عندما وطئت قدماي حي الفاتح في إسطنبول قبل سنوات، سكنت في بناية قريبة من فندق زادة. وبعد أيام قليلة، وأنا أعود إلى هذه البناية، بدلاً من فتح باب الشقة التي أقطن فيها، كنت أحاول إدخال المفتاح خطأً في باب آخر، ليُفتَح فجأةً من الداخل، وأجد أمامي امرأةً في الخمسين من عمرها، ذات شعر أسود حالك، وثوب مطرز طويل، جعلني أشك في أنها ليست تركيةً. قالت لي مندهشةً من محاولتي فتح باب بيتها: "أهلين!".
لم أدرِ حينها هل أفرح كونها عربيةً، وتكلمت معي باللغة التي أعرفها، أم أعتذر عن الموقف المحرج الذي تبيّن منه لاحقاً أن المنزل التبس عليّ، فأنا أسكن في الطابق الخامس، وليس الرابع!
مع كوني جديدةً في المنطقة والبناء، كان هذا الموقف بداية علاقة مع هذه السيدة، التي عرفت في ما بعد أنها سورية، وأن كل ما هو حولي من جيران وناس ومطاعم وشركات ومراكز تجميل هي في غالبيتها لسوريين.
السوري أو العربي الآتي إلى حي الفاتح، لن يستخدم اللغة التركية، لأن كل شيء ينطق بلسانٍ عربي مبين.
هذا الأمر جعلني أتساءل: ما سر هذه المنطقة بالنسبة للسوريين؟ لماذا تجذبهم؟ لقد كنت أقطن في منطقة "أفجلار" سابقاً، ولم أشاهد سورياً واحداً، أو سوريةً واحدةً، فغالبية السكان هناك إن لم يكن جميعهم، من الأتراك.
لهذا أحببت أن أسأل السوريين عن سبب تمركزهم في حي الفاتح، وجعله محلاً للسكن والتجارة والنشاط اليومي العام، إلى درجة أن السوري أو العربي الآتي إلى هذا الحي، لن يستخدم اللغة التركية على الإطلاق، لأن كل شيء ينطق بلسانٍ عربي مبين، كما أن الأمكنة تضج بالذوق العربي الدمشقي، ورائحة الهال والقهوة والحلوى والطعام الذي لا يخطئ رائحته أنف يميّز التوابل العربية من بعضها، ولو عن بعد!
"الخيار الأول والأفضل"
أحمد حلواني (28 عاماً)، شاب دمشقي مقيم في تركيا، يقطن في حي الفاتح في إسطنبول، وله مصالح تجارية عدة، واحدة منها شركة سياحية.
يحكي لرصيف22، عن بداية تمركز السوريين في الفاتح: "عندما جاء السوريون إلى إسطنبول، مع بدء الأزمة في بلادهم، كانت أمام معظمهم ثلاثة خيارات للسكن، هي شيشلي، وتقسيم، وحي الفاتح، بعيداً عن الأحياء الأخرى ذات الوضع السيئ نسبياً، مثل أسنيورت وبيليك دوزو. ولأن طبيعة الحياة في الفاتح تشبه إلى حد كبير تلك التي في دمشق، وجدوا أنفسهم يقطنون فيه، وكان هو الخيار الأول والأفضل للمعيشة والسكن والعمل".
تصوير محمد الشامي
وعن أوجه الشبه هذه يشرح حلواني: "منطقة جامع الفاتح مثل منطقة الجامع الأموي، وحارات الفاتح القديمة مثل حي بلاط وأشباهه، مثل حارات السور، وأونكاباني مثل القيمرية، ذات الأجواء والبيوت والحارات والحنية".
يشير أيضاً إلى تشابه منطقة تقسيم مع منطقة باب توما في دمشق، من حيث الحارات والمحالّ وهيكلية البناء والعمران، وتالياً هي أيضاً استقطبت شرائح من السوريين تجدها ملائمةً للسكن بالنسبة إليهم. أما حي الفاتح برأيه، فقد جذب الذين يميلون إلى الطبيعة المحافظة نوعاً ما، ويضيف ضمن هذا السياق: "بعض العائلات السورية عندما تريد أن تقطن في حي ما، فإنها تنظر إلى الأجواء العامة للمنطقة، من حيث اللباس العام لأهلها، ومدى وجود البارات أو المحالّ التي تقدّم الخمور، فهي أمور جوهرية بالنسبة إليها".
تصوير محمد الشامي
حلويات ووجبات
من أولى السمات التي لفتت انتباهي في حي الفاتح، الجو العام للمنطقة، فهي تضج بالحياة، وتمتلئ بعربات القهوة السورية عند مفترقات الطرق، وبالناس قرب محطات الباص، وبالحركة الكثيفة للذاهبين والعائدين، وبالمنفتحين على الحياة والمقبلين عليها غير آبهين بمن حولهم، وبالمنغلقين على ذواتهم، كأن من حولهم أناس من كوكب آخر.
عندما تدخل مطعم "سلورة" المشهور في الفاتح، بوسعك أن تشعر بأنك في منزلك، وبأن طعام البيت المرتبط في الذاكرة بكثير من الذكريات، يأتي إليك محمولاً بين يدي نادل، تعلو وجهه البشاشة وهو يضع أطباق الطعام بكل سرور
كان التناقض ممتزجاً بشكل غريب، وممتلئاً بالوجوه المتعبة التي جمعت كل الأعمار في شيء واحد تختصره الحياة، وهو التعب، أينما كنا.
إلا أن هذا التعب يبدو لذيذاً عندما تدخل مطعم "سلورة" المشهور في الفاتح، بتقديم الحلويات والوجبات السورية، فبوسعك أن تشعر بأنك في منزلك، وبأن طعام البيت المرتبط في الذاكرة بكثير من الذكريات، يأتي إليك محمولاً بين يدي نادل، تعلو وجهه البشاشة وهو يضع أطباق الطعام بكل سرور، ويكون سخياً قبل كل هذا، عندما يقدم كوب الشاي مجاناً، لتتدفأ به إلى حين يجهز طلبك.
ومن الأطباق التي يتميز مطعم سلورة بتقديمها، الكباب الحلبي، والهريسة، والمأمونية، والبلورية، والعثمنلية، والفريكة باللحمة، واللحمة بدبس الرمان، والكبة، واليلنجي، والشاكرية، وغيرها من الوجبات السورية التي يأتي الزبائن والسياح بشكل خاص لتناولها.
تصوير محمد الشامي
حمويون وحلبيون ودمشقيون
وعن الوجود اللافت للمطاعم السورية في الفاتح، وتميز وجباتها، تعلّق قمر حسن، وهي شابة ثلاثينية من مدينة حلب السورية، ومقيمة في الفاتح منذ سبع سنوات: "صاحب مطعم سلورة سوري من حلب، وكذلك صاحب مطعم خان الوزير الشهير أيضاً، إذ تنوع السوريون في مجالات تجارتهم هنا، بتنوع مدنهم".
وتوضح حسب خبرتها العملية ومعايشتها للواقع، وهي اليوم تعمل بائعةً في محل ألبسة: "السوريون هنا ثلاثة أقسام، في ما يخص نوع العمل: الشوام ويُقصد بهم الدمشقيون، ويفتتحون شركاتٍ متخصصةً بتسهيل إجراءات الإقامة التركية ولوازمها من إجراءات حكومية، وتجارة السيارات وتجارة الألبسة. أما المطاعم فغالبية أصحابها من الحلبيين، ويأتي الدمشقيون في المرتبة الثانية. أما القادمون من مدينة حماة، فيعمل قسم كبير منهم في المجال الطبي، إذ افتتحوا مراكز لزراعة الشعر، وكل ما له علاقة بالتجميل، بالإضافة إلى البرمجيات وتجارة الذهب".
تصوير محمد الشامي
وبالنسبة لها، فإن سبب تمركز السوريين في حي الفاتح، يرجع إلى أنها منطقة قديمة جداً، وفيها أيضاً أماكن حديثة، لهذا تُعدّ "بين البينين" وفق تعبيرها، مما جعلها واجهةً سياحيةً بشكل دائم، ووجود السياح باستمرار يعني أن التجارة منتعشة، لهذا يُقبل السوريون عموماً والدمشقيون خصوصاً، على السكن وفتح أنشطة تجارية فيه.
للأثرياء فحسب
أنس عكو (27 عاماً)، مخبري أسنان دمشقي، مقيم في حي الفاتح. يحكي وجهة نظره لرصيف22، قائلاً: "من يسكنون في الفاتح، هم تجار وأصحاب رؤوس أموال منذ زمن طويل، وتفكيرهم التجاري هو ما دفعهم إلى السكن هنا، لأنها منطقة تتوسط إسطنبول، وأنا لم أرَ إلا العائلات الغنية فيها".
عندما جاء السوريون إلى إسطنبول، كانت أمام معظمهم ثلاثة خيارات للسكن، هي شيشلي، وتقسيم، وحي الفاتح، ولأن طبيعة الحياة في الفاتح تشبه إلى حد كبير تلك التي في دمشق، وجدوا أنفسهم يقطنون فيه، وكان هو الخيار الأول والأفضل للمعيشة والسكن والعمل
وعن التشابه مع سوريا، يقول: "معظم معالم إسطنبول الشهيرة مثل آيا صوفيا، والسلطان أحمد، تشبه إلى حد ما المناطق والحارات القديمة في الشام، وهي تذكّر الدمشقيين بالأيام والليالي الدمشقية بكل ما تتميز به من طقوس دينية واجتماعية".
ويبدو جلياً لأي زائر عربي، التشابه بين حي الفاتح وبين ما كان يشاهده في الدراما السورية، مثل مسلسل "باب الحارة"، من ملامح تراثية للمباني والأسواق والأماكن والمقاهي والجلسات، فيشعر وهو يتخذ خطواته في هذا الحي، بأنه في سوريا. ويساهم في هذا الشعور وجود السوريين وسماع اللهجة السورية في كل مكان تقريباً.
"ربما الجانب الديني هو السبب"
أما عبد الرازق الخطيب، وهو سوري من دمشق، يبلغ من العمر 29 عاماً، يرجّح أن سبب وجود السوريين في حي الفاتح بنسبة كبيرة، يرجع إلى الطابع المحافظ لهذا الحي، فيقول لرصيف22: "الفاتح منطقة يتميز سكانها بالمحافظة، وغالبية النساء فيها محجبات، وهذا الشيء يتناسب مع نسبة من السوريين، لهذا لفتت أنظارهم لتشابه أسلوب الحياة فيها بينه وبين بلادهم".
يتابع: "توجد في الفاتح منطقة ضريح محمد الفاتح، وهي منطقة يتشابه نمطها مع ما اعتاد عليه الدمشقيون، فهناك طبقة دينية، وعلمانيون كُثر، مما يجعل أي دمشقي يحنّ إلى الأجواء الدمشقية والطابع العام، فينتقل للسكن في الفاتح، أو قريباً منها".
تصوير محمد الشامي
تخالفه الرأي فاطمة أحمد، 30 عاماً، وهي تقطن في الفاتح منذ سبع سنوات، وتعمل في تسويق العقارات، إذ تقول: "أعتقد أن سبب تمركز السوريين في حي الفاتح هو ببساطة موقعه وسط البلد، فالمواصلات متوافرة من جميع الأطراف، كما أنه يضم كل شيء، مراكز التسوق، والمولات والأسواق المتخصصة، والعيادات والمستشفيات وجميع أنواع الشركات".
تضيف: "هي أيضاً منطقة تاريخية، وأكثر منطقة تتوافر فيها الجوامع، لهذا السبب هي محبوبة عند كبار السن من السوريين، فمثلاً أبي يشعر بالارتياح النفسي، لتوافر دروس العلم والدين في هذه الجوامع".
تصوير محمد الشامي
وقائع جديدة: لا للتأجير
في تهديد غير مباشر للوجود السوري الكبير في حي الفاتح، صرّح رئيس بلدية الفاتح أرغون توران، عبر لقاء تلفزيوني أواخر العام الماضي، بأن زيادة عدد اللاجئين الأجانب في حي الفاتح بات مشكلةً تهدد المواطنين الأتراك، وبناءً عليه لا يمكن للمهاجرين المقيمين الاستئجار في حي الفاتح، لافتاً إلى خروج نحو سبعة آلاف مهاجر من حي الفاتح.
وتتجاوز أعداد السوريين في جميع أنحاء تركيا ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف شخص، وفق آخر الأرقام.
وأينما كان تمركز السوريين، سواء في حي الفاتح أو إسنيورت، أو في أي منطقة تركية أخرى، فلا بد أن عاداتهم وتقاليدهم وكرمهم الفائض وتجارتهم وأطعمتهم تنتقل معهم أينما حلوا وارتحلوا، فكأنما يثبتون للجميع أن الأوطان تسير بأهلها أينما دبّوا في الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع