إسطنبول مدينة استثنائية، فما يحدث في إسطنبول قد يبقى فيها أبد الدهر، كذكريات وأحداث ومواقف، وبوسع القاطنِ فيها أن يشكّل شخصيته كما يريد، مزيلاً كل الأقنعة، كافراً بكل التابوهات التي اكتسبها في وطنه ومجتمعه ودائرته.
لكن إسطنبول مدينة صعبة للعيش. هي تعطيك، لكنها تأخذ منك في المقابل الكثير، فإن كنت تسعى نحوها، فأنت بحاجة للقتال اليومي مع المواصلات العامة، الهرولة خلف سيارات الأجرة، العمل في أكثر من وظيفة، أو لساعات طويلة.
ووسط كل هذا، نتساءل: كيف تصمد الفتيات العربيات في إسطنبول؟ ما دوافعهن؟ وما الذي يدور خلف سواتر القتال؟
دراسة وانغماس كلي في العمل
حصلت آلاء، وهي فتاة مصرية عشرينية، على قبول جامعي في قسم الهندسة الكهربائية بجامعة أتاتورك، قبل عام ونصف، وقد اختارت مدينة إسطنبول للدراسة لشعبيتها لدى الطلاب المصريين الراغبين في الحصول على تجربة تعليم خارج مصر، ولانخفاض التكاليف الدراسية والمعيشية مقارنة بدول أخرى.
إسطنبول مدينة صعبة للعيش، فهي تعطيك لكن تأخذ في المقابل الكثير، فكيف تصمد مئات الفتيات العربيات فيها؟
تسترجع ذكرياتها في بداية العيش في إسطنبول، وتقول لرصيف22: "عندما تأتي الفتاة إلى إسطنبول، تنتظرها الكثير من المعاملات والإجراءات الخاصة بالإقامة وتصديق الشهادات العلمية وما يلزمها. وثقت بشاب مصري أسندت له هذه المهام، وبعدما انغمست بتفاصيل الحياة اكتشفت أنه نصب عليّ بمبلغ 1500 دولار أمريكي".
ورغم صغر سنها تؤكد: "إلى جانب دراستي، أعمل موظفة في قسم الرد على الزبائن لدى شركة خاصة، ويكون هذا العمل في أوقات الضغط كالجحيم، لكنني أحتمل، لأنني مضطرة للعيش هنا وعدم إثقال كاهل أهلي بمتطلباتي".
مصاريف بلا هوادة
بدورها قَدِمت دعاء، وهي فتاة فلسطينية، إلى إسطنبول قبل سنتين، لإكمال دراستها العليا بعد انفصالها، لما لهذه المدينة من سمعة حسنة في التعليم العالي. تقول لرصيف22: "عندما وقع مبلغ مالي جرّاء تبعات الانفصال في يدي، قرّرت تخصيصه لاستكمال دراستي، وتلقيت دعم أهلي كي أنسى تجربة الانفصال وابدأ حياة جديدة".
تتابع الفتاة العشرينية بشيء من الوهن: "كنت متحمسة، لكن كورونا عطلت كل شيء، وأصبحت الدراسة عن بعد. أدخرت المبلغ حتى تنقضي أزمة كورونا ويعود التعليم كما كان لأسجّل بالجامعة، وإلى ذلك الحين قرّرت البدء بالعمل".
وبينما هي تسترجع معاناتها في هذه المدينة تقول: "استأجرت شقة صغيرة بألف ليرة شهرياً، وأدفع نحو أربعمئة ليرة شهرياً لفواتير الماء والكهرباء والتدفئة والإنترنت، وهو مصروف لا يشمل الطعام والمواصلات".
تضيف: "أعمل محاسبة لاثنتي عشر ساعة يومياً، مقابل 2500 ليرة تركية (حوالي 300 دولار)، لخمسة أو ستة أيام أسبوعياً، ولا أملك وقتاً لنفسي. الآن أنتظر قدوم أهلي على أحرّ من الجمر، كي أخفف عن نفسي عناء الحياة وحيدة هنا".
من مدينة إسطنبول - تصوير محمد الشامي
مدينة متنوّعة رغم المشقات
أما عبير، وهي فتاة فلسطينية لها من العمر ثلاثون عاماً، قَدِمت إلى إسطنبول قبل ست سنوات للعمل، وبدافعٍ لاستكشاف مدينة يتحدث عنها الجميع من أصدقاء وأقرباء، وتنشغل بها وسائل الإعلام.
تعمل عبير حالياً سكرتيرة، بعد أن تنقّلت بعدة وظائف، كان خلالها الجنس الآخر ينظر إليها فقط كأنثى، ويصل هذا إلى حد الطلب الصريحِ من بعض زملائها بالعمل إقامة علاقات خاصة، أو الابتزاز المستمر، كالتلويح بالفصل من العمل أو تأخير الراتب، للوصول إلى هذه الغاية. "يعتقدون أن أي فتاة، خاصة الغريبة عن البلد، مستعدة لأن تقدم نفسها طواعية مقابل بعض الميزات"، تقول في حديثها لرصيف22.
وعن إسطنبول ومآزقها يثور حنقها وهي تؤكد: "الراتب ينتهي قبل انتهاء الشهر، هذا يدفعني لأخذ سلفة من العمل أو الصديقات، وهكذا تدور الدائرة كل شهر، ما بين دين وسد دين ومصاريف. في إسطنبول بوسع أي أحدٍ أن يعيش بألف أو بخمسة آلاف ليرة، وهو من يحدد هذا من خلال نمط ومستوى الحياة التي يريدها".
رغم هذا، تحب عبير الحياة في إسطنبول، فهي أكثر تحرراً مما اعتادت عليه في بلادها، كما أنها متنوّعة ثقافياً بشكل كبير.
العمل وتعلم اللغة
تتحدث نهى، وهي فتاة سورية ثلاثينية مقيمة في إسطنبول مع عائلتها منذ حوالي عشرة أعوام، عن أبرز المجالات التي يمكن للفتيات العربيات العمل فيها في هذه المدينة: "تعمل غير المتعلّمات في ورش الخياطة، محلات بيع الألبسة، تنظيف البيوت، أما الطبيبة فهي تعمل عن طريق التهريب أي بشكل غير نظامي، والمحامية إذا تعلمت اللغة فإنها تعمل كسمسارة عند محامٍ تركي، والآنسة إذا كان حظها جيداً، تعطي دروساً خصوصية للطلاب العرب".
ويترأس المجال الصحي قائمة المهن المحظورة ممارستها للأجانب في تركيا وهي: الصيدلة، الطب بمختلف مجالاته، المحاماة وكاتب العدل، التمريض والقبالة، الحراسة الأمنية والملاحة. يدفع ذلك أصحاب التخصصات السابقة المقيمين في إسطنبول للعمل في مجالاتهم من خلال "التهريب" أو المواربة، والقبول بحد أدنى من الرواتب.
الراتب ينتهي قبل انتهاء الشهر، هذا يدفعني لأخذ سلفة من العمل أو الصديقات، وهكذا تدور الدائرة كل شهر، ما بين دين وسد دين ومصاريف. رغم هذا، أحب الحياة في إسطنبول، فهي أكثر تحرراً مما اعتدت عليه في بلدي، كما أنها متنوّعة ثقافياً بشكل كبير
ويتم الاتفاق على نظام العمل شفوياً في معظم الأحيان، تهرباً من الارتباطات القانونية، وتخلّصاً من أي أعباء مالية. وغالباً ما تحتسب الأجور بشكل يومي، وتبدأ الرواتب الشهرية من 600 وحتى 6000 ليرة تركية (70$-700$)، بينما تتطلب حياة جيدة المستوى ما لا يقل عن 3500 ليرة، وهي تشمل السكن، الذي تبلغ كلفته في منطقة حيوية بإسطنبول بين 1200-1600 ليرة وفي المناطق البعيدة عن المركز 900-1200 ليرة، ومصاريف المواصلات وهي وسطياً 500 ليرة، والطعام والشراب واللباس وتتطلب حوالي 1000 ليرة، ومن ثم بعض الترفيه كارتياد المطاعم والجولات السياحية.
ووفق شرح نهى لرصيف22، يتطلب العمل لدى الأتراك، أصحاب المكاتب والشركات، إتقان اللغة التركية، وبعضهم، كما في مجال التسويق العقاري، يشترط التحدث بلغات أخرى كالإنجليزية، العربية، الفارسية، الصينية والفرنسية، لاستقطاب الزبائن، وهو ما ينعكس على صعوبة العثور على فرص عمل بسبب عائق اللغة، رغم توفر الكفاءات.
أما تعلم اللغة التركية فقد أصبح مسعى الباحثين عن العمل، وهو ما جعل مراكز تعليمها تفتح أبوابها بأسعار رمزية، إذ يكلف تعلّم المستويات الستة نحو 80 دولاراً، ونحو 500-1000 دولار لطلبة الجامعات الذين يحتاجون مستويات متقدمة، ويستغرق زمن الدراسة بالمتوسط نحو تسعة أشهر متواصلة كما تقول نهى، إذ تعتبر اللغة التركية سهلة التعلم كونها مفرداتها قريبة في أغلبها من العربية، إلا أن معظم المقيمين العرب لا يتعلمونها بشكل متقن إلا في حال الاضطرار للاحتكاك اليومي والمستمر بالأتراك.
يتجاوز عدد الأجانب المقيمين في أنحاء تركيا مليون شخص، وتدفعهم في الغالب عدة عوامل، أبرزها الأوضاع السياسية، الحروب، الظروف الاجتماعية، ضنك العيش والإنهاك النفسي في بلادهم، إلى الهجرة نحو إسطنبول بحثاً عن مرفأ ناعم ومشهد جميل ولقمة عيشٍ هنية
مطلقة، وطفلة بلا كملك
خديجة، سيدة سورية عمرها 25 عاماً، مقيمة في إسطنبول منذ ست سنوات وقد قدمت إليها مع عائلتها بسبب أحداث الثورة السورية. تزوجت فيما بعد من سوري في إسطنبول وانفصلت عنه، ولديها طفلة عمرها ثلاث سنوات، تقول لرصيف22: "منذ ولدت هذه الطفلة ووالدها يتهرب من التزاماته نحوها، وحين أردت أن أستخرج لها 'الكملك'، وهي بطاقة حماية مؤقتة تمنح للسوريين في تركيا، كانت تتطلب أن يتواجد الأب معنا. حاولت على مدار ثلاث سنوات، إلى أن بعث الله لي موظفاً ذا قلب رحيم، ساعدني باستخراج الورقة التي علينا استخدامها في كل إجراء نقوم به".
تتابع: "بما أنني أتحمل مسؤولية طفلتي وحدي، عملت في رياض أطفال براتب 800 ليرة تركية أي ما يعادل 100$ تقريباً، وهي لا تكفي بشيء. وكوني مطلقة في إسطنبول لم أسلم من ألسنة العرب، فكثيراً ما يقولون لي بأنني السبب في انفصالي، وأنه كان عليّ أن أحتمل، فنحن في غربة، و'ظل الراجل نعمة'".
ثمن الكملك حرية التنقل
وعلى الضفة الأخرى تقول إيمان، وهي فتاة سورية عشرينية هربت من الحرب في بلادها عام 2013 ولجأت لإسطنبول بحثاً عن الأمان، لرصيف22: "في بداية قدومي كانوا يمنحوننا إقامة ضيف، ثم ألغوها ومنحونا الكملك، ووفقاً لهذه الإقامة نحن لاجئون، وتُلغى بمجرد خروجنا من تركيا، كما لا يحق لنا التحرك من المنطقة التي أصدرتها إلا بإذن سفر".
أما الإقامات الأخرى، كإقامة العمل التي تتطلب استثماراً أو شراكة أو جهة عمل رسمية، فمن الصعب تحصيلها لإجراءاتها المعقدة، كما تقول إيمان، والإقامة السياحية تتطلب مبالغ مالية قد تتجاوز 500 دولار، وتتضمن تجديد أو تصديق جواز السفر من القنصلية السورية كل عامين. "كل هذا مستنزف، لهذا أغلب السوريات يتمتعن بما توفره الكمالك من طبابة ودواء مجاني ومساعدات، ولكن هذا ثمنه حرية التنقل".
من مدينة إسطنبول - تصوير محمد الشامي
ثلاث ليالٍ في السجن
ياسمين، فتاة جزائرية، 25 عاماً، قَدِمت إلى إسطنبول قبل ثلاث سنوات بحثاً عن عمل، وحصلت على إقامة سياحية. ورغم أن القانون التركي لا يسمح للمقيمين سياحياً بالعمل إلا بعد الحصول على إذن، لكن ياسمين وجدت نفسها تعمل في القطاع السياحي بلا إذن، ومنذ فترة تفاجأت بعناصر الشرطة داخل موقع العمل وهم يطلبون من الفريق إظهار الكمالك، ثم سحبوها منهم واقتادوهم إلى السجن.
تروي لنا قصة ياسمين، صديقتها الإيرانية أليسا (29 عاماً) وهي تعمل في ذات المجال المرهق، تتابع: "قضت ياسمين ثلاث ليالٍ بالسجن، ثم خرجت بعد أن وكل لها مدير عملها محامٍ يتابع القضية، وهي الآن مهددة بالترحيل من تركيا، بانتظار قرار المحكمة".
إذن، لماذا تستقبل إسطنبول المزيد من الفتيات العربيات كل يوم؟ تختصر لنا نهى الواقع بقولها: "ربما المسلسلات هي السبب، فهي أداة التسويق الإعلامي الأولى لإسطنبول كواجهة رائعة للعيش، حيث فرص العمل العديدة، والحياة المنفتحة بتنوع كبير. لكن كل ذلك في الواقع صعب المنال".
ويتجاوز عدد الأجانب المقيمين في أنحاء تركيا مليون شخص، وتدفعهم في الغالب عدة عوامل، أبرزها الأوضاع السياسية، الحروب، الظروف الاجتماعية، ضنك العيش والإنهاك النفسي في بلادهم، إلى الهجرة نحو إسطنبول بحثاً عن مرفأ ناعم ومشهد جميل ولقمة عيشٍ هنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...