تعتبر الكوفية رمزاً للنضال والمقاومة، وقد اكتسبت شهرة واسعة النطاق بفضل كفاح الفدائيين الفلسطينيين والخطاب الشهير للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الملقب بـ"أبو عمار"، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1974.
واللافت ان للكوفية تاريخ طويل متجذّر في الشرق الأوسط ورمزية سياسية، قبل أن تتحول بدورها إلى أيقونة في عالم الموضة.
أصل كلمة الكوفية
غابت كلمة "الكوفية" عن القواميس العربية القديمة، باستثناء تاج العروس الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، والتي فسّرها مرتضى الزبيدي بأنها "شيء يُلبس على الرأس، سُمي بهذا الإسم لأنه ملفوف".
في الواقع، إن تتبع تاريخ قطعة القماش هذه ليس سهلاً على الإطلاق، ولكن من المعلوم أن الكوفية كانت من بين العناصر المميزة في الزي البدوي، وقد وضعها المستشرق الألماني يوليوس إيتينغ أثناء غزو شبه الجزيرة العربية: "من أجل حماية الرأس من حرارة الشمس، أرتدي أولاً قبعة بيضاء من اللباد، وفوقها كوفية مبطنة، أي وشاحاً من القطن الأزرق البسيط مطوياً في مثلث، يتدلى طرفه إلى الأسفل".
تعتبر الكوفية رمزاً للنضال والمقاومة، وقد اكتسبت شهرة واسعة النطاق بفضل كفاح الفدائيين الفلسطينيين والخطاب الشهير للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الملقب بـ"أبو عمار"، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1974
وفي هذا الصدد، قد يكون الوصف الذي قدمه ماكس فون أوبنهايم في تسعينيات القرن 19، الأكثر دقة، إذ قال: "غطاء الرأس الوطني للعرب البدو هو الكوفية أو الشاشية، وهو عبارة عن نسيج قطني أو حريري للأشخاص المتميزين، تبلغ مساحته حوالي متر مربع، يطوى بشكل مثلث ويوضع على الرأس بحيث يتدلى طرفاه على الجانبين وطرفه الثالث على الظهر، يُثبت هذا القماش على الرأس بواسطة حبل من شعر الماعز، غالباً ما يكون أسود اللون وصلباً بشكل ملحوظ، يلف مرتين حول الرأس".
وأضاف أوبنهايم: "تحت الكوفية، غالباً ما يرتدي البدو لباد أو قبعة قطنية. تتميز الكوفية بألوانها المتنوعة: الأزرق، الأحمر، الأسود أو الأبيض".
هذا وأشار إلى أن اللون السائد للكوفية المصنوعة من الحرير هو الأصفر، في حين تعتبر الكوفية الداكنة والمنسوجة بالذهب أو الفضة، الأكثر أناقة.
رمز النضال الفلسطيني
من المعروف اليوم أن الكوفية هي رمز للمقاومة والتضامن في الدول العربية وفي فلسطين على وجه الخصوص، لكن يُقال إن تاريخ الكوفية يعود إلى السومريين في بلاد ما بين النهرين (حضارة السومريين والبابليين في غرب آسيا 3100 قبل الميلاد).
ففي ذلك الوقت، كان الكهنة يرتدون الشماغ، كرمز للمكانة الرفيعة، أو كرمز للشرف، لكونهم كانوا الحكام الذين يديرون الأراضي التي يعيشون فيها.
ومع تقدم السنوات، اعتمد الفلاحون الكوفية كغطاء للرأس أثناء عملهم في الأرض لحمايتهم من أشعة الشمس والرمل والغبار، وكذلك لمسح وجوههم من العرق، وفي الشتاء كانت الكوفية تقيهم من المطر والبرد.
في الثلاثينيات من القرن الماضي، أصبحت الكوفية رمزاً للمقاومة، عندما ثار الفلاحون ضد الاحتلال البريطاني.
وعليه، سادت الكوفية بشكل كبير خلال الثورة العربية الكبرى (1936-1939) في فترة الانتداب، حيث كانت الكوفية تساعد في إخفاء هوية المقاتلين في البداية وتسمح لهم بتجنّب الاعتقال.
وعندما حظرت سلطات الانتداب البريطاني الكوفية، بدأ جميع الفلسطينيين في ارتدائها لجعل التعرّف على المقاومين أكثر صعوبة.
وفي مطلع الستينيات والسبعينيات، أصبحت الكوفية رمزاً للنضال الفلسطيني، وذلك بفضل شخصيتين بارزتين: ليلى خالد والزعيم الراحل ياسر عرفات.
تمّ تبني الكوفية من قبل العديد من المناضلين الأناركيين، كرمز للنضال والتمرّد ضد قوى "الرأسمالية"
ففي العام 1969، قامت الناشطة الفلسطينية والعضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليلى خالد، باختطاف طائرة TWA وتحويل مسارها إلى دمشق بغية إطلاق سراح المعتقلين في فلسطين.
وانتشرت صور الناشطة خالد وهي ترتدي الكوفية وفي يدها الكلاشينكوف، مع العلم بأن هذه الصورة نفسها تم استخدامها في العام 2012 في لوحة جدارية على الجدار الفاصل بين إسرائيل والضفة الغربية، بالقرب من بوابة بيت لحم، مع شعار Don’t forget the struggle (لا تنسوا الكفاح).
بدوره، أطلّ رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات وهو يضع النظارات السوداء والكوفية ذات المربعات البيضاء والسوداء، أثناء خطابه في العام 1974 في الأمم المتحدة، وذلك بعد اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي معرض الحديث عن كوفية الراحل عرفات، أشار الكاتب فينسان كابديبوي، إلى أنه يتذكر مقابلة قديمة كشف خلالها عرفات إنه يقوم بطيّ كوفيته بحيث يذكّر شكلها بقبة المسجد الأقصى في القدس، ويترك طرفها يسقط بطريقة ترسم خريطة لفلسطين قبل الاحتلال.
هذا ونوّه الكاتب بأن الزعيم الفلسطيني توفي في العام 2004 من دون أن يتخلّى عن كوفيته.
الكوفية عربية وتبقى عربية
في العام 2008، نشرت مجلة Elle مقالاً عن الكوفية الحديثة، ووصفتها بأنها "برّاقة ومزيّنة بشراشيب وتوضع على العنق"، مشيرة إلى أنها كانت غطاء الرأس التقليدي للفلاحين والبدو في شبه الجزيرة العربية.
وأوضحت الصحيفة أن الكوفية اكتسبت أهمية سياسية منذ العام 1936، أثناء الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني.
وفي وقت لاحق، وتحديداً في الثمانينيات، تبناها المتظاهرون الشباب، قبل أن تدخل مجال الموضة والأزياء والعلامات التجارية الكبيرة للملابس الجاهزة.
واللافت أنه في العام 2017، وُجدت الكوفية بين مئات الملابس والأكسسوارات في معرض متحف نيويورك للفن الحديث، والذي تم تنظيمه تحت عنوان:Items: Is Fashion Modern?.
بالرغم من أن الكثيرين استعاروا الكوفية، غير أن الاستعارات الأكثر إثارة للجدل كانت من قبل المصمّمين الإسرائيليين.
ففي العام 2015، وبمناسبة أسبوع الموضة في تل أبيب، قام المصمم مينكوفسكي بصنع فساتين من الكوفية المصنوعة في الخليل، زاعماً أن الهدف من ذلك هو خلق رمز للتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
غير أن هذه الخطوة أثارت غضباً شعبياً عارماً، بحيث اعتبرها البعض "وقاحة" جديدة من فصول الإعتداءات الإسرائيلية التي لا تنتهي، بخاصة وأن المصمم الإسرائيلي وضع نجمة داوود على الكوفية.
وإثر ذلك، قامت مغنية الراب الفلسطينية البريطانية شادية منصور، بتأليف أغنية للتشديد على أن الكوفية هي جزء من الهوية العربية، جاء فيها: نرفع الكوفية، الكوفية العربية، الكوفية عربية وبتضلها عربية".
وفي السياق نفسه، قامت مصصمة الأزياء الإسرائيلية دودو بار أور، بعرض فساتين مستوحاة بمعظمها من الكوفية الفلسطينية والأردنية، الأمر الذي أثار ردود أفعال ساخطة في أوساط الفلسطينيين، على اعتبار أنها إهانة لرمز التراث الفلسطيني، بخاصة وأن بعض الصور التي انتشرت على موقع المصممة على الإنترنت، أظهرت عارضات أزياء يرتدين التصاميم الجديدة من الكوفية الفلسطينية في أوضاع جنسية مثيرة.
هذا الوشاح الصغير الملوّن عبارة عن قصّة صغيرة وإعلان مشهدي للتضامن البشري ضد الاضطهاد، دخلت عميقاً في التاريخ بالتجاور مع قبّة ماو تسي تونغ وبيريه تشي غيفارا
رمز النضال الأناركي
في الثمانينيات، تمّ تبني الكوفية من قبل العديد من المناضلين الأناركيين، كرمز للنضال والتمرّد ضد قوى "الرأسمالية"، وأصبحت "إكسسواراً" ملحقاً بالكثير من الحركات الاحتجاجية، وغالباً ما تلاحظ في المسيرات المناهضة للعولمة والمؤيدة للسلام، وأيضاً ضمن المسيرات المدافعة عن حقوق النساء والأقليات الجنسية والعرقية، وتبناها العديد من الشخصيات السياسية المرموقة من غير العرب، كهوغو تشافيز ونيلسون مانديلا، كما أنها دخلت في اعتبارات الموضة البحتة بدون أي أثر رمزي أو سياسي لارتدائها وانتشرت بسرعة بين الأجيال الشابة، خصوصاً مع ظهور العديد من المشاهير بها، كديفيد بيكهام.
هذا الوشاح الصغير الملوّن عبارة عن قصّة صغيرة وإعلان مشهدي للتضامن البشري ضد الاضطهاد، دخلت عميقاً في التاريخ بالتجاور مع قبّة ماو تسي تونغ وبيريه تشي غيفارا.
بالرغم من ان الكوفية تحمل معنى رمزياً عميقاً، إلا أن معظم الكوفيات التي تُباع اليوم حول العالم وحتى في فلسطين، باتت تصنع في الصين أو الهند، مع العلم بأن هناك مصنع كوفية واحد فقط في فلسطين، وتحديداً في قلب مدينة الخليل، تديره عائلة الحرباوي، لا يزال يواصل إنتاج "الكوفية الفلسطينية الحقيقية" منذ العام 1961.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي