من يعيش في الأردن اليوم، ويراقب ويتصفّح حسابات مشاهير أردنيين/ ات على مواقع التواصل، وعلى الأخصّ محتوى الحالات، "الستوري"، لتلك الحسابات، سيكتشف أن البلد مقسّم بشكلٍ واضحٍ وحادّ، إلى عالمين: عالم واقعي، وآخر موازٍ.
عن طريق هذه الحسابات، التي يملكها مشاهير/ فاشينيستا/ مؤثرون ومؤثرات، على موقعَي إنستغرام وسنابشات، يمكن رصد طبيعة حياة "لايف ستايل"، ربما تتفوق على الحكومات الأردنية كلها في تعزيز التفرقة الطبقية، خاصةً في الأعوام الأخيرة التي بات الأردن فيها يعاني من عجزٍ دائمٍ في ميزانية الدولة، ويعتمد على المنح التي تقدَّم له، وتشير دراسات وتقارير عدّة إلى تآكل الطبقة الوسطى فيه تدريجياً.
فما يظهر من تلك الحسابات من بذخٍ في اللباس، والإكسسوارات، ورحلات السفر المستمرّة، وحتى أطباق مأكولات المطاعم ذات تصنيف الخمس نجوم، لا يشبه تفاصيل الحياة التي يعيشها أردنيون وأردنيات من الجيل نفسه، يعيش كثيرون/ ات منهم/ ن، في مناطق بعيدة عن اهتمام سياسات التنمية والتطوير، وباتت بسبب السوشال ميديا أكثر تهميشاً وتمييزاً وتفرقة.
لا أحسدهنّ، بل أنا غاضبة من الفجوة الطبقية في بلدي التي تذكّرني كلّ يوم بأنني من أسرة فقيرة، تسدّ احتياجاتها الأساسية بطلوع الروح.
بدأ ظهور مؤثري/ ات مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن، قبل نحو خمسة أعوام، وبات حضورهم/ ن أوسع وأكثر بروزاً في السنوات التالية، وهم يقدمون/ ن أنواع محتوى مختلفة، فمنهم/ ن من يتّجه إلى الموضة، وآخرون/ أخريات لمحتويات سياسية واجتماعية، أو إلى الكوميديا، بالإضافة إلى من يختارون خطّ المحتوى الخيري، أي المتعلّق بجمع التبرّعات.
وبشكلٍ عام، تتجاوز أرقام متابعة صفحات هؤلاء المؤثرين/ ات، الملايين، وهو رقم كبير بالنسبة إلى الأردن ذي العشرة ملايين نسمة.
"غاضبون من الفجوة الطبقية"
مرام* (21 عاماً)، هي طالبة نظم معلوماتية على عتبة التخرّج من جامعتها في محافظة المفرق، سألناها رأيها حول ما تنشره فتيات أردنيات من جيلها على مواقع التواصل، وهل تعتقد أن ذلك واقعيّ، أم بعيد عن الواقع. "طبعاً أصدّقه، فالعين تستطيع أن تميّز ما إذا كانت الإسوارة التي ترتديها فاشينيستا ما، من الذهب الحقيقي، أو المطلي، فلمعة الذهب الحقيقي واضحة وضوح الشمس، ولماذا لا أصدّق؟ أليس الأردن بلد فيه طبقتان فقط؟ طبقة الأغنياء والمشاهير، وطبقة ‘المسخمين’ مثل التي أنا وأسرتي منها؟".
تصف مرام شعورها عند رؤية تلك الصور، بأنه إحساس بالقهر، يطرح لديها العديد من الأسئلة حول الواقع الذي تعيشه. وتضيف: "صدّقيني لا أحسدهنّ، بل أنا غاضبة من الفجوة الطبقية في بلدي التي تذكّرني كلّ يوم بأنني من أسرة فقيرة، تسدّ احتياجاتها الأساسية بطلوع الروح".
أعيش في قريةٍ بسيطةٍ، وأنحدر من عائلةٍ لا تملك المال. المكان الوحيد الذي أقضي فيه وقتاً طويلاً من يومي، بعد عودتي من الجامعة، هو إنستغرام. أتابع صفحات المشاهير من بنات بلدي، ومنهنّ أتعرّف على أماكن في الأردن وخارجه، وأتمنّى أن أحظى بنعمة زيارتها
لماذا تتابعين حساباتهنّ؟ سألنا مرام في نهاية حديثنا معها، وأجابت: "حتى أتعرّف على بلدان يزورونها، وأعلم أنه شبه مستحيل أن أزورها، وأتابع صيحات الموضة حتى لو لم أستطع شراءها، وأحياناً للمشاركة في المسابقات التي يعرضونها، لعلّي أربح جائزةً، ولو كانت بسيطةً للغاية".
"ما بخلّوني أعرف أنام!"، كانت إجابة رشا* (19 عاماً)، السريعة حول رأيها بالمؤثِّرات الفتيات من جيلها. "كلما أشاهد صور الحفلات والملابس الخارقة والمطاعم التي يقصدنها، أشعر بحالة من الغضب، وأسأل نفسي: لماذا أنا محرومة من هذا؟ أغضب ويلازمني الأرق، وأُحرم من النوم".
ما الفائدة من متابعتهنّ، وذلك يؤثّر على نفسيتك؟ تقول رشا: "أنا أعيش في قريةٍ بسيطةٍ جداً، وأنحدر من عائلةٍ لا تملك المال، حتى النوادي الرياضية لا أتمكّن من ارتيادها، فالمكان الوحيد الذي أقضي فيه وقتاً طويلاً من يومي، بعد عودتي من الجامعة، هو إنستغرام. أتابع صفحات المشاهير من بنات بلدي، ومنهنّ أتعرّف على أماكن في الأردن وخارجه، وأتمنّى أن أحظى بنعمة زيارتها".
وتذكر رشا موقفاً أثّر فيها كثيراً: "ذات مرة حفظت صورة لواحدة من هؤلاء الفتيات، وهي ترتدي فستاناً جميلاً جداً وجدت أنه يناسب عرس شقيقتي. أخذت الصورة معي، وسألت الخياطة عمّا إذا كانت تستطيع أن تخيّط مثله لي، فأجابتني: هذا الثوب مو ثوبك يا بنتي، وحينها محوت الفكرة من رأسي تماماً".
التأثير كان مختلفاً بالنسبة إلى نسرين* (23 عاماً). "من وراهم كان رح ينخرب بيتي"، تقول لرصيف22.
"كنت أتابع مجموعة من المشاهير من فتيات من جيلي إلى حدّ الإدمان، ووجدت أنني، من دون أن أعي، بتّ أكره نفسي وعائلتي، حتى علاقتي بخطيبي الذي أحبّه منذ أن كنت في مقاعد الدراسة تأثّرت بالأمر، لأنني كنت باستمرار أضع نفسي في دائرة المقارنة بيني وبينهن، وأردد: إش معنا هم يعيشوا هيك وأنا أعيش هيك؟".
"كل من حولي نفر منّي، وصعب عليه التعامل معي"، تضيف الشابة، "حتى أنني ذات مرة كدت أقع في فخ البحث عن شخصٍ يمكن أن يجعلني أعيش في ذلك العالم الموازي. كنت سأبيع حبّي لخطيبي من أجل فستان، أو رحلة إلى بلد ما، مع شخصٍ لا أعرفه".
وتختم: "ما نراه على حسابات مشاهير، يسبّب مصائب مجتمعية، اسألي مجرّب"، فلولا أنها أعادت شحن نفسها بالثقة والرضا كما تقول، لكانت قد خسرت الكثير.
كنت أتابع مجموعة من المشاهير من فتيات من جيلي إلى حدّ الإدمان، ووجدت أنني، من دون أن أعي، بتّ أكره نفسي وعائلتي، حتى علاقتي بخطيبي الذي أحبّه منذ أن كنت في مقاعد الدراسة تأثّرت بالأمر، لأنني كنت باستمرار أضع نفسي في دائرة المقارنة بيني وبينهن
"علينا أن ننشر ما يشبهنا"
روان شرايحة، واحدة من المؤثّرات الأردنيات على إنستغرام، ومختصّة في نشر محتويات متعلّقة بالموضة ونصائح التجميل للفتيات، يتابعها أكثر من 44 ألف شخصٍ، ومن يرصد ما تنشره يلحظ أنها تخاطب الطبقة الاجتماعية التي وصفتها خلال حديثها إلى رصيف22، بأنها "تشبهنا"، إذ تنصح بشراء قلم حمرة بدينارين مثلاً (3 دولارات)، أو كريم أساس محلّي سعره 15 دولاراً يحاكي منتجاً عالمياً باهظ الثمن، وتقدّم نصائح لـ"ماسكات" البشرة من منتجات منزلية، كاللبن والقهوة والعسل والخيار.
"تفاصيل الحياة المثالية التي ترينها لبعض المشاهير، أغلبها بعيد البعد كله عن الواقع، وكثير منها جاءت عبر قروض بنكية، أو تشبيك علاقات من أجل التقاط صورةٍ مع حقيبة يبلغ ثمنها ثلاثة آلاف دولار. لكن المؤلم أن هناك فتيات يصدّقن أن هناك حياةً مثاليةً تعيش فيها أخريات من جيلهن نفسه، ما يجعلهنّ يشعرن بأنهن ‘مش عايشين’".
ونتيجة ذلك كله؟ شعور بالفشل والعجز والنقص. "ما الفائدة من نشر تلك الصور كلها؟ ما هي الرسالة المؤثّرة الكامنة وراءها، سوى مزيدٍ من الانقسام الطبقي في الأردن؟"، تتساءل روان داعيةً في ختام حديثها إلىت أن ينشر المؤثّرون/ ات مواضيع وصوراً حقيقية "تشبهنا وتشبه مجتمعنا، ويكفي أن ننشر أشياء غير موجودة في الواقع!".
ما الفائدة من نشر تلك الصور كلها؟ ما هي الرسالة المؤثّرة الكامنة وراءها، سوى مزيدٍ من الانقسام الطبقي في الأردن؟
تعزيز الطبقية الاجتماعية
سألنا الدكتور حسين الخزاعي، وهو أخصّائي وأستاذ علم اجتماع، عن تأثير مواقع التواصل، خاصّةً على جيل الشباب في الأردن، فقال: "ما ينشره المشاهير يذكّرهم بالحرمان والبؤس وبالتمنّي، ويعزّز مفهوم الطبقية المجتمعية، ويكرّر تساؤلاتٍ كثيرةً مثل: لماذا أنا لا؟ هل لأن والدي فقير مثلاً؟ بماذا هم/ ن أحسن منّي؟".
وتكمن خطورة تلك التساؤلات، حسب الخزاعي، عندما تشعر فتاة بعيدة عن عالم المشاهير، بأنها محرومة من تلك الحياة، بقرارٍ خارجٍ عن إرادتها، الأمر الذي يكرّس الشعور بالنفور، ويخلق حالةً سوداويةً اجتماعيةً، ويبني شعور: "أنا في البلد ذاته، لكنني لست من هذا العالم نفسه".
وبيّن في حديثه، أن السوشال ميديا تذكّر الناس بمفاهيم ومبادئ غائبة عن مجتمعاتهم، أهمها العدالة والمساواة، وتخلق شعوراً بالنقص لدى الطبقة الفقيرة البعيدة عن ترف الحياة الذي يظهر على مواقع التواصل، وحسب قوله: "ما يحدث في عوالم الجدران الافتراضية، امتداد للسياسات الحكومية التي قسّمت المجتمع إلى قسمين، وانعكس ذلك بدوره على العالم الافتراضي".
فيما نبّهت أخصائية علم النفس، الدكتورة عصمت حوسو، إلى مخاطر تسبّبها حالة الانقسام في مواقع التواصل الاجتماعي، فمن وحي حالاتٍ لجأت إليها، تبين أن هناك فئة "تضطر إلى سلوك طرق خطأ من أجل الحصول على المال، مثل أن ‘تصاحب’ أكثر من رجلٍ في آنٍ واحدٍ ممن هم من الطبقة الغنية، أو اتّباع سلوك الإيذاء، كتهديد مشاهير بنشر فضائحهم، مقابل الحصول على مال، تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة".
وتضيف حوسو: "مظاهر الانقسام الطبقي التي تعزّزها محتويات السوشال ميديا، تنشئ فئةً تعاني من عقدة الدونية، خصوصاً من الفتيات، من جرّاء ما يشاهدنه من نمطٍ حياتي بعيد بعد السماء عن الأرض، عن النمط الذي يعشن فيه، فيشعرن كلّ يومٍ، وأمام كلّ صورة وفيديو، أنهن يعشن أسلوب حياةٍ قسري يستحيل أن يتغيّر ليصبح مشابهاً لذلك الأسلوب الباذخ".
مظاهر الانقسام الطبقي التي تعزّزها محتويات السوشال ميديا، تنشئ فئةً تعاني من عقدة الدونية، خصوصاً من الفتيات، من جرّاء ما يشاهدنه من نمطٍ حياتي بعيد عن النمط الذي يعشن فيه، فيشعرن أنهن يعشن أسلوب حياةٍ قسري يستحيل أن يتغيّر ليصبح مشابهاً لذلك الأسلوب الباذخ
وتلفت حوسو أيضاً إلى خطر الاستغلال الذي تقع فريسته أولئك الفتيات اللواتي يسعين إلى التقرّب من عالم المشاهير، فهن أشبه بمادةٍ خام يسهل استغلالها، سواء من أشخاص، أو من مؤسسات تساعد الفتيات على الهروب إلى بلدٍ آخر، مقابل تقديم دعمٍ مادّي لهنّ.
"ما يحدث من فجوةٍ طبقية على السوشال ميديا، يسبّب خراباً مجتمعياً"، تختم حديثها مستعرضةً أبرز الأمراض النفسية التي تنتج عن ذلك: القلق، والاكتئاب، وأمراض الشهية، والأخطر: النزعة الإجرامية.
وفي دراسةٍ نفسيةٍ تناولت موضوع الحسد في مواقع التواصل الاجتماعي، تقول الأخصّائية النفسية، راشيل أندرو، إنها "ترى الحسد أكثر فأكثر في غرفتها الاستشارية، من الأشخاص الذين لا يمكنهم تحقيق نمط الحياة الذي يريدونه، بالمقارنة مع نمط حياة الآخرين"، وتضيف أن استخدامنا لمنصّات فيسبوك وتويتر وإنستغرام وسنابشات، يضاعف هذه الحالة المقلقة من التنافر، وعدم الانسجام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...