"نجري ورا الخبزة"، جملة معتادة بين الجزائريين، تصف حالهم مع الركض الدائم في العمل، وتعني بالفصحى: نركض خلف الخبز.
هذه الجملة باتت تصف حالة غالبية الشعب الجزائري في الآونة الأخيرة، فليس الخبز وحده، الذي يُهدد الخبازون برفع سعره، بل الخضار التي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق.
تزامن ذلك مع ما خلفه وباء كورونا من أزمات اقتصادية مرتبطة بالدخل الفردي، وفرص العمل.
باعة لا يملكون سعر البضاعة
على متن سيارة الأجرة، بينما يفتح السائق الإذاعة المحلية، تنقل خبراً مفاده السجن لمدة 30 عاماً للمضاربين بالأسعار في سوق الخضار.
يخفض السائق، الذي يبدو في عقده السادس، صوت الراديو، ويقول إنه على الدولة تطبيق القرار، وكل تاجر يتلاعب بجوع الجزائريين عليه أن يدفع الثمن، مواصلاً: "لقد وصلت البطاطا إلى 0.87 دولار، الفلفل أيضاً والبصل كأرخص خضار في السوق وصل لنصف دولار".
نزلت من السيارة لأبدأ جولتي الأسبوعية الروتينية لشراء حاجيات البيت الغذائية، من خضر وفاكهة وحبوب، في سوق وسط مدينة قسنطينة، السوق الذي يعتبر مزاراً لأهل المدينة، التي تقع شمال شرقي الجزائر، ليس فقط بسبب توفر الخضار الدائم، ولكن لكونه مشهوراً أيضاً بانخفاض الأسعار.
على غير العادة، لم يكن السوق مكتظاً لا بالباعة ولا الزبائن، يقف الباعة ملتفين حول الطاولة، حيث يخبرني أحدهم: "سبب الغلاء هو الدولة والمراقبة، سوق الجملة للخضار يشهد ارتفاعاً مذهلاً، نحن كباعة مباشرين للزبون لم نعد نملك مبلغ السلع التي نعرضها للبيع كل صباح، على عكس ما كنا عليه قبل الأزمة".
ماذا تفعلون عندما يغلو سعر كل شيء، الخضار والبقوليات والزيت حتى البطاطا، ما الذي يمكنكم الاستغناء عنه في طبقكم اليومي، لكم ولأطفالكم؟
وعلى عادة الجزائريين، ينظرون إلى الدولة على أنها مصدر المشكل والحل، يضيف: "على الدولة تعزيز المراقبة لنعود كما سبق، انظري من حولك: أين الزبائن؟ المواطن البسيط لم يعد يستطيع ملء قفته كما تعود".
كان أحد الزبائن حولي، فإذا به يبتسم ساخراً: "البصلة وهي أرخص حاجة، وصلت لهذا السعر".
كسكسي دون خضار
"لقد توقف الكثيرون عن اقتناء بعض الخضار لما عرفته من غلاء"، يقول أحمد، ستيني متقاعد.
قرر أحمد مقاطعة البطاطا أيضاً، يقول: "بطاطا بهذا الثمن لا تدخل بيتي، تضاعف ثمنها، وحتى جودتها ليست جيدة، أفضل اقتناء خضر أخرى إلى جانب طبقٍ من العجائن أو الشوربة".
أما آمال فتتخذ موقفا معاكساً، إذ تشتكي من ارتفاع الخضار، ولكنها مضطرة لاقتنائها لأن أغلب الأطباق التي تحبها العائلة، وخاصة الأطفال، تعتمد عليها: "البطاطا مادة أساسية في الطبخ اليومي في بيتي، الأطفال يتناولونها دون عناء ومناهدة، على عكس شوربة الخضار مثلاً أو الأطباق التقليدية، خاصة في الجو البارد، إذ يتطلب أطباقاً ساخنة، فحتى الحبوب كالعدس والفاصولياء ارتفع سعرها".
"صحتي وصحة أطفالي أولوية".
تتفق معها سناء، في سبيل الحفاظ على التوازن الغذائي لها ولأطفالها، تشتري ما يعزز صحة العائلة، حتى لو غلا ثمنه، تقول: "رغم الغلاء، لكن صحتي وصحة أطفالي أولوية".
أما فلة، ربة بيت ستينية، تبدي انزعاجها، بالإضافة إلى سعر الخضر أيضاً، من نقص مادة الزيت –زيت المائدة- مرة أخرى من السوق، كما حدث في رمضان السابق، تقول: "نعود مرة أخرى إلى سنوات انقطاع المواد الغذائية، ورحلة الساعات للحصول على قارورة زيت 2 لتر حتى وليست الخمسة لتر".
عائلات جزائرية تعتمدُ الكسكسي كطبقٍ ليوم الجمعة، حيث تجتمع العائلة يوم العطلة، ولكن المائدة العائلية اختلفت هذه الأيام، تقول فلة، وهي تتذكر جمعتها الأخيرة: "لم يعد الصحن ملوناً ومنوعاً كما تعودنا عليه، يحتاج الطبق إلى كل الخضار من الكوسا، والجزر،و البطاطا، واللفت، والفلفل، كم سيكلفني هذا الطبق لعائلتي المكونة من أربع أفراد، وفي حضور أحفادي يتضاعف العدد؟".
"ناهيك عن الدجاج الذي ارتفع ثمنه أيضاً"، تستدرك فلة، متذكرة ما غلا ثمنه.
أما هالة فتقول: "كنا نعتمد كثيراً على البطاطا في تحضير الوجبات السريعة في البيت، لا تتطلب الوقوف طويلاً داخل المطبخ، عكس الأطباق التقليدية، ويمكن تحضيرها بطرقٍ عدة أيضاً، في الفرن مهروسة بجانب الصوص، مقلية أو حتى "بوراك" سمبوسة، الآن لم يعد هذا الخيار متاحاً طوال الوقت، فالمبلغ الذي كان يوفر أربعة كيلوغرامات أسبوعياً، لا يكفي كيلوغرامين".
"لقد اضطررت لاقتناء كيلوغرام واحدٍ لطبخ وجبة صغيرةٍ، بطاطا مع المرق، هكذا يمر تقريباً شهران على عدم استخدامها في وجباتنا".
أما مونية فتفتقد إلى أكلتها المفضلة "الغراتان"، وهي مكونة من بطاطا مع الدجاج في الفرن، وهو ما تفتقده هنيدة أيضاً إلى جانب الدجاج المحمر، تقول: "لم نعد نقتني دجاجة كاملة كما السابق، بل أجزاء منها فقط".
كمية أقل وسعر أكبر
خارج الأكلات المنزلية، بات الناس يشتكون من ارتفاع أسعار الساندوتشات التي يتناولونها بشكل يومي.
تتناول سارة، وهي طبيبة تقيم في المشفى وليس في المنزل معظم أيام السنة، وجبات سريعة خلال المناوبة، تشتكي من ارتفاع سعر الساندوتش الواحد كالشوارما أو الطاكوس، المعتمد أساساً على البطاطا المقلية والدجاج.
ارتفع سعر الطاكوس من 1.45 إلى 1.82 دولاراً، بالإضافة إلى تناقص حجم الوجبة.
حتى تلك الوجبات الكاملة داخل المطاعم، المعتمدة على الدجاج والبطاطا كالبوريه (البطاطا المهروسة) أو وجبة العدس والحمص الساخن.
وتشكو هنيدة، تقيم في مقر تابع للجامعة، هي الأخرى من ارتفاع سعر السندويتش الواحد (دجاج وبطاطا) زاد بقيمة 0.2 دولار تقريباً.
أما رامي (28 عاماً)، وهو يضطر إلى الأكل خارج البيت معظم الوقت، فيعبر عن استيائه من ارتفاع "أرخص سندويتش، بطاطا مع البيض المقلي المعروف بفريت أومليت"، حيث انتقل سعره من 0.87 إلى 1.31 دولار.
يرى رامي أن أزمة ارتفاع أسعار الخضر، وحتى البطاطا ستتراجع بالتأكيد، لكن أصحاب المحلات لن يخفضوا حينها أسعار السندويتشات مجدداً.
"الدولار الذي كان يؤمّن صحن فاصولياء في البرد، لم يعد يؤمّن إلا نصف صحن"
"ليس هذا فقط، حتى الوجبات الشعبية الساخنة، المعتمدة أساساً على الحبوب، قفزت إلى أسعار خيالية، فالدولار الذي كان يؤمن صحن فاصولياء في البرد، لم يعد يؤمن إلا نصف صحنٍ، وهذا ما أعتبرهُ سرقة واضحة"، يقول رامي.
للحكومة الجزائرية رأي آخر فيما يتعلق بالغلاء، فلا علاقة له بجشع التجار، أو يحتاج لتدخل الحكومة، ولكنه انعكاس لتغير المناخ.
فقد صرح رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين، الحاج الطاهر بولنوار، بحسب ما نشرته صحف محلية، أن الزيادات التي شهدتها أسعار الخضر والفواكه كانت متوقعة، بعد انخفاض مستويات السدود والآبار في بعض الولايات، مما أدى إلى انعدام المياه والجفاف، معرضاً مئات المحاصيل الزراعية للتلف، ومكبداً خسائر كبيرة للفلاحين.
بالإضافة لقلة وسائل التخزين والتبريد التي يعانيها الفلاحون، بحسب بولنوار، وأرجع سبب الغلاء أيضاً إلى تلف وذبول المحاصيل القريبة من أماكن الحرائق، بالإضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة التي قلّصت ساعات عمل الفلاحين، مخلفة قلة إنتاج.
زيادة الانفعالات العصبية، والشعور بالجوع، واضطرابات الجهاز الهضمي ووظائفه، وشيوع أمراض مثل الإمساك، والإمساك المزمن… والسبب الأسعار
ويشير بلنوار إلى قرب انتهاء الأزمة مع نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، وحلول الخريف، وتضاعف ساعات عمل الفلاح، وتساقط الأمطار.
يطرح بولنوار حلولاً متعلقة بتحديد هوامش الربح للمتعاملين بدءاً من الفلاح، تجار التجزئة والجملة، مع وجوب تشجيعهم على مضاعفة الإنتاج، والقضاء على المضاربة بالأسعار والسوق الموازية.
وفي فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد الفلاحين المنتجين للبطاطا، أكد أن ارتفاع سعرها بسبب توقف الكثير من زملائه الفلاحين عن زراعتها وبيعها، وأرجع ذلك إلى غياب وسائل التخزين والتبريد، مع وفرة الإنتاج في وقتٍ سابقٍ، مما أدى إلى تلفها، متكبدين وحدهم الخسارة.
المعدة والقاولون والعصبية
شدّد الدكتور زكي بن ثلجون، اختصاصي أمراض الجهاز الهضمي، على أن تغير النظام الغذائي للجزائريين، خاصةً الشمال الجزائري، الذي كان يتبع نظاماً غذائياً متوسطياً، شبيهاً بالنظام الغذائي لجنوب إيطاليا وفرنسا، ومعتمداً أساساً على استهلاك الخضر والفواكه الغنية بالألياف والفيتامينات، أدى إلى اضطراب واضحٍ في الجهاز الهضمي ووظائفه.
يشير زكي إلى أن "الإمساك والإمساك المزمن، الناتجين عن عسر الهضم، هو أول حالة نستقبلها يومياً على مستوى الفحص في العيادات والمستشفيات"، ويرجع ذلك إلى غياب الألياف، مما يؤدي إلى اختلال وظائف الجهاز الهضمي، بالإضافة إلى ما ينتج عن غياب مضادات الأكسدة المتواجدة خاصة في الحمضيات والرمان مثلاً، وتعمل على محاربة الشيخوخة، والحماية من السرطان، وهو عكس ما نشهده اليوم من انتشار سرطانات.
يلعب النظام الغذائي دوراً نفسياً واجتماعياً أيضاً.
يلعب النظام الغذائي دوراً نفسياً واجتماعياً أيضاً، بحسب زكي، فهو يرى أن غياب الفيتامينات، التي تدخل في وظائف دقيقة، يظهر في بعض الأعراض، كالانفعالات العصبية مثلاً التي انتشرت مؤخراً بين الجزائريين.
وتدفع مشاعر مثل الإحساس بالجوع المتواصل إلى تناول الفرد كميات كبيرة من أطباق غنية بالنشويات والدهون، ما أدت إلى خطر السمنة، وما نتج عنه من أمراض السكري والضغط، وأيضاً مرض الكبد الدهني الذي صار شائعاً، والذي قد يتحول إلى تليف كبدي، وهو مرض خطير وقاتل.
يضيف المتحدث أيضاً أن تغير العادات الغذائية للجزائري لم تقتصر على انخفاض استهلاكه للخضر والفواكه، حتى في ظهور عادات جديدة غير صحية، لا علاقة لها كثيراً بالأسعار، ولكن بإحساس الجوع والشبع، فعوض ما كان شائعاً باستهلاكه للمكسرات، خاصة الفول السوداني في الخارج، أوقات الجلسات مع الأصدقاء، فأصبح من الشائع استهلاك الشواء على الفحم (لحوم حمراء وبيضاء) حيث صار منتشراً ذلك في الأحياء الشعبية مؤخراً، وهو بحسب زكي "سلوك ضار صحياً جداً، ومسبب لسرطان القولون".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...