تتنوع المدارس في مصر من حيث الملكية، والمناهج، وأسلوب التعليم، وتحتلّ مدارس الراهبات، أو كما يُطلق عليها "المدارس الكاثوليكية"، حيزاً مهماً في العملية التعليمية المصرية، إذ يُقبِل عليها كثيرون من أولياء الأمور، ويرون أنها تتمتع بميزات لا تملكها المدارس الأخرى.
يبلغ عدد هذه المدارس، التي ترجع نشأتها في مصر، إلى منتصف القرن الثامن عشر، أكثر من 170 مدرسةً، تُدار من قبل الرهبان والراهبات. وحسب إحصائيات رسمية، فإن 80 في المئة من خريجي هذه المدارس، هم مسلمون/ ات، إذ لا يقتصر التسجيل فيها على المسيحيين فحسب، كما يعتقد البعض.
ومن أشهر مدارس الراهبات في مصر، نوتردام مصر الجديدة، وشبرا، والفرنسيسكان، والسكركير باب اللوق، والميرديديو في غاردن سيتي، وسيدة المعونة، والقديس يوسف في الزمالك، والديلي فرانت في رمسيس، والعائلة المقدّسة في حلوان، وتأتي تحت مسمى "مدارس الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية"، أو "مدارس الراهبات"، وهو اللفظ الدارج بين المصريين.
تحتلّ مدارس الراهبات، حيزاً مهماً في العملية التعليمية المصرية، إذ يُقبِل عليها كثيرون من أولياء الأمور، ويرون أنها تتمتع بميزات لا تملكها المدارس الأخرى.
"الإنسانية هي العنوان الأول"
"يعلّمون بناتي القيم الإنسانية، واحترام الآخرين"، تقول منى عبد الحميد الشيخ (46 عاماً)، وهي نائبة رئيس تحرير جريدة الجمهورية في مصر، ولديها ابنتان، مريم وفرح، في المرحلة الثانوية في مدرسة العائلة المقدسة، وهي من أشهر مدارس الراهبات. وتضيف: "أعتزّ بتجربتي مع هذه المدارس. أفادتني كأم، قبل أن تفيد بناتي".
تتعامل الإدارة، كما تخبرنا منى، مع جميع من في المدرسة، وكأنهم عائلة واحدة، من دون أي تفرقة. وتكمل موضحةً: "منذ اليوم الأول، قدّمت المدرسة شروطها حتى يتسنى لأولياء الأمور الاطلاع عليها، والموافقة أو الرفض. من هذه الشروط، احترام المواعيد، وعدم ارتداء الطالبات أي رموز دينية حتى آخر مرحلة دراسية. بالإضافة إلى ذلك، تخصص المدرسة حصصاً للديانة الإسلامية، كما بقية المدارس، ويشرف عليها معلمون/ ات مختصون/ ات".
ومن الأمور التي تلفت منى في المدرسة أيضاً، تعامل المديرة، فـ"هي تعرف تفاصيل كل فتاة، وتعمل على حل مشكلاتها، حتى الشخصية منها، كما تخصص بشكل دوري يوماً لتنظيف فناء المدرسة، وتشارك فيه مع الطالبات بكل تواضع وحب".
أما الجانب التعليمي، وهو الأهم، فيحظى باهتمام بالغ من الإدارة: "التعليم يتم على أعلى مستوى، وغير مقبول التهاون، أو الغياب. الالتزام هو عنوان مدارس الراهبات التي أرى بأنها تنجح في تخليص المجتمع من العديد من السلبيات، خاصةً في السنوات الأخيرة. هي تجربة أتمنى أن تتعمم في مدارس مصر".
"التربية قبل التعليم"
نور طلعت (28 عاماً)، خريجة كلية الآداب قسم إعلام من جامعة عين شمس، أم لثلاث بنات، رهف وسيلين وكارن، اختارت مع بداية هذا العام، إلحاق ابنتها الكبرى رهف في عامها الدراسي الأول، في مدرسة نوتردام التي تديرها الراهبات، وسبب هذا الخيار وفق حديثها، "أنها تهتم بالتربية قبل التعليم".
"تخصص هذه المدارس حصصاً عن السلوكيات والقيم الإنسانية، وهو ما لا تفعله غالبية المدارس الأخرى، حتى تلك الدولية التي تصل مصروفاتها إلى آلاف الجنيهات سنوياً. أرى أن هذا الأمر مهم، خاصةً في وقتنا الحالي، مع ما وصلت إليه قيم المجتمع من حال متدهورة"، تقول نور لرصيف22.
"منذ اليوم الأول، قدّمت المدرسة شروطها حتى يتسنى لأولياء الأمور الاطلاع عليها، والموافقة أو الرفض. من هذه الشروط، احترام المواعيد، وعدم ارتداء الطالبات أي رموز دينية حتى آخر مرحلة دراسية. أيضاً، تخصص المدرسة حصصاً للديانة الإسلامية، ويشرف عليها معلمون مختصون"
وترى نور أن تعليم المناهج والحروف والأرقام، ليس بالمهمة الصعبة، ويمكن لأي مدرسة القيام به، لكن الأساس من وجهة نظرها، التربية السليمة، والعمل على إعداد طلاب/ ات أسوياء نفسياً. "هستفاد إيه لو بنتي أشطر طالبة في الكون، ولكنها لا تحمل من الإنسانية ذرة واحدة؟".
لا تختلف ماريان عيد، وهي سيدة ثلاثينية تعمل في مجال الصحافة والإعلام، برأيها، عما تقوله نور.
لدى ماريان ابنتان في المرحلة الابتدائية في مدرسة القديس يوسف الظهور في العباسية، واتخذت قرار تسجليهما فيها، بعد نصائح عديدة من أصدقائها الذين أخبروها عن التربية الإيجابية التي تتّبعها مدارس الراهبات. "بالفعل وجدت أنها تجربة ناجحة تعليمياً وتربوياً"، تقول السيدة لرصيف22.
وتضيف: "مدرسة راهبات تعني التربية قبل التعليم، وتعني المحبة والنظام والنظافة وتعليم القيم والأخلاق. منظمون جداً، ولا توجد أي تفرقة على أسس دينية. في شهر رمضان تتحدث الراهبات مع الطلاب/ الطالبات حول الصوم والصلاة، وفي عيد الميلاد يتحدثن أيضاً عن ميلاد المسيح، ويستخدم الجميع في المدرسة ‘دعاء المحبة’. كذلك، تحفز الإدارة الطلاب قبل كل عيد لجمع تبرعات للقرى والأطفال والملاجئ المحتاجة".
مدرسة راهبات تعني التربية قبل التعليم، وتعني المحبة والنظام والنظافة وتعليم القيم والأخلاق.
تختم ماريان حديثها بالقول: "الكثير من الفتيات الناجحات والقياديات في المجتمع المصري، هن من خريجات مدارس الراهبات، لأن تعليم هذه المدارس يركّز على النظام، واحترام الذات والآخرين، بالإضافة إلى المستوى العلمي المرتفع".
هذا الاهتمام من الأهالي، تؤكده لنا شيماء علي ماهر، وهي مسؤولة إحدى أكبر المجموعات التعليمية في مصر "بتعليم ولادنا نبني بلدنا"، التي تضم أكثر من 28 ألفاً من أولياء الأمور.
"كثيرون من الأهالي يسألون عبر المجموعة عن مدارس الراهبات، وبالفعل هناك إقبال كبير عليها، ما يجعل التسجيل فيها أكثر صعوبةً، عاماً بعد آخر"، تقول السيدة. وجدير بالذكر أن أقساط هذه المدارس تتراوح بين 10 و15 ألف جنيه سنوياً (555-830 دولاراً)، وهي بالتأكيد أعلى بكثير من المدارس الحكومية (قسطها 1000 جنيه)، لكنها في الوقت نفسه أقل من كثير من المدارس الخاصة التي قد تصل أقساط بعضها إلى أكثر من 20 ألف جنيه.
"أكثر ما يميّز هذه المدارس فى مصر، أسلوبها في التعليم. فهي قادرة على جعل الطلاب مهذبين، يعرفون الإنسانية والاحترام وتقبّل الآخر، بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتميز فيها، وهو ما نفتقده في كثير من المدارس الحكومية والخاصة"، تقول المتحدثة، وتنوّه بأنها في صدد إطلاق مبادرة تناشد من خلالها وزارة التربية والتعليم بتطبيق أسلوب مدارس الراهبات في بقية المدارس، "حتى نخلق أجيالاً ذات تربية سليمة، وتعليم جيد".
"لا أقبل بتسجيل أولادي فيها"
بالطبع، لا يتفق جميع أولياء الأمور في مصر على هذه الآراء الإيجابية حول مدارس الراهبات، وبالنسبة إلى كثيرين منهم، ليس من المقبول تسجيل أولادهم فيها، ومنهم أحمد كمال، وهو والد طفلين في المرحلة الابتدائية.
يقول كمال لرصيف22: "لمدارس الراهبات برأيي شكل ديني بحت، والأطفال لا يستطيعون التمييز بين العقيدة وحسن المعاملة في هذا السن، وهم يحبّون معلميهم، ومعلماتهم، ويتأثرون بهم كثيراً". ويضيف أن نشأة أطفال في مدارس دينية تابعة لدين مختلف عن دينهم، ستربيهم على حب دين غير دينهم، وهو أمر لا يقبل به شخصياً.
"لمدارس الراهبات برأيي شكل ديني بحت، والأطفال لا يستطيعون التمييز بين العقيدة وحسن المعاملة في هذا السن، وهم يحبّون معلميهم، ومعلماتهم، ويتأثرون بهم كثيراً"
كذلك، تحدثنا حنان عزمي (52 عاماً)، وهي عملت في تدريس اللغة العربية في مدارس الراهبات مدة 12 عاماً، عن نظام هذه المدارس، وتفاصيل قد لا يتقبّلها أولياء الأمور.
"يبدأ اليوم الدراسي للطلاب فى الثامنة صباحاً، وينتهي في الثانية ظهراً. نظام هذه المدارس عسكري في المواعيد، والالتزام، والانضباط الكامل. ولكل ثلاثة فصول مشرفة، عملها الوحيد مراقبة هذه الفصول الثلاثة، بالإضافة إلى أن أبواب الفصل مصنوعة من الزجاج، حتى تتم المراقبة جيداً. وفي الوقت ذاته يستحيل أن نجد فيها ضرباً، أو إهانةً للطلاب"، تقول.
هذه الأمور، بالإضافة إلى المطالبة بالالتزام بتفاصيل دقيقة، مثل عدم إغفال أي كتب، أو علب الطعام للأطفال، أو حتى الشريطة البيضاء في الشعر للفتيات، تحت طائلة رفض إدخالهم إلى المدرسة، تزعج كثيرين من أولياء الأمور، ويعدّونها سلبيةً، وتعنّتاً من إدارة مدارس الراهبات، "لكن الإدارات تنظر إليها على أنها من أسس التربية الصحيحة".
نظام هذه المدارس عسكري في المواعيد، والالتزام، والانضباط الكامل.
"مهارات حياتية"
عام 2019، نشر الصحافي المصري محمد الشماع، فيلماً وثائقياً قصيراً عن مدارس الراهبات في مصر، وهو جزء من مشروع يضم نحو 20 فيلماً عن قيم التسامح، وقبول الآخر في المجتمعات الإسلامية، كما يقول في حديثه لرصيف22.
مصر من البلدان الرائدة والمتفردة في تجربة مدارس الراهبات، وفق رأي الشماع، الذي يضيف: "سعيت من خلال فيلمي، الذي أبرزت فيه العلاقة المتميزة بين الإدارة والطالبات، إلى إبراز قيم التآخي والإنسانية والتسامح في المجتمع المصري، وأيضاً معرفة الأسباب وراء رغبة المسلمين في مصر في إلحاق أولادهم بمدارس الراهبات، ووجدنا أن المهارات الحياتية التي يتعلمها الطلاب في المدرسة هي الأساس وراء هذه الرغبة".
أما روبير الفارس، الباحث في الشأن القبطي، وهو أحد المشاركين في هذا الفيلم القصير، إذ كان مسؤولاً عن الجزء التاريخي فيه، يقول لرصيف22، إن هذه المدارس مهتمة بصناعة الإنسان، منذ بدايتها وحتى اليوم، وهو ما نفتقده فى مدارس مصر، نظراً إلى الزيادة السكانية الكبيرة. "الفصل في المدرسة الحكومية العادية 80 طالباً، لذلك يسعى المعلم إلى توصيل المعلومة فحسب، من دون تعليم أي مهارات حياتية أخرى".
تحتفظ مدارس الراهبات، كما يقول الفارس، بمبدأ التربية قبل التعليم، وتعتمد على أسس إنسانية وأخلاقية معتمدة على الفكرة التي تقول بأنه "لا فائدة من أن يكون الطالب/ ة ناجحاً تعليمياً، لكن بلا أخلاق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون