شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"اللي حواليا شايفين اللي بعمله عيب"... عن مهرّج الصعيد الوحيد، جرجس يوسف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 يناير 202201:32 م


على يسار مجتمعه الصعيدي، بتقاليده وعاداته التي تخالف هوايته التي سقط في حبها منذ الصغر، وقف جرجس يوسف أو "جو" كما يحلو للجميع أن يسميه، يراقب عن كثب ملامح السعادة التي يرسمها على وجوه جمهوره من الأطفال قبل أن ترتد إليه لتضفي على عالمه صفاءً وسلاماً نفسياً يحرره من كل القيود والضغوط.

بوجه تعلوه مساحيق التجميل لدرجة تكاد ملامحه الأصلية معها أن تذوب، تعود جرجس ابن محافظة قنا جنوب القاهرة، أن يقف أمام جمهوره ليكون جزءاً أصيلاً في تثقيفهم وتشكيل وعيهم، حتى وإن رأى آخرون أن ما يقوم به مجرد رقص و"تنطيط" بلا داعٍ.

منذ أعوام تخلى يوسف عن كثير من أحلامه ليكون "البلياتشو" (المهرّج) الوحيد في الصعيد. صادف في سبيل ذلك كثيراً من العقوبات والصعوبات والسخرية لكنه كان مصرّاً في كلّ مرة على أن يكمل الطريق الذي بدأه منذ 14 عاماً، حين وقف يشاهد عروضاً متواضعة لـ"بلياتشو" بالشكل النمطي لأي بلياتشو، وفي تلك اللحظة سأل نفسه : "لماذا لا أكون مثله وربما أفضل، طالما أنني أمتلك الشغف والقدرة على التحقق؟".

يقول جرجس لنا: "منذ الصغر وأنا عاشق للرسم، ومتذوق لمعظم الفنون، وكنت أحلم في شبابي بأن ألتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية أو كلية الفنون الجميلة، لكن المحيطين بي سألوني: "ماذا ستفعل بكلية كتلك بعد التخرج؟ التحقْ بأي كلية لها مستقبل!". ومضيت وراء تلك الآراء والتحقت بمعهد الطاقة غير أني لم أستفد من دراستي به بعد التخرج، لأنني احترفت العمل كـبلياتشو".

"صادفت الكثيرين ممن هاجموني بحجة أنني أضع مساحيق التجميل على وجهي، وهو أمر غير لائق بالنسبة لهم أن يضع رجل مساحيق التجميل، كما هاجمني أحد الأشخاص ذات مرة وقالى لى: (كل عيشك بالحلال بدل ما أنت بترقص وتتنطط)"

ويستكمل: "في البدايات كنت أتعلم من أي بلياتشو في أي مكان حول العالم، وكنت أراسل الكثيرين من الدول الأجنبية، حتى كونت صداقات كثيرة مع شباب في النرويج والمكسيك وغيرها من الدول، وكنت أتابع أعمالهم أول بأول، وأرسل لهم أعمالي، وكانوا دائماً يشجعونني ويؤكدون بأني سيكون لي مستقبل كبير في تلك المهنة، فيما كان تعليقهم الوحيد على الملابس، التي نصحونى بتطويرها، وبدأت بالفعل في تطويرها. كنت أخجل من ملابسي في البداية لأنها لم تكن على المستوى المطلوب من الجودة، ولم أكن أعرف من أين أشتريها وكيف أطورها. لكن مع الوقت طورتها فعلاً، ووضعت لها التصميمات الخاصة بها، وأسندت مهمة تنفيذها لمتخصصين أكثر خبرة مني في مجال التنفيذ".

يعشق جرجس العمل مع الأطفال ومن أجل إسعادهم يمكن أن ينفق على عمله معهم من أمواله الخاصة، من أجل تلك اللحظة فقط.

يسمع منا ذلك ويكمل: "أحب أن يكون الأطفل سعداء وفرحين، وفي أوقات كثيرة أشتري لهم هدايا من مالي الخاص، لأنني أعرف أنها أقل ما يمكن أن يسعد الطفل".

وهل تفعل بالمثل مع أطفالك؟ يجيب: "حتى الآن لم أتزوج، لكنني واثق بأننى سأفعل أكثر من ذلك معهم. سأكون بلياتشو خاصاً لهم، وأنا واثق تماماً أنهم سيحبون مهنتي، وربما أجد منهم من يقرر امتهانها، وسأوفر لهم كلّ الدعم، ولن أقف أمام تلك الرغبة كما وقف كثيرون من مجتمع الصعيد في وجهي حين قررت احتراف تلك المهنة".

"ذات مرة أصر طفل على أنني لعبة، وطلب من والده شرائي كي يأخذني معه إلى البيت"

يتذكر جرجس تلك المعاناة التي كشفها لنا قائلاً: "أول حفلة لي كانت في مدرسة مع مجموعة من الأطفال، ولم أكن أعرف وقتها ماذا سأفعل، وماذا يمكن أن أقدم لهم حتى أسعدهم. فبدأت بممارسة ألعاب شد الحبل ومشاركتهم بالغناء، وبمرور الأيام والسنين بدأت أضع برنامجاً خاصاً بي، يضم عدداً من الفقرات التي أركز على أن يخرج الأطفال منها بمعلومة مفيدة، وليس مجرد ضحك و(هزار) وخلاص؛ يعني مثلاً، بما أن العالم أجمع يعاني الآن من أزمة كورونا، أتحدث معهم عن طبيعية الفيروس، وأقدم لهم التوعية اللازمة وكيفية حماية أنفسهم من المرض. أيضاً أخصص فقرة لتنمية الروح الوطنية بداخلهم، وأستخدم في سبيل ذلك لوحات إرشادية وألعاباً أتولى تنفيذها بنفسي، ورغم كل ذلك، (اللي حواليا شايفين اللي بعمله عيب)، صادفت الكثيرين ممن هاجموني بحجة أنني أضع مساحيق التجميل على وجهي، وهو أمر غير لائق بالنسبة لهم أن يضع رجل مساحيق التجميل، كما هاجمني أحد الأشخاص ذات مرة وقالى لى: (كل عيشك بالحلال بدل ما أنت بترقص وتتنطط)".

وكيف تتعامل مع انتقادات كتلك؟

يرد جرجس: "ألقي بها وراء ظهري، وأترك الفرصة لعملي ليردّ، لأني وجدت كثيرين يهاجموننى وبعد مشاهدة العرض الذي أقدمه يطلبون التصوير معي".

وماذا عن أسرتك؟ هل وقفت معك أم معهم؟

"أسرتي متفهمة جداً لطبيعة عملي، وقد تُفاجأ الآن وأنا أخبرك أن منهم من يحضر لى (أوردرات) للحفلات المختلفة".

يحظى جرجس في الحي الذي يقيم به بشعبية كبيرة، لكنها تتضاءل أمام شعبية "البلياتشو" الذي يجسده.

يقول: "كل الجيران يحبونني جداً، لكنهم يحبون شخصية البلياتشو التي أجسدها أكثر، ومنهم أطفال يتبعونني حالما يرونني، ويكونون في قمة سعادتهم، وهذه هي أسعد لحظات حياتي، حتى أني رفضت أكثر من فرصة للعمل بمهن أخرى، واخترت أن تكون العروض التي أقدمها هي مصدر دخلي الوحيد، رغم أني كثيراً ما أنفق من مالي الخاص لأن الملابس وأدوات المكياج التي أستخدمها مكلفة جداً".

في الصورة المحفورة عن البلياتشو تعودنا أن نراه باكياً ضاحكاً، وهي الصورة المحفورة دوماً على وجه جرجس، وأيضاً بين جدران قلبه.

"أسمع في كثير من الحفلات هذا السؤال: هو ده ولد ولا بنت؟ وكذلك بعض الفتيات اللاتي يطلبن مني تعليمهن كيفية وضع المكياج بالطريقة التي أضعه على وجهي"

يفسر لنا: "هناك أوقات كثيرة أكون مهموماً فيها، ولدي مشاكل، ولكن علي أن أضحك الأطفال وأسعدهم، عند ذلك أسجن كل أحزاني بداخلي، إلى حين الإفراج عنها بعد العرض. أذكر ذات مرة كان لي حفل كبير وتوفيت جدتي يومها، وهي من أقرب المقربين لي، قلت لنفسي وقتها لا ذنب للأطفال بما جرى كي أحرمهم من البهجة، وصعدت إلى الحفل أضحك وأغني وأرقص بينما قلبي يعتصر حزناً، وبعد انتهاء الحفل عدت إلى البيت لتلقي واجب العزاء في جدتي".

لا يختلف برنامج الحفل الذي يقدمه جرجس في القرى عن الذي يقدمه في الريف، باستثاء اللغة، فهو يى المدارس الدولية يتحدث إلي الأطفال بالإنكليزية، بينما في مدارس القرى والنجوع يتحدث العربية.

يقول: "لازم أكلم كل واحد باللغة واللهجة اللي يفهمها، والحمد لله عروضي في كل محافظات الصعيد لأن مفيش بلياتشو في محافظات الصعيد كلها غيري، ودي حاجة كبيرة أوي بالنسبة لي".

وعن أهم المواقف والصعوبات التي صادفها جرجس في عروضه يستكمل: "الصعوبات تتلخص في المكياج، الذي يستغرق ساعة كاملة، وأنا من أقوم بتنفيذه بنفسي. وطبعاً العمل تحت الأضواء بهذا المكياج لفترة طويلة يتسبب التهابات كثيرة بالوجه وتحديداً في الصيف. وأيضاً في بعض الأحيان أجد أطفالاً غير متجاوبين. في مثل هذه الظروف، أنزل إليهم وأظل أتحدث معهم إلى أن نصبح أصدقاء ليتفاعلوا معي. كما أن هناك أطفالاً من الذين حضروا عروضي بقوا أصدقاء لي بعد العروض. أما عن أهم المواقف، فأذكر مثلاً أني أسمع في كثير من الحفلات هذا السؤال: هو ده ولد ولا بنت؟ وكذلك بعض الفتيات اللاتي يطلبن مني تعليمهن كيفية وضع المكياج بالطريقة التي أضعه على وجهي. ذات مرة أصر طفل على أنني لعبة، وطلب من والده شرائي كي يأخذني معه إلى البيت".

قدم جرجس من قبل برنامجاً للأطفال في التلفزيون عام 2014، وعمل مع وزراة الثقافة في أكثر من حفل، لكنه يرى أن الوزارة استفادت منه أكثر مما استفاد هو. وعن هذا يقول: "طلبت منهم تعيينى في وظيفة حتى أكون متواجداً معهم باستمرار في كل الحفلات، لكنهم لم يستجيبوا وتعاملوا معي بالقطعة، وحتى أجري في الحفل يأخذون منه 25% ضرائب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image