صحيح أن الهجرة التي ألمّت بالفلسطينيين خلال القرن الماضي، قد أبعدتهم عن وطنهم الأم، والمكان الذي يحمل ذاكرتهم، وذاكرة آبائهم وأجدادهم، ولكنّ هذا الشعب الذي بعثرته الحرب في شتّى بقاع الأرض، وحّدته قضية المحافظة على تراثه المادّي، وغير المادي، وعلقت في ذاكرته صور المنسوجات والأشكال التي حبكها الأجداد منذ آلاف السنين، وتناقلتها النساء، وأودعتها أمانةً في أعناق الأبناء، جيلاً بعد جيل.
ومهما بلغت التصاميم الحديثة من تطوّر، فإن حبكة التراث الفلسطيني بقيت مميزةً وراسخةً، ومتجذّرةً في ذاكرة الفتيات الفلسطينيات، أينما حللن في أوطان جديدة، ومدن فتحت أبوابها لهن.
تأسس نادي فتيات فلسطين في دمشق عام 1965، بهدف السعي للحفاظ على الهوية الفلسطينية في الشتات.
قطبة النكبات والأفراح
في مقر "نادي فتيات فلسطين"، في شارع الملك العادل وسط دمشق، وعند الدخول إلى المبنى الذي يلمّ شملَ الفتيات حاميات التراث الفلسطيني، تبعث جدران الغرفة التي تكسوها اللوحات والأشكال التراثيّة الدّفء، على الرغم من الصقيع الذي يجتاح المدينة.
أتقدم خطواتٍ متجاوزاً هذه الغرفة، إلى المجاورة لها، حيث تجلس حول الطاولة ثلاث فتيات يمسكن بإبر وخيوط متنوعة الألوان، وأياديهنّ تعلو تارةً وتنخفض تارةً، بدقة وانتظام، بينما رؤوسهنّ منخفضة تصوّب أنظارهن نحو رؤوس الإبر التي تخترق قطع القماش، وهن يعملن في حياكة القطبة الفلسطينية في هذا النادي التراثي الاجتماعي الثقافي، الذي اتّخذنَه مكاناً للحفاظ على تراث وطنهن.
تتفاخر الفتاة أسماء مصطفى، بإتقان القطبة الفلسطينية، إذ تنساب من تحت يديها الأشكال المنتظمة بألوانها الدافئة. تتحدث إلى رصيف22، عن ماضي أجدادها العريق، وقِدم الأثواب الفلسطينية التراثية، واختلاف أنواع القطب والخيوط والألوان المستخدمة بين مدينة وأخرى في فلسطين، حسب طبيعة البيئة المستوحاة منها الأشكال والألوان، فأثواب المناطق الساحلية تميّزت بالمزيج الإغريقي واليوناني، بينما لم تشتهر أثواب المناطق الجبلية بكثافة التطريز، بسبب انشغال الفتيات في أعمال الزراعة، أما ثوب مدينة نابلس فتأثر بالمنسوجات الدمشقية نتيجة العلاقات التجارية التي كانت قائمةً بين المدينتين، في حين تتميز ملابس مدينة يافا بغزارة الألوان نتيجة البيئة الجميلة المليئة بأنواع الأشجار والطيور، وتُعدّ أثواب يافا من أجمل الأثواب الفلسطينية.
ترفع أسماء نظرها بشكل متقطّعٍ، وهي تتحدث، بينما تستمرّ في حياكة ثوب القدس الذي يدلّ على الأزمات والعصور التي مرّت بها المدينة، منها وحدة التطريز "الصليب"، التي تميّزت بها الأثواب، نسبةً إلى الفترة الصليبية، وكذلك التطريز بآيات قرآنية، نسبةً إلى فترة الحكم الإسلامي، في حين أصبح الثوب يُطرَّز حالياً بالألوان الداكنة، تعبيراً عن أيام النكبة. أما التطريز باللون الأصفر، فيرمز إلى قبّة الصخرة، ويُنسَب ثوب بئر السبع إلى صحراء النقب.
وحتى ألوان الأثواب المحاكة بالقطبة الفلسطينية، فهي تميز بين الأرملة والفتاة العزباء كما تخبرنا أسماء، إذ كانت الفتاة العزباء ترتدي اللون الأحمر، والأرملة ترتدي اللون الأزرق الخاص بمدينة بئر السبع، وعند انتهاء فترة الحداد ترتدي ثوباً مطرّزاً بباقات من الزهور على جانبي الثوب، إيذاناً بنهاية مرحلة، وبدء أخرى.
وانتقلت الأثواب بين أهل المدن عن طريق التزاوج، ونقل الزوجة تراث مدينتها إلى المدينة الأخرى. أما ثوب الملكة، فكان من اللون الأبيض المطرّز باللونين الأحمر والزهري.
نسأل أسماء، وهي خريجة المعهد المتوسّط للفنون النسويّة، عن أصل القطبة الفلسطينية التي أتقنتها كما تقول، مذ كانت في المرحلة الإعدادية.
"تُسمَّى هذه بالقطبة ‘التلحمية’، لأنها كانت تحاك في بيت لحم، بخيوط يطلق عليها اسم ‘التحريري’، نسبةً إلى القصب والحرير اللذين تُصنع منهما، ولكن حالياً استُبدل التحريري بخيوط ‘دي أم سي’ الفرنسية الصنع، وتوجد صعوبة كبيرة اليوم في تأمينها واستيرادها إلى سوريا".
تتفاخر أسماء مصطفى بإتقان القطبة الفلسطينية، إذ تنساب من تحت يديها الأشكال المنتظمة بألوانها الدافئة. تتحدث عن ماضي أجدادها العريق، وقِدم الأثواب الفلسطينية التراثية، واختلاف أنواع القطب والخيوط والألوان المستخدمة بين مدينة وأخرى في فلسطين
منتجات "على الموضة"
ورثت حنين حمزات، القطبة التراثية الفلسطينية عن والدتها، فشكل القطبة التي أتقنتها لم يتغيّر، وبقي موحّداً محافظاً على التنسيق ذاته، وهو عبارة عن مربعاتٍ منتظمة ومنسّقة على القماش، من دون أن تتدخّل مكنات الطباعة والرسم المسبق في هذا العمل اليدوي، فالشكل الذي ستنتهي به الحياكة اليدوية يتم تخيّله وانتقاؤه من ذاكرة الأجداد، ومن ثم نسجه يدوياً، كما أن بعض الأشكال والرسومات التي تُنسج على القماش مستوحاةٌ من الطبيعة، منها قرص النجمة، والزهور، والصلبان، وغيرها من الأشكال التي تتحوّل إلى لوحات فنية على قطع القماش بطريقة منتظمة.
لم تكتفِ الفتيات في النادي الفلسطيني بذلك، بل أدخلن على هذا التراث بعض التطوير لمواكبة الموضة، بدمج الماضي مع الحاضر بطريقة صحيحة، كما تشرح حمزات، المجازة من كلية التربية، فالشكل القديم المتمثل بـ"الهندسي والنباتي"، وهو رمز للانتماء الوطني، وُظّف في الملابس والأزياء الحديثة، ومنها الشالات المستطيلة، والعباءات، وغيرها، بحيث تناسب جميع الأعمار، ولا تقتصر على المرأة فحسب.
بالإضافة إلى ذلك، طورت الفتيات أشكالاً مستوحاةً من التراث، واليوم يطرزنها على منتجات مختلفة، منها الإكسسوارات، والصناديق، وعلب المحارم، والمرايا، والصواني، والحقائب بأشكال مختلفة، إلى جانب لوحات عن التراث الفلسطيني، ولوحات الأعراس الفلسطينية، والدبكة.
عقود من الحفاظ على التراث
تأسس نادي فتيات فلسطين في دمشق عام 1965، وكان له هدف أساسي يتمثل في السعي إلى الحفاظ على الهوية الفلسطينية في الشتات، وإلى أن يكون مركزاً للتراث الفلسطيني، بشكل خاص في دمشق التي استقبلت آلاف اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، وكان مخيم اليرموك في جنوب المدينة، حيث اختار النادي أن يكون مقرّه، أكبر تجمّع للفلسطينيين في سوريا.
ورثت حنين حمزات القطبة التراثية الفلسطينية عن والدتها، فشكل القطبة التي أتقنتها لم يتغيّر.
وعمل النادي خلال عقود متواصلة على التعريف بالتراث والهوية الفلسطينيين، وتعليم التطريز الفلسطيني بشكل خاص، من خلال دورات تستهدف النساء والفتيات، وتساهم أيضاً في تأمين فرص عمل لهنّ.
"بالنسبة إلى المبتدئات، يتم تدريبهن على إنجاز القطع الصغيرة ذات الرسومات البسيطة، حتى يتقنّ الانتقال من مربع إلى آخر، بالحجم والدقة نفسيهما، وبعد مضيّ ثلاثة أشهر من العمل، يصبحن قادراتٍ على إنجاز أشكال متدرّجة في الصعوبة، مع المحافظة على جودة القطعة، ونبدأ بتوزيع القماش والخيوط عليهن، حسب مهام كل منهن"، تشرح أسماء.
اليوم، تعمل قرابة 300 سيدة داخل منازلهن، بالتعاون مع نادي فتيات فلسطين، لإنجاز قطع تعتمد على القطبة الفلسطينية، ويستغرق إنجازُ الثوب الواحد مثلاً، بين شهر وشهرين، حسب خبرة الفتاة، كما تقول أسماء، ويشاركن في معارض محلية ودولية لعرض المنتجات، وبيعها.
سرقة القطبة
تتهم حنين حمزات، بعض الدول، ومن بينها الكيان الإسرائيلي، بمحاولة تقليد تراث أجدادها وآبائها، وسرقته، "ولكن لن يستطيعوا المضيّ في هذا المخطط، فالتراث الذي يسري في دماء الأبناء والآباء والأجداد، يزيّن جدران كل بيت فلسطيني في الشتات"، تؤكد بنبرة حازمة.
مرت على النادي آلاف النساء، الفلسطينيات والسوريات، وهن مصممات على الحفاظ على تراث آبائهن وأجدادهن، لإيمانهن بأهمية الجانب الثقافي في معركتنا للاحتفاظ بهويتنا
ولم تتوقف عمليات تقليد الأثواب وسرقة تراث هذا الشعب الذي يتمسّك بجذوره، ومنه ما حصل مؤخراً، كما تروي المشرفة الإدارية للنادي، منيرة موالي، من محاولة إسرائيلية لسرقة التراث الفلسطيني، وتزييفه، خلال عرض لملكات الجمال اللواتي ارتدين الأثواب الفلسطينية، "ولكن الشعب أينما وُجد يستطيع أن يتحدّى العالم بالثوب الفلسطيني الذي نُسج ووُلد قبل وجود الاستعمار الصهيوني، ومهما توالت الهجمات، فالتراث هوية ثابتة، وهذا ما أكدته منظمة اليونسكو التي اعتمدت الثوب الفلسطيني مؤخراً، وأدرجته على قائمة التراث العالمي للفلسطينيين".
وختمت موالي بالقول: "لم يسلم مقرّ النادي التراثي الثقافي الاجتماعي الذي وُلد فيه توريث القطبة الفلسطينية منذ ستينيات القرن الماضي، وجمع ذكريات آلاف الفتيات اللواتي مررن بهذا المكان، من آثار الحرب في سوريا، إذ اضطررنا في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام 2012، إلى نقل مقرّنا من مخيم اليرموك، الذي شهد أعنف المعارك، إلى حي المزة، ثم إلى مقرّنا الحالي. مع ذلك، مرت على النادي، التابع لمنظمة التحرير، آلاف النساء، الفلسطينيات والسوريات، وهن مصممات على الحفاظ على تراث آبائهن وأجدادهن، لإيمانهن بأهمية الجانب الثقافي في معركتنا للاحتفاظ بهويتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...