يكافح جمال طاهر، بعد شهر من العلاج الطبيعي في مركز الأطراف في صنعاء، من أجل ترويض ساقه الصناعية.
كان جمال ذو الخمسة والعشرين عاماً، يعمل في بيع البالونات، في شوارع مدينة عمران شمال العاصمة صنعاء، بعد تعبئتها بالغاز في مصنعٍ للهليوم.
"تحتاج أسطوانة الغاز إلى تسخينها بين الحين والآخر لتعبئة البالونات، ولا يمكن ذلك إلا إذا كانت شديدة البرودة، لأنها قد تنفجر، لذا كنا ننتظرها حتى تبرد". يقول جمال، لكن خطأً غير مقصود تسبب في الانفجار.
جمال انفجرت فيه أنبوبة غاز العام الماضي، فأفقدته إحدى ساقيه، كما تسببت بوفاة شخص آخر على الفور، فيما نجا أربعة آخرون.
بعد نحو ثلاثة أشهر من التردد على مركز الأطراف في صنعاء، لأخذ القياسات وإجراء التجارب، حصل جمال على ساق اصطناعية صُنعت في المركز، ومنذ نحو شهر أضحى يتردد على المركز للتدرب على المشي بها.
تزايد أعداد ذوي الإعاقة والمرضى الوافدين إلى المركز من مختلف مناطق اليمن أدى لاستهلاكنا كل ما لدينا من مخزون.
يقول جمال لرصيف22: "الحمد لله أنني نجوت من الموت بأعجوبة، وأنا الآن أعيش حياةً وإن كانت قاسيةً، لكن قد أتمكن إلى حدٍ ما بساقي الصناعية من المشي مثل الآخرين". ويضيف: "الآن أتدرب على المشي بها، وهي ليست مثل القدم الطبيعية، لكن ذلك سوف يساعدني كثيراً على المشي، وعدم الاتّكاء على العكاكيز".
مقصد للمرضى من كل أنحاء البلاد
يُعد مركز الأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي، مقصد ذوي الإعاقة من جرحى الحرب والحوادث، فضلاً عن ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى الجلطات الدماغية، والشلل الجزئي، للحصول على الأطراف الصناعية، أو تلقّي العلاج والتمارين لإنعاش الأطراف وخلايا الجسم العاجزة عن الحركة.
ويقدّم المركز خدماته بشكل شبه مجاني، فضلاً عن أجهزته ومعداته الطبية التي تُقدَّم لذوي الإعاقة بأسعار زهيدة، لكن وبسبب استمرار الحرب التي دخلت عامها الثامن، أضحى يتحمل أكثر من طاقته الاستيعابية. وبالرغم من إمكاناته البسيطة، تُصنع وتُصرف في المركز أطراف صناعية سفلية وعلوية وكراسٍ متحركة وعكاكيز ومشايات وأحزمة للرقبة والبطن والكتف فضلاً عن أحذية وجبائر للأيدي والأقدام.
وفي ظل الحرب التي فاقمت معاناة السكان، إلى جانب التردي الاقتصادي الذي أثر على مؤسسات البلاد كافة، يواجه المركز تحديات في تأمين المواد الأولية لصناعة الأطراف الصناعية، فضلاً عن توقف المرتبات عن موظفيه، ناهيك عن زيادة الوافدين إلى المركز بنسبة تصل إلى ثلاثمئة في المئة عما كانت عليه قبل الحرب، وفق حديث مدير المركز، علي الأعوج.
وأكد الأعوج في حديثه إلى رصيف22، "تزايد أعداد ذوي الإعاقة والمرضى الوافدين إلى المركز من مختلف مناطق اليمن، حتى تلك الواقعة تحت سيطرة حكومة هادي. أدى ذلك إلى استهلاكنا كل ما لدينا من مخزون، ونظراً لاغلاق اليمن بشكل عام براً وبحراً وجواً، أصبحنا نفتقر إلى أهم المواد اللازمة للتصنيع في المركز".
ولفت إلى أن مركز الأطراف والعلاج الطبيعي يُعد من أهم المراكز الخدمية التابعة لوزارة الصحة، ويستقبل جميع حالات الإعاقة من كل محافظات البلاد.
حاجة ماسة إلى الدعم
أكّد الأعوج خلاله حديثه أن المركز بحاجة إلى دعم من كل الجهات، فهو لا يتلقى الدعم إلا من صندوق المعاقين واللجنة الدولية للصليب الأحمر، أما بعض المنظمات، "فمواعيد عرقوب أخاه بيثرب"، حسب تعبيره، مضيفاً أن الميزانية التشغيلية التي كانت تُصرف للمركز من وزارة المالية توقفت منذ نقل مقر البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن في جنوب اليمن، عام 2019.
ووفقاً لإحصائيات صادرة عن المركز، فقد استقبل خلال الأعوام الثلاثة الأولى منذ اندلاع الحرب في العام 2015، أزيد من 30 ألف حالة، منها 17 ألفاً في قسم الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية.
الحمد لله أنني نجوت من الموت بأعجوبة، وأنا الآن أعيش حياةً وإن كانت قاسيةً، لكن قد أتمكن إلى حدٍ ما بساقي الصناعية من المشي مثل الآخرين
وأكدت شيخة الحسني، مسؤولة قسم النساء في مركز العلاج الطبيعي، أن المركز يحتاج إلى توفير المواد الخام التي تُستَورد من خارج اليمن، بالإضافة إلى الأجهزة الطبية، فضلاً عن الحاجة إلى كوادر بشرية مؤهلة لتغطية العدد الكبير من ذوي الإعاقة القادمين لتلقي العلاج أو الحصول على الأطراف المصنعة في المركز، مشيرةً إلى أن الحصار المفروض على اليمن أثّر بشكل كبير على وصول المواد والمعدات الطبية التي يحتاج إليها المركز، بسبب تأخر تصاريح الدخول.
وتحدثت أيضاً إلى رصيف22، عن "انقطاع المرتبات عن الموظفين في المركز، الذين يعملون خلال فترتي الصباح والمساء، لتلبية احتياجات العدد الكبير من ذوي الإعاقة، مما أثر سلباً على حياتهم".
ويتردد بشكل يومي إلى المركز 250 شخصاً ممن يعانون من إعاقات مختلفة وفق حديث الحسني، وذلك لحضور جلسات العلاج، بالإضافة إلى العشرات من المصابين الجدد، ومن الجرحى أو أولئك الذين يعانون من إعاقة خلقية أو بسبب أمراض العظام والباطنية.
وضمن هذا السياق، قال بشير الصلوي، المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إن اللجنة تدعم خمسة مراكز أطراف في اليمن، وهي في صنعاء وعدن وتعز والمكلا وصعدة، ويتضمن الدعم الحوافز المالية للموظفين، والمواد الأولية التي تُصنَع منها الأطراف الصناعية، وأيضاً تقديم الدعم للعلاج الطبيعي، فضلاً عن توفير الدعم المالي لاستمرار عملية تزويد من فقدوا أطرافهم، وأيضاً الذين يحتاجون إلى العلاج الفيزيائي.
ونظراً لعدم توفر الكادر الطبي المؤهل، وأيضاً بهدف المساعدة في تأهيل العمالة الوطنية، أكد بشير توفير اللجنة الدولة ست عشرة منحةً دراسيةً بتمويل منها، لستة عشر طالباً من المراكز المختلفة لدراسة البكالوريوس في تنزانيا والهند، في مجال العلاج الطبيعي وصناعة الأطراف. وأضاف في حديثه إلى رصيف22: "افتتحنا العام الماضي دبلوماً في المعهد العالي في صنعاء لدراسة صناعة الأطراف الصناعية، والعلاج الفيزيائي، بتمويل من الصليب الأحمر، يدرس فيه عشرون طالباً".
المركز يحتاج إلى توفير المواد الخام التي تُستَورد من خارج اليمن، بالإضافة إلى الأجهزة الطبية، فضلاً عن الحاجة إلى كوادر بشرية مؤهلة لتغطية العدد الكبير من ذوي الإعاقة القادمين لتلقي العلاج أو الحصول على الأطراف المصنعة في المركز
كما أشار إلى أن اللجنة تعمل على إنشاء مركز متكامل في محافظة صعدة شمال اليمن، للأطراف الصناعية والعلاج الطبيعي، لكون المحافظة تشهد نزاعاً مسلحاً وهناك الكثيرون فيها ممن يحتاجون إلى العلاج.
ومن جانبه، قال محمد جياش المدير الفني في مركز الأطراف في صنعاء، إنه إلى جانب الدعم المقدّم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن صندوق المعاقين يقدّم الدعم بمبالغ مالية لشراء مواد محلية وخارجية، مقابل استقبال ذوي الإعاقة المسجلين في الصندوق مجاناً وخدمتهم. لكنه يشير في حديث إلى رصيف22، إلى أن "الدعم يُعد قليلاً جداً مقارنةً بما يقدّمه المركز من خدمات لجميع ذوي الإعاقة من مختلف محافظات اليمن".
"آتي بالرغم من الازدحام الشديد"
في قسم العلاج الطبيعي الخاص بالنساء، تنتظر فطوم صلاح التي قدمت من محافظة البيضاء وسط اليمن، دورها للعلاج الطبيعي، وسط زحام كبير، من النساء اللواتي يترددن لحضور جلسات العلاج، فضلاً عن الحالات الجديدة التي يستقبلها المركز يومياً بالعشرات.
العشرينية فطوم صلاح، ضحية غير مباشرة للحرب التي تشهدها اليمن منذ نحو ثماني سنوات، وتتلقى العلاج منذ ثلاثة أشهر بعد أن أصيبت في الرقبة والعمود الفقري، جراء سقوطها المفاجئ على الأرض.
تقول فطوم وهي ربة منزل: "سقطت في الشارع من شدة الخوف المفاجئ. كان ذلك لحظة انفجار صاروخ، وكنت حينها مع صديقتي، وكانت الرضوض كبيرةً، وعندما ذهبت إلى الأطباء للعلاج، حوّلوني إلى مركز الأطراف".
وتضيف في لقاء مع رصيف22: "كنتُ أعاني من آلام في الرقبة والظهر والرأس، ولا أستطيع الجلوس على الكرسي، لكني بعد تلقي العلاج الطبيعي تحسنت حالتي كثيراً، لذلك أجيء إلى المركز بشكل يومي للحصول على جلسات العلاج، التي تتم بأجهزة مختلفة".
ويتزايد عدد ذوي الإعاقة في اليمن يوماً بعد آخر، نتيجة الحرب المتواصلة منذ أكثر من سبعة أعوام. ويُقدَّر عددهم قبل نشوب النزاع بنحو ثلاثة ملايين شخص، وقد أصبح هؤلاء من بين الذين هم بحاجة إلى مساعدة إنسانية في أثناء النزاع، وقد ساءت أوضاعهم بفعل تزايد صعوبات الوصول إلى الخدمات، والأضرار التي لحقت بالمرافق الصحية، واضطرار البعض منهم إلى العيش في بيئات نزوح تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة والحماية.
وتسببت الحرب بإعاقة عشرات آلاف المدنيين، أغلبهم فقدوا أحد أطرافهم بسبب انفجار أو لغم أو طلقة نارية، وتشير تقديرات إلى أن نسبة ذوي الإعاقة في البلاد تصل إلى 15% من إجمالي السكان، ويرجَّح أن يكون الرقم الفعلي أكبر من ذلك بكثير.
كما يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة من آثارٍ نفسية سيئة، تتراوح بين الشعور بالصدمة، وبين الوقوع فريسةً للاكتئاب والإحباط، وربما الشعور القاتل بالعجز، وتتفاوت الآثار النفسية تبعاً لنوع الإعاقة، إذ إن هناك أشخاصاً بُترت أطرافهم السفلية وفقدوا القدرة الكلية على الحركة، أو أصيبوا بإعاقات مزدوجة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...