"كنتُ أحلمُ، أو أتوقُ لو صحّ التعبير، بأن أكون أُستاذاً جامعياً، أقفُ وسط الطلاب، وأُلقنّهم المهارات التي تقودهم إلى النجاح في العمل والحياة، لذلك سعيتُ جاهداً لحمل لقب دكتور، عن استحقاق وجدارة، على الرغم من أن طريقي كان طويلاً، ومليئاً بالأشواك والعوائق".
هكذا تحدّث "نذير"، دُكتور في مجال التسويق، الذي أصبح يُعدّ من أهم التخصصات في الوقت الراهن، بالنسبة إلى المؤسسات الجزائرية، بعد دُخول الاقتصاد الجزائري اقتصاد السُوق، لرصيف22، عن تقدّمه في مساره الدراسي الطويل، إذ استغرق قُرابة 20 سنة كاملة في الدراسة، لنيل الدكتوراه، التي تُعد أعلى درجة علمية في الوطن. لكنه اصطدم في نهاية المطاف، بواقع مرير ومؤلم، وهو الوضع الذي ينطبق على الآلاف من حاملي هذه الشهادة، في الجزائر.
22 ألف طبيب بلا عمل في الجزائر
"السُؤال الذي يتبادرُ إلى ذهني اليوم، وأنا رب عائلة هو: أين مكاني؟ تعبتُ وسهرتُ ليالٍ طويلة، لإدراك النجاح، والحصول على شهادة الدكتوراه في مجال التسويق، بامتياز. لكن اليوم، وبعد مُضي ست سنوات كاملة على حصولي عليها، وجدتُ نفسي مُلقى بين براثن البطالة، أصارعُ من أجل كسب لقمة العيش لأطفالي الصغار".
ورفض "نذير"، الذي كانت علامات الحسرة باديةً على محياه الأسمر، مشاركة عائلته، وبالأخص والدته التي بلغت من الكبر عتياً، واشتعل شعرها شيبا، الألم الذي يعتصرُ قلبه، ويمزّق فؤاده، حتى لا يشعُر بالإحراج، فلا أحد من عائلته يعلمُ أنه يشتغل في محل "الفاست فود"، أو "الأكل الخفيف،" في بلدة حاسي بحبح، التي تُعد من أهم بلدات محافظة "الجلفة"، التي تقعُ على بُعد 300 كلم، جنوب العاصمة الجزائرية.
"أصبحتُ دكتوراً بطّالاً، يا سادة يا كرام، بعد أن سخّرتُ نصف عمري للدراسة، وقضيتُ أياماً طويلة أطوف بشهادتي، بحثاً عن وظيفة تليقُ بمقامي، لكني وجدتُ نفسي في نهاية المطاف، أشتغل مدرّساً"
وعلى الرغم من حصوله على وظيفة تكافئ الشهادة العليا التي حصل عليها، غير أن الشاب نذير لم يستسلم، بل واصل مشواره بنجاح، وأصبح يلقي محاضرات في مجال التسويق، في مؤتمرات محلية ودولية، وحظي بالعديد من التكريمات، والجوائز.
وتُحصي الجزائر أكثر من 22 ألف دكتور بلا عمل، حسب ما كشفه منسق نقابة أساتذة التعليم العالي في الجزائر، عبد الحفيظ ميلاط، لرصيف22.
ويقول الدكتور عبد الحفيظ ميلاط، إن هذا الرقم ليس جديداً، وجاء نتيجة تراكمات عديدة، أهمها تطبيق نظام "آل أم دي"، والفتح غير المدروس لمسابقات الدكتوراه، الذي لا يتناسب مع ظروف الجامعة الجزائرية، وإمكاناتها.
ويعلّق محدّثي، آمالاً كبيرة على الحلول الأخيرة التي اتخذتها السلطات الجزائرية، لانتشال الدكاترة من براثن البطالة، أهمها توجيههم نحو العمل في الإدارات والمؤسسات الاقتصادية، بدلاً من انتظار فرص التوظيف في الجامعات، والمؤسسات الأكاديمية والتعليمية.
"تفاقم رقعة البطالة، واتّساعها، وسط حاملي شهادة الدكتوراه هي بسبب سياسة "الكم" التي اعتمدتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر، ونظام "أل أم دي"، الذي تم اعتمادهُ من طرف الجامعات الجزائرية. وهذا النظام مُعتمد في الكثير من الدول الغربية"
ووقّع وزير العمل والتشغيل في الجزائر، عبد الرحمن لحفاية، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، عبد الباقي بن زيان، ومدير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، بلقاسم بوشمال، على اتفاقية تتضمن تدابير خاصة بتوظيف حاملي شهادة الدكتوراه في المؤسسات الاقتصادية، والإدارات الحكومية.
وتتيح هذه الاتفاقية، توظيف حاملي الدكتوراه والشهادات المعادِلة لها، والمعترف بها، واستحداث مناصب مهنية لصالحهم، بصفة أستاذ باحث، أو باحث دائم في المؤسسات والإدارات العمومية، وتأسيس آليات وسُبل لإدماجهم في سوق العمل.
وتعكف وزارة التعليم العالي في الجزائر، حسب ما كشف ميلاط، على إعادة النظر في شروط المشاركة في هذه المسابقة، مع رد الاعتبار إليها. ففي السابق، كان بإمكان الحاصلين على معدل 1 من 20، الحصول على الشهادة.
لهذا تفاقمت أزمة بطالة الأطباء في الجزائر
يتقاسمُ "بن محمد"، شاب جزائري في العقد الثالث من عمره، ويقطنُ في البلدة السالفة الذكر، الوضع والمأساة ذاتهما مع الشاب نذير، فهو واحد من "البطّالين" الحاملين للشهادات العليا في مجال التسويق.
يقول بن محمد: "على الرغم من الشقاء، والوضع الصعب الذي واجهته في بلدتي الصغيرة، غير أنني رفعت من مستوى التحدي، وروح المنافسة عندي، وصممت على طلب العلا وبلوغه، وتخطيت الحواجز كلها التي اعترضت مساري الدراسي، فلم أكن آبهُ بملابسي الرثة، وسروالي المُرقّع، وحذائي الممزق الذي تتسلل منه مياه الأمطار إلى أصابع قدمي، فالمهم كان بالنسبة إليّ، أن أكون دكتوراً".
ويتابع: "أصبحتُ دكتوراً بطّالاً، يا سادة يا كرام، بعد أن سخّرتُ نصف عمري للدراسة، وقضيتُ أياماً طويلة أطوف بشهادتي، بحثاً عن وظيفة تليقُ بمقامي، لكني وجدتُ نفسي في نهاية المطاف، أشتغل مدرّساً في إحدى الجامعات الجزائرية، بمنصب عمل مُؤقت (يُعرف بنظام الساعات الإضافية)، منذ خمس سنوات تقريباً، من دون أن يتم ترسيمي، وأتلقى أجراً زهيداً، على الرغم من أنني أشتغل ساعات طويلة في مجال التدريس، على الدُروس التطبيقية"، ويُضيف الشاب الأسمر النحيف قائلاً إن الأجر الذي يحصلُ عليه شهرياً، لا يكفي حتى لسد حاجاته الأساسية، وإعالة أسرته.
ويُعاني أولئك، حسب ما يقوله أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة (الواقعة في الجنوب الجزائري والمُلقبة بعاصمة النفط)، مبروك كاهي، من بطالة متعلمة، ووضعهم لا يختلفُ إطلاقاً عن وضع البطّالين غير المُتعلمين.
ويُرجع كاهي، أسباب تفاقم رقعة البطالة، واتّساعها، وسط حاملي شهادة الدكتوراه، إلى سياسة "الكم" التي اعتمدتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر، ونظام "أل أم دي"، الذي تم اعتمادهُ من طرف الجامعات الجزائرية. وهذا النظام مُعتمد في الكثير من الدول الغربية، ويضمُ الليسانس، ثم الماستر، وُصولاً إلى شهادة الدكتوراه، بشكل مُستمر من دون انقطاع، وتحكمُ الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، شروط معينة.
بالإضافة إلى هذين السببين، يذكر كاهي لرصيف22، عدم وضع ضوابط حقيقية لفتح مسابقات الدكتوراه، إذ تم وضع شروط بسيطة لفتح هذه المسابقات، على مدار سنوات متتالية، وهو ما أفرز هذا الكم الهائل من الدكاترة العاطلين عن العمل. لكن، يضيف، لا يجبُ تحميل الجامعة لوحدها المسؤولية كاملة، فضُعف الاقتصاد، وانعدام فرص العمل الحقيقية، جعلا الشاب الجزائري يفكّر في مواصلة الدراسة، بدل البقاء من دون عمل، عكس ما هو معمول به في الدول الغربية، مثل بريطانيا حيث شهادة "الماستر" كافية لإثبات النجاح والكفاءة.
ويشدد كاهي، على ضرورة إيجاد آليات حقيقية، أو على الأقل اعتماد نظام الاستخلاف، كما هو معمول به في قطاع التربية في البلاد.
ولإيصال صوتهم، وتحقيق مطالبهم، قام سبعة من الدكاترة البطّالين، في نيسان/ أبريل الماضي، بمقاضاة وزارة التعليم العالي، من أجل المطالبة بحقهم في التوظيف المباشر، الذي تنص عليه القوانين، في سابقة تُعدُ الأولى من نوعها في تاريخ البلاد.
وانتقد المدّعون بشدة، الحجج التي تقدّمها الوزارة الوصية، بعدم توافر المناصب المالية، بالإضافة إلى منح الأولوية في التوظيف المباشر، لطلبة الدكتوراه الحاصلين على منح تكوين في الخارج، بمجرد إتمام الرسالة، وانتهاء التربص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...