا تزال بنت مجتمعها بـ"تيمته" الوسيطة التمثيلية، ومحرّكات وعيه الشعبوية من التحنيط والشعاراتية الحنجورية، وهي في أحسن الأحوال تكرّس مفهوم "الأداء اللحامي" الذي يراقص الوجع السوري، ويمتدحه إضحاكاً له، أو ضحكاً عليه.
لا يمكننا النظر إلى الفن عموماً، والدراما تحديداً، في عالمنا العربي، وفي سوريا خصوصاً، وعلاقته بالسياسة، إلا كشريكَين متلازِمَين أبداً في صناعة مشهدٍ نمطيٍّ غايته تعليب الأفكار، وتحريك الغرائز، وبرمجة الذائقة العامة وفقاً لضرورات السوق التجارية
جنازتان وموقفان
شهد الشهر المنصرم وفاة نقيب الفنانين في سوريا، الممثل زهير رمضان، الذي اشتهر بدور "المختار البيسة" في مسلسل "ضيعة ضايعة"، مستنسخاً هذا الدور لتقديم برنامجٍ رمضانيٍّ يدافع عن خيارات الحكومة السياسية في أثناء العشرية الأخيرة. و"أبو جودت" رئيس الكركون في مسلسل "باب الحارة"، وهو الدور الذي انسحب عليه في الواقع، من خلال إدارته لشؤون النقابة، وتحويلها وفقاً لمنتقديه من زملاء المهنة الواحدة إلى "فرع أمنٍ".
زهير رمضان الذي لطالما التصقت به صفة "التشبيح"، بسبب مواقفه المؤيدة للحكومة في دمشق، ارتدى البزّة العسكرية في بداية الحرب المستمرة منذ آذار/ مارس 2011، معلناً بوضوحٍ وقوفه ودعمه لضرب المعارضين بالنار والحديد. كذلك ساهم في إلغاء عضوية كثيرين من الفنانين المعارضين، وشطبها، بحججٍ شتى، متهّماً إياهم بخيانة الوطن.
لقيت جنازة الرجل اهتماماً رسمياً وإعلامياً كبيراً، وبكاه الكثيرون من منتقديه، ونعوه على صفحاتهم الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن في المقابل، كان للممثّل السوري المعارض، والمقيم في فرنسا حالياً، موقف مختلف لا يخلو من الشطط، والإهانة الجندرية، بشتيمةٍ مقذعةٍ واصف فيها رمضان، بالشبّيح، على صفحته الرسمية.
بينما كانت لجنازة الممثل والمخرج السوري حاتم علي، الذي يُعدّ واحداً من أهم عرّابي هذه الصناعة، لكون أعماله (التغريبة الفلسطينية، والزير سالم، وثلاثيته الأندلسية، وأحلام كبيرة، وغيرها الكثير)، حفرت عميقاً في وجدان المشاهدين، وارتبطت بما يمكن أن نسمّيه "زمن العزّ"، للدراما التلفزيونية السورية، مشاركة شعبية كثيفة رافقت الفنان إلى مثواه الأخير، ردّد فيها الحاضرون بخشوعٍ إحدى كلمات شارات مسلسلاته "أحلام كبيرة": "كل شيء ضاق، ضاق حتى ضاع". نعم، لقد ضاقت سوريا اليوم بأبنائها، ضاقت حتى الضياع. وشكلت جنازة علي، تحدّياً صارخاً للتجاهل الرسمي لوفاته، والتفاعل الخجول لنقابة الفنانين كمؤسسةٍ رسميةٍ، وهي بنت هذه السلطة بطبيعة الحال، نظراً لموقفه من الحرب والسلطة معاً.
المثير للدهشة في مسلسل "الهيبة"، هو كيف تمكّن صنّاعه من تحويل البلطجي إلى بطل، وقاطع الطريق إلى فدائيّ (لا سيما في الجزء الأخير حيث يظهر تيم "جبل"، محارباً لتنظيم داعش، وحامياً لكنوز تدمر الأثرية)، وممارسة الجريمة إلى مسألةٍ يتسامح معها المشاهد، لا بل يدافع عنها أيضاً
البلطجي المُخلّص
يُعدّ مسلسل "الهيبة"، الذي يلعب فيه دور البطولة المطلقة الممثل السوري تيم حسن، من أكثر الأعمال التلفزيونية التي حققت نجاحاً جماهيرياً في السنوات الأخيرة. المسلسل الذي يُصنَّف ضمن خانة الدراما العربية المشتركة، يتحدّث وكما هو معروف للغالبية، عن منطقة حدودية محاذية بين لبنان وسوريا، يغلب عليها نمط العلاقات العشائرية الضيّقة، وتتخذ من التهريب مهنةً مفضّلةً في إسقاطٍ واضحٍ لواقع معيش لا يخفى على أحد.
المثير للدهشة في هذا العمل، هو كيف تمكّن صنّاعه من تحويل البلطجي إلى بطل، وقاطع الطريق إلى فدائيّ (لا سيما في الجزء الأخير حيث يظهر تيم "جبل"، محارباً لتنظيم داعش، وحامياً لكنوز تدمر الأثرية)، وممارسة الجريمة إلى مسألةٍ يتسامح معها المشاهد، لا بل يدافع عنها أيضاً. وتنتشر في المسلسل مظاهر السلاح المنفلّت، والعبارات السوقيّة الممجوجة، ويدور الصراع فيه بين عوائل تمتهن تجارة السلاح والمخدّرات. والمضحك أكثر أن القائمين عليه يريدون إقناع المتفرّجين بعدالة "قضية جبل".
النجاح الجماهيري في هذا العمل، لا يمكن عدّه تميّزاً، بقدر ما هو مفسدة، فكل ما يحمله المسلسل من مضامين تدعو إلى العنف والفساد وتشرعنه بصورةٍ فاضحة، ساخرةً من فكرة الدولة (التي أصبحت بلا هيبة)، ويظهر فيها جبل السفّاح الوسيم، خالع قلوب الحسناوات، الذي يتمنطق بالصراخ والتعالي الأجوف، واستصغار الأهوال بعبارة: "لا تهكلوا الهم"، والمخلّص الذي يتفانى في إنكار ذاته فداءً لعشيرته، والذي يسعى صنّاع هذا العمل إلى جعله شخصيةً إيجابيةً، مخالفين أيّ منطقٍ سائدٍ في الكتابة الدرامية، بما ينسجم مع واقع البلدين اللذين أنهكتهما الأزمات، وتعدد نسخ "جبل" ممن ساهموا في تخريبهما، من مجرمين سابقين مطلوبين للعدالة، ومروّجي مخدرات، وقوّادين. فعالم الجريمة والانفلات الأمني الذي يحاكيه المسلسل، يجد نموذجه الحيّ. فالفساد هنا يُرى بالعين المجرّدة، ويُلمس بالأصابع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...