كان تناول البروستد (الدجاج المقلي) والبرغر في مطعمين يحمل كل منهما اسم ماركة أمريكية شهيرة، طقساً لا غنى عنه لدى مها صلاح عند الخروج مع أسرتها أو أصدقائها لتناول الطعام. فمن المستحيل أن تأكل أياً من هذه الوجبات في مطعم آخر. لكن الأمر بدأ يتغير قبل بضع سنوات وباتت تفضل مطاعم مصرية وسورية تقدم الأطعمة السريعة نفسها على العلامتين التجاريتين اللتين سيطرتا على السوق المصرية طوال عدة عقود.
تقول مها إنها تفضل تناول الدجاج المقلي من مطعم مصري في شارع الهرم بمحافظة الجيزة ومن مطعم آخر سوري بمنطقة المهندسين في نفس المحافظة، لأن جودتهما "أفضل من كنتاكي"، أما البرغر فتتناوله في واحد من مطعمين مصريين لهما عدة فروع في القاهرة الكبرى.
وتوضح سبب عزوفها عن مطعميهما المفضلين: "أيام إعدادي وثانوي كنت باكل هناك (تقصد المطعمين الأمريكيين) لكن وقت الجامعة بدأت اكتشف مطاعم تانيه بتقدم أكل بجودة أعلى بكتير وأسعار أحسن". وأضافت: "كنتاكي وماكدونالدز عليهم ضغط كبير جدا رغم أن الكواليتي بتاعهتم في مصر أقل بكتير. على عكس المطاعم التانية؛ مش من زمان ولا واخدة نفس الشهرة بس دلوقتي هي أحلى".
مثل مها، كان مصطفى محمد وصديقه عمر فتحي معتادين ارتياد الفروع المحلية للمطعمين العالميين، لكنهما الآن يذهبان إلى مطاعم مصرية وسورية تقدم نفس الطعام. يقول محمد، الذي كان يتناول الطعام في مطعم مصري يقدم البروستد بشارع اللبيني في محافظة الجيزة لرصيف22: "أنا ساكن في منطقة العشرين بفيصل وعديت على أكتر من 25 مطعم بيقدم البروستد منهم 3 فروع لكنتاكي تقريباً وجيت هنا عشان جودة الأكل أعلى وكمان السعر كويس".
في أعقاب الحرب الأهلية السورية، استقبلت مصر مئات الآلاف من السوريين الذين ضخوا مليارات الجنيهات في عجلة الاقتصاد المحلي، عبر استثماراتهم في مجالات متعددة، منها المطاعم والخدمات السياحية
منافسة شرسة
عقب العام 2011، بدأت المطاعم السورية في الانتشار بمصر، مع فرار ملايين السوريين من بلادهم من نيران القصف العشوائي، بعد اندلاع الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في سوريا. وواجهها نظام الرئيس السوري بشار الأسد باستخدام القوة لسحقها، فتصاعدت وتيرة العنف سريعاً، وغرقت البلاد في الحرب الأهلية.
وكانت مصر واحدة من الدول التي استقبلت مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، بعضهم مسجل رسمياً كلاجئين لدى المفوضية السامية (نحو 130 ألفاً)، ومعظمهم يقيم في مصر تحت تأشيرات التعليم والعمل والاستثمار. وتقيم غالبيتهم في القاهرة الكبرى (القاهرة والجيزة والقليوبية) والأسكندرية ودمياط، وعدة مدن أخرى في الساحل الشمالي، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ولجأ سوريون إلى التوسع في إنشاء المطاعم في المناطق الشعبية باعتبارها تجارة شبه مضمونة تستند إلى "السمعة" السورية المميزة لدى المصريين.
وأدى انتشار المطاعم السورية إلى تنافس شديد بينها وبين المطاعم المصرية فضلاً عن تنافسها جميعاً مع المطاعم الأمريكية، وهو ما صب في النهاية في مصلحة المستهلك، حسبما يؤكد طارق متولي، عضو مجلس النواب السابق، الذي قال في العام 2019، إن وجود السوريين في مصر أدخل الكثير من الأموال والاستثمارات في مجالات مختلفة، وأسهم في تنشيط الاقتصاد وإحداث حالة من التنافسية بين المنتجات، تصب في مصلحة المواطن المصري من خلال توفير منتجات عالية الجودة وبأسعار تنافسية.
واستناداً للتقرير الإنمائي للأمم المتحدة االصادر في العام 2017، تستحوذ مصر على 23 مليار دولار أمريكي من أموال السوريين خارج وطنهم الأصلي، منها ملياران على الأقل يدوران في عجلة الاستثمارات، بالرغم من المعوقات. وبحسب رجال أعمال سوريين فإن المطاعم في عداد مجالات تتصدر استثمارات السوريين التي يأتي على رأسها قطاع الأنسجة والملبوسات.
أدى انتشار المطاعم السورية إلى تنافس شديد بينها وبين المطاعم المصرية، فضلاً عن تنافسها جميعاً مع المطاعم الأمريكية، وهو ما صب في النهاية في مصلحة المستهلك المصري
الذائقة الشعبية
لكن لتفوق المطاعم المصرية والسورية العديد من الأسباب الأخرى حسبما يرى مسؤولون في هذه المطاعم، منهم المصري محمد عبدالله، مدير أحد مطاعم البروستد الشهيرة في محافظة الجيزة، الذي يرى أن سبب تفوق المطاعم المصرية والسورية على نظيرتها الأمريكية يتصل بقدرتها على الوصول لطبقات مختلفة وتغيير مفهوم الوجبة السريعة من "أكلة مرتبطة بالخروج والفسح إلى وجبة تسد الاحتياج اليومي خاصة للعاملين المضطرين للبقاء فترات طويلة خارج البيت"، وما يتصل بهذا من كون الوجبة لا بد أن تكون مشبعة وبسعر مناسب والحصول عليها ممكن من مكان قريب. أما الأمر الثاني فيتمثل في أن العلامات الأمريكية "تستخدم الفراخ المجمدة في حين إن المصريين يفضلون الدجاج الفريش"، بحسب قوله.
وشدد عبدالله على أن النظافة من أهم الأسباب أيضاً، موضحاً: "لما البراند بيبقى ضخم بيبقى صعب السيطرة على مفاصل البراند نفسه في كذا نقطة زي الجودة والنظافة وهي أهم نقطة فيه. براند عنده 150 فرع غير براند عنده فرعين تلاتة، بيكون الأونر (المالك) نفسه عينه في المكان، موجود باستمرار، ومهما كان ليه هيبته عن مشرف جودة".
ويعترف عبدالله أن هناك تفوقاً سورياً مصرياً في خدمة العملاء، المطاعم الصغيرة، يقول: "وبتكون حريصة على التعامل بشكل جيد مع العملاء وحل مشاكلهم، بعكس البراندات الكبيرة (يقصد الأمريكية) التي لا تحل مشاكل العملاء بنفس الطريقة، فده بيخلي العميل عنده ولاء للأماكن الأصغر لأنها بتعامله أحسن".
منذ بدايات القرن الماضي، تمتع السوريون بسمعة طيبة في مصر فيما يتصل بجودة الطعام ونظافته، وهي السمعة التي أسهمت في ازدهار "بيزنس" المطاعم السورية خاصة في المناطق الشعبية
ويقول محمد عبدالرحمن، وهو مدير في أحد المطاعم السورية، إن أساليب التسويق التي تتبعها المطاعم المصرية والسورية تصنع الفرق وتساهم في انتشارها، موضحاً أن "هناك اهتماماً كبيراً لدى المطاعم السورية والمصرية بالسوشال ميديا، وهو ما لا تفعله العلامات الأمريكية التي تسوّق لنفسها في الصحف والإعلانات التلفزيونية نظرا لإمكاناتها الكبيرة، إلا أن النتائج أقل مما يحققه التسويق من خلال السوشال ميديا".
وتعد فئة الشباب الأكثر إقبالاً على مطاعم "الفرايد تشيكن" و"البرغر" في مصر. وتجذب الطبقة الوسطى والطبقة العليا، ويتضح ذلك من انتشارها في المناطق الشعبية والراقية والإقبال عليها هناك.
وبحسب الذين تحدث إليهم رصيف22، فإن أسعار بعض المطاعم المصرية والسورية قد تزيد على أسعار العلامتين الأمريكيتين، ومع ذلك الإقبال عليها أكبر بسبب جودة الطعام. لكن أسعار المطاعم المتوسطة، خاصة المنتشرة في الأحياء الشعبية، ساهمت في التوسع الأفقي لهذه المطاعم، بحسب عاطف عبدالعزيز، الذي يسكن في منطقة فيصل.
فاتورة الطعام
ويُنفق المصريون على الطعام والشراب نحو 30% من حجم الدخل الشهري، أي 62 مليار جنيه. وعلى الرغم من ارتفاع فاتورة المأكل والمشرب، بحسب تصريحات رسمية لرئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في أيلول/ سبتمبر2021، انخفضت تلك النسبة نحو 35% من حجم الدخل الشهري لعام 2017.
وكشف تقرير لوكالة الإحصاء الرسمية أن مجموعة الطعام والشراب تستحوذ على أكبر نسبة إنفاق للأسر، إذ بلغت 29.9% للأسر الصغيرة العدد من 1 إلى اثنين، ونسبة 31.8%، للأسر من 5 إلى 6 أفراد، ثم تزايدت إلى 37% للأسر من 9 أفراد فأكثر.
وأوضح التقرير أن أعلى نسبة إنفاق على مجموعة الطعام والشراب للأسر التي يترأسها أفراد في الفئة العمرية 25 – 34 إذ بلغت 34.8%، وتتدنى إلى نحو 29% لأرباب الأسر البالغين من العمر 45 سنة فأكثر.
وبحسب دراسة صادرة عن المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، في تموز/ يوليو من العام 2020، يمثل الإنفاق الأسري على الطعام خارج المنزل نسبة كبيرة من حجم الإنفاق على الأطعمة والمشروبات، إذ تنفق الأسر سنوياً نحو 200 مليار جنيه على الطعام والشراب، أي 46% من حجم الإنفاق الكلي للأسر وفق بيانات مسح الدخل والإنفاق عن العامين 2017/2018.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...