"عدس بترابه كل شيء بحسابه"، بهذه المقولة الشعبية عبّرت الخمسينية، نجاح عادل، عن تذمرها من الأوضاع المعيشية التي تعيشها في قطاع غزة، وهي تتجول بين رفوف إحدى البقالات في حيها، لشراء بضع كيلوغرامات من العدس.
بالكاد استطاع أن يتفوّه البائع، مشيراً باستحياء إلى ارتفاع ثمنه، على غير المعتاد، مثل سلع غذائية أخرى. اتسعت حدقتاها وهي تنظر إلى العدس، وقالت بنبرة صوت ساخرة: "مين كان يصدق هيك يصير بالدنيا، والله أجاك عزك يا عدس"، ثم أرجعته مكانه، وأشارت لصاحب البقالة: "العدس بيدلل علينا".
تعيش عائلة نجاح في ظروف اقتصادية ميسورة الحال، مقارنة بالسواد الأعظم، فزوجها توفى في الحروب المتكررة على القطاع، ولم يتبق سواها هي كمعيلة وحيدة لأبنائها الخمسة.
تعمل نجاح "آذنة"، مسؤولة تنظيف في مؤسسة أهلية، وتتقاضى راتباً يقدر بـ 600 شيكل، بما يعادل 193 دولاراً أمريكياً شهرياً.
وقد أثار ارتفاع أسعار سلع غذائية في قطاع غزة، مثل البقوليات والمعلبات والقهوة والسكر، استياءً كبيراً، لا سيما بين محدودي الدخل، مما يزيد من أعبائهم المثقلة بالأساس.
حكايات دينية وتاريخية
"لا يمر ارتفاع ثمن العدس تحديداً كسلعة غذائية فحسب، بل يشكل جزءاً من الطبق الرئيسي لنا كعائلة في غزة، خاصة عند تناوله في فصل الشتاء، وأجوائه الباردة، دون مبالغة قد نطهوه ثلاث مرات بالأسبوع، لرخص ثمنه سابقاً".
وللعدس أيضاً، بحسب نجاح، "طقوس شعبية، يوضع بحانبه مخللات، وتصنع منه شوربة العدس، وربما نشتهيه حال بقي ثمنه مرتفعاً، ونخشى أن تفقده موائدنا هذه الشتوية".
دوناً عن بقية الأغذية، تصف نجاح غلاءه بـ"الغريب"، وتستنكر المساس بسعره، تقول: "الغريب أن ارتفاع الأسعار ضرب المواد الغذائية البسيطة، التي لا يخلو منها أي مطبخ غزي، وليست الكماليات فقط، حتى لقمة الفقير لم تسلم ، ونحن نحمل الحكومة وزر ذلك، عليها مراقبة التجار، وخفض ثمن هذه المواد، فالأمر أحدث معضلة كبيرة حقيقة، يجب أن يشعروا بالمواطن".
للعدس في غزة قصص وحكايات وقدرات خرافية، ينسبون لمن يعتمده في غذائه صفات الزهد والترفع عن ملذات الحياة، وينسبون له قدرات أسطورية في رد الحسد، وتحصين المنزل من الشر
ويُكنى العدس في فلسطين بـ"لحم الفقراء"، ويتداول الغزيون ما يشبه الشعر في مديحه، مثل: " قالوا عني عدس غذاء الفقرا، وما خسروا عني لحم ولا شحماء"، "كيف يغلا لاهو لوز ولا جوز ولا حتى كستناء، وجعلوني للشتاء مغذياً احميهم من برد الشتاء... أنا العدس اذكروني بخير وعلى خير، يومياً في شتائكم تلقوني على الميداء".
ويعتبر العدس جزءاً أصيلاً من تراث المطبخ الفلسطيني، فهو مرافق موائد الفلسطينيين بلا منافس، لما يحتويه من قيمة غذائية عالية، تضاهي اللحوم، فيجدون في ارتفاع ثمنه، وعدم مقدرة بعضهم على شرائه، بمثابة الضرب في بصمتهم التراثية، التي اعتادوا عليها منذ القدم.
ويتداول الناس في غزة حكايات بروائح دينية عن العدس، فيحكون أنه طعام الأبرار، يرقق القلب، ويدمع العين، نظراً لتناوله مع الفلفل الحار، وهذا ما تشتهر به الوجبة الغزية حالياً، كذلك أنه يُذهب علامات كبر السن.
يجدون في تناوله ترفعاً عن الدنيا، وزهداً فيها.
ويتداولون قصصاً تاريخية، مثل عادة الخليفة عمر بن عبد العزيز، حسن الصيت في عدله وأخلاقه، إذ كان لا يأكل إلا العدس في أيام خلافته، ويظهر أنه يراه كاللحم أو هو أنفع، فيجدون في تناوله ترفعاً عن الدنيا، وزهداً فيها.
ويتلو الغزيون القرآن، ويجدون العدس فيه، ففي حكاية قرآنية تعود إلى اليهود زمن النبي موسى، اشتهوه، وفضّلوه على المنّ والسلوى، وذكروه مع لوازمه التي يستطاب طعمه معها، وهو فحل البصل.
قالوا لموسى: "ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها".
ولا تخلو الصحف والمنصات أيضاً من مقالات عن العدس، فيذكر الباحث الفلسطيني، حمزة العقرباوي في مقال له عن "لحم الفقراء"، أن أجدادنا الفلسطينيين كانوا من أوائل من عرفوا زراعة العدس قبل 10 آلاف عام، مدركين تماماً قيمته، ومثلهم الفراعنة والإغريق، وغيرهم من شُعوب وحضارات المشرق، قبل أن يتنبه العلم الحديث لفوائده الغذائية القيمة.
وينسب الغزيون للعدس قدرات روحانية خارقة، فيعتقدون أن له قدرةٌ على رد العين الحاسدة، وكف الأذى عن أصحاب البيت، ولذا يرشون الملح والشعير والعدس عند أعتاب البيوت، وكذا مع انتهاء شهر رمضان.
"الآن، بدون عذر، يمكننا إعداد عزائم على وجبات العدس، فقد ارتفع شأنه"
لذا، فلا عجب أن يحدث ارتفاع ثمن العدس المفاجئ ضجة، البعض قارنه بانخفاض قيمة الدولار الأمريكي عالمياً، فثمن العدس أيضاً مرتبط بالأسعار العالمية، وفق ما شرحت وزارة الاقتصاد في بيان لها.
وقد أرجع الناطق باسم الوزارة في غزة، في تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام المحلية، ذلك الغلاء إلى ارتفاع أسعار تلك البضائع عالمياً، إلى جانب ارتفاع أجرة نقلها بسبب تداعيات جائحة كورونا، مما أثر بدوره على بعض السلع الغذائية الأساسية، كالعدس والسكر والزيت والقمح، والقطاع ليس بمنأى عن العالم.
المواطن الغزي زهير عثمان (44 عاماً)، بدى ممتعضاً بقوله:" أي غلاء يمس لقمة العيش هو مساس مباشر بكرامة المواطن، وبالتالي ينعكس سلباً على معيشته المريرة أساساً".
عزائم على وجبات العدس
يضيف زهير، وهو عامل في مجال البناء، لرصيف22: "تحتاج أسرتي المكونة من 8 أفراد لشراء 2 كليو ونصف من العدس لتناوله على وجبة الغذاء، أي ما يعادل 17 شيكل ( قرابة الـ5 دولار) مما يشكل عبئاً مادياً، فلو أردنا تكرار الوجبة الغذائية أكثر من مرة خلال الأسبوع الواحد، سيكون هنالك فرق يوضح ما وصلنا إليه من غلاء".
ويكمل ممازحاً: "الآن، بدون عذر، يمكننا إعداد عزائم على وجبات العدس، فقد ارتفع شأنه، وليس هذا فحسب، من كان يصدق أن يرتقع ثمن العدس وينخفض الدولار؟ فالأمر غير طبيعي".
وبعد موجة السخط التي أشعلها ارتفاع ثمن العدس وسلع غذائية أساسية أخرى، أصدرت لجنة متابعة العمل الحكومي بحماس في قطاع غزة جملة قرارات، تأتي لدعم المواطنين في مواجهة الغلاء، وضمان توافر المخزون الاستراتيجي من السلع الأساسية الغذائية، والتي تشمل العدس، والقمح، والسكر، والأرز، وزيت السيرج، والسمنة، والفول، الشعير، وذلك عبر إعفائها من جميع الرسوم الجمركية، والضرائب، وأذونات الاستيراد.
ولكن هل يرجع ذلك العدس إلى سيرته الأولى التي عهده الفلسطينيون عليها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون