مدينة تشبه العنقاء، كلما ظنوا أنها تموت تتجدد من تلقاء نفسها، تخرج من الرماد لتعود فتية من جديد، هي بلد زينب، ومارية القبطية، وخالد الإسلامبولي قاتل السادات.
لا أحد يعرف إن كانت ملوي مدينة ملعونة أم ضحية موقعها الجغرافي، وتركيبة سكانها الفريدة، التي جعلتها "رمانة ميزان" مصر على امتداد تاريخها الطويل، بلا مبالغة أو تهويل. وفي أحداث عظام، كانت هي وسكانها نقطة التحول في الانتفاضات أو الحروب والبطولات، وفي الكوارث أيضاً.
من هي "زينب" وما قصتها؟
لا أحد يعرف من هي على وجه التحديد، زينب التي يلتصق اسمها بمدينة ملوي بمحافظة المنيا في صعيد مصر، وهو ما قد يغضب البعض من أبنائها، ولا يأخذه على سبيل الدعابة، كأغلب من يستخدم الجملة أمام "الملوانية".
يقول جرجس بولس، خريج كلية الآثار، ابن مدينة ملوي، لرصيف22: "في مصر يربطون كل مدينة أو محافظة بلقب تشتهر به المدينة أو سكانها، فقنا 'بلد القلل'، لأنها تشتهر بصناعة القلل الفخار، والفيوم 'بلد المليون كتكوت' لأنها تشتهر بكثرة عدد مزارع الدجاج بها، وعندما يأتي الدور على مدينتي ملوي، يقولون 'ولد زينب'، وهو ما جعلني أبحث وراء هذا الاسم".
صورة لمدينة ملوي المصرية
حسب بولس، فإن هناك قصتين تخصان زينب المقصودة، الأولى تحكي عن شاب ساذج من قرية بملوي، كان يحجز تذكرتي سفر من محطة قطارات المدينة، وعندما سأله موظف شباك التذاكر: "التذكرة التانية لمين"، رد الشاب ببراءة: "لأختي زينب".
ومغزى القصة التندر على سذاجة الشاب، بقول اسم "أخته" علناً أمام الغرباء، وهو أمر مشين في العرف والتقاليد الصعيدية، من العيب قول أسماء نساء البيت.
سموا ملوي بلد زينب، ويقولون أنها كانت عاملة جنس، تصطاد زبائنها من قطارات الصعيد، لكن هناك من يبرئ زينب من "وصمة" الدعارة، ويرجع ما كانت تفعله أنه مجرد ستار لأعمالها البطولية ضد الاحتلال
القصة الثانية تشير إلى أن زينب كانت عاملة جنس، تصطاد زبائنها من قطارات الصعيد، وكانت معروفة لأغلب المسافرين، لكن هناك من يبرئ زينب في هذه القصة من وصمة الدعارة، ويرجع ما كانت تفعله زينب أنه مجرد ستار لأعمالها البطولية والفدائية ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، فقد كانت تصطاد العساكر الإنجليز من القطارات وتغويهم، وتأخذهم إلى حقول القصب وتقتلهم بمساعدة الفدائيين.
أخناتون ومارية القبطية
لا يوجد شيء موثق بخصوص القصة، كلها حكايات شعبية متداولة، لكن المؤكد والذي يذكره التاريخ جيداً، أن مدينة ملوي أحد أهم وأشهر المدن والمراكز في مصر، ولها تاريخ طويل من النضال ضد المستعمر.
قبل قصة زينب بآلاف السنين، عندما هرب الحاكم المصري الشاب أخناتون من كهنة طيبة، وقرر بدء ديانته وحكم دولته من مدينته تل العمارنة، شرق نيل ملوي.
يقول المؤرخ والمدوّن محمود حسين السبروت عن تاريخ مدينة ملوي، لرصيف22: "ملوي في الأصل هي 'مرو' الفرعونية، بمعنى مستودع الأشياء، فقد كانت ملوي أحد أهم وأكبر المستودعات التجارية، وقد حرفت في القبطية إلى منلوي، ومع مرور الوقت اختفى حرف النون لتصبح ملوي، وهي تتبع إقليم الأشمونين".
"أثناء الثورة الأولى للوحدانية على يد أخناتون، أصبحت حياً من أحياء العاصمة الكبرى للوحدانية، وهي أيضاً بلد السيدة مارية القبطية، زوجة الرسول محمد، التي ولدت وتربت في قرية الشيخ عبادة".
ويشير السبروت إلى أن أولى معارك صلاح الدين الأيوبي ضد ملك القدس عموري، كانت في 18 أبريل سنة 1167، ووقعت على أبواب ملوي، وانتصر صلاح الدين بألفي مقاتل فقط على جيشين عظيمين قوام كل منهما أربعون ألف فارس، كما كانت ملوي هي المدينة التي تفاوض فيها محمد علي باشا مع المماليك الفارّين إلى الصعيد، حيث اجتمع بهم في مسجد اليوسفي بالمدينة، وأقنعهم بالعودة إلى القاهرة، ليستدرجهم بعدها ويقضي عليهم في مذبحة القلعة الشهيرة.
"لعن الله الثمانينيات والتسعينيات، تسيدت الجماعات المتطرفة، وحرضوا ضد المسيحيين في الجوامع، وانتشرت شعارات الإسلام هو الحل، وعوقبت علناً كل امرأة تخرج بلا حجاب"
ويذكر السبروت أنه منذ تلك الفترة وحتى ثورة يوليو 1952، كانت ملوي تشتهر بمعامل البارود ومصنع للأقمشة "قماش المالطي"، الذي كانت تصنع منه ملابس الجيش.
وقد كان الجيش العثماني في تركيا يحصل على احتياجاته من الأقمشة من مصنع ملوي.
وفي جنوب ملوي كانت تقع أكبر مدبغة للجلود في الصعيد، وكانت تصدر الجلود المدبوغة إلى القاهرة، وانفردت بنوع من الجلود يعرف بـ"باكتة ملوي"، وكانت ملوي تشتهر بحلج الأقطان بمحلجيها الكبيرين، شرق المدينة وغربها.
جامع وكنيسة في مدينة ملوي
كيف قضت الفوضى والإرهاب على "بلد الباشوات". ما الذي حدث للمدينة لتصل اليوم إلى كل هذه الفوضى والتخريب والعشوائية؟ تساءل محمد الكاشف بينه وبين نفسه، في زيارته الأخيرة لمدينة أهله وعائلته العريقة في ملوي.
محمد، مصور فوتوغرافي، لم تستطع عيناه تحمل القبح الذي صارت عليه مدينة "الباشوات"، يقول لرصيف22: " كنت أحب شوارع ملوي وأنا طفل، حيث القصور القديمة العريقة، قطارات القصب الذاهبة لمصنع السكر في أبو قرقاص، وقطارات القطن والجمال بقرب الحلاجة، المحال التجارية العريقة، كانت مدينة نظيفة رغم زحامها. اليوم كل شيء تغيّر. القصور هدمت، المصانع أغلقت، الحلاجة أرضها بيعت لحيتان العقارات، تكسرت الشوارع واستوحشت الفوضى والعشوائية في كل شوارعها وقراها".
يرى الكاشف أن المدينة تعرضت للإهمال والفساد على مدار نصف القرن الأخير أكثر من أي وقت مضى، وتحديداً مع بداية ظهور التيارات المتطرفة في الصعيد، وتغلغل جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية بالمدينة وقراها الكثيرة.
يقول: "أعتقد أن نقطة التحول حدثت مع مقتل الرئيس الراحل أنور السادات في احتفالات نصر أكتوبر عام 1981، فقاتل الرئيس هو أحد عناصر الجيش خالد الإسلامبولي، ابن مدينة ملوي، ويومها أيضاً سقطت مديرية أمن أسيوط تحت قبضة الجماعات الإسلامية في مذبحة دموية لرجال الأمن هناك. منذ ذلك التاريخ بدأ طوفان الدم في ملوي، بعد استهداف تلك الجماعات للمسيحيين في ملوي، بقتلهم في وضح النهار في محلاتهم التجارية أو في الكنائس والشوارع".
"منذ ذلك الحين والمدينة تعاني، حتى بعد تراجع تلك العمليات وقضاء الأمن والداخلية عليها، إلا أن المدينة لازالت تعيش تبعات تلك الفترة، حتى لو كانت تحاول جاهدة النهوض من جديد على مستوى التجارة المعروفة بها، إلا أن تلك المحاولات حولتها لمدينة من الفوضى والروائح الكريهة بسبب المخلفات والقمامة الضخمة التي تخرج من تلك الأنشطة، وتقاعس المجالس المحلية المتعاقبة على علاج تلك المشكلة".
الثمانينيات و"الإسلام هو الحل"
طوال التاريخ أيضاً تعتبر ملوي مدينة بارزة في المجال الثقافي، يقول حمادة زيدان، مدير مؤسسة "مجراية للثقافة والفنون"، لرصيف22: "هنا كان أول صالون ثقافي أقامه عبد المجيد باشا، ونادي الأدب بملوي أحد أعرق أندية الثقافة في مصر، ضم مجموعة من الأدباء العظام، منهم الراحل الخضري عبد الحميد والراحل بهاء السيد، كذلك قطاع الفنون الشعبية وفرقة مدحت فوزي لفنون العصا وصلت إلى العالمية بعروضها".
يعتبر زيدان محاولات إحياء الثقافة والفنون في ملوي محاولات فردية لأشخاص يرون أن الثقافة والفنون هي القادرة على مواجهة الأفكار المتطرفة والجهل بين الناس، لكن الدولة تخلت عن دورها هذا، فلا يوجد قصر ثقافة في ملوي أو مكتبة عامة، ولا دور عرض سينمائي بعد إغلاق سينما بالاس، إحدى أعرق السينمات في الصعيد".
يصمت زيدان، ويستأنف بنبرة غاضبة كأنه تذكر شيئاً: "لعنة الله على فترة الثمانينيات والتسعينيات"، تلك الفترة يعتبرها زيدان أسوء فترات التاريخ لملوي بانتشار تيار الجماعات الإسلامية.
"كانوا يعاقبون بشكل علني فج كل امرأة تخرج من بيتها غير محجبة".
يحكي زيدان: "أتذكر لقاء الأربعاء في مسجد الشيخ عيسى، والأفلام الدموية التي كانوا يعرضونها على شاشات كبرى في الشوارع، أتذكر التحريض العلني على المواطنين المسيحيين في مساجدهم. كانوا يعاقبون بشكل علني فج كل امرأة تخرج من بيتها غير محجبة، أتذكر شعار 'الإسلام هو الحل' الذي انتشر بين الشباب المسلم وقتها، وحظر التجوال. كان عادياً أن نسمع صوت الأعيرة النارية في الشوارع. أتذكر مدير مدرسة الزراعة الذي تم اغتياله في مكتبه، محلات الذهب التي تم نهبها والكنائس التي هاجموا المصلين فيها".
ملوي تحوي تجمعاً كبيراً للمسيحيين في مصر، بحسب تقديرات كنسية غير رسمية، أكثر من ثلاثة أرباع مليون مسيحي في مركز ملوي وقراها العديدة، ويعتبر زيدان أن عدد المسيحيين في ملوي يحد من الحوادث الطائفية بين المواطنين المنتشرة في قرى محافظة المنيا تحديداً، والتي يراها قنبلة موقوتة، يتم إخمادها مؤقتاً بجلسات عرفية لا تحل المشكلة من جذورها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع