تماماً مثل دخولك إلى "بوفيه" في مطعم، أو فندق، تحاول ألا يخدعك أول طبق تصادفه عيناك، وأنت تحمل صحناً في يد، وقطعة خبز صغيرة في يد أخرى. تحرص على أن تتحلى بالصبر، قبل أن تتخذ قرارك النهائي بالكمية الأكبر التي ستسكبها، وتعطي فرصةً لنفسك كي تتجاوز الطبق الأول، وتتعرف على بقية الخيارات المرصوصة جنباً إلى جنب.
الاستعانة بهذا التشبيه، جاءت على لسان صاحب "متحف آرمات عمّان"، غازي خطاب، عندما استقبل رصيف22 في زيارة للمتحف، وكانت الكلمة الأولى التي نطقها بعد السلام: "لا... انتظري"، كمقاطعة لي عندما تأهبت لالتقاط أول صورة صادفتها عند المدخل، وقال: "اصبري، واعتبري نفسك في بوفيه مطعم، ستجدين خيارات أكثر، وربما أجمل"، وهذا فعلاً ما لاحظته خلال جولتي في هذا المكان الذي لا يشبه أي مكان، أو متحف، آخر.
"متحف آرمات عمّان" تأسس منذ عام ونصف، وهو مخصص لعرض آرمات اندثرت مع أصحابها.
عام ونصف من عرض تاريخ طويل
"متحف آرمات عمّان" عمره أصغر بكثير من عمر اللوحات الإعلانية المحفوظة كآثار تاريخية وشواهد عمّانية فيه. فعمره عام ونصف، وهو مخصص لعرض آرمات اندثرت مع أصحابها، فمنهم من فارق الحياة، ومنهم من فارق المكان، وأصغر آرمة معلّقة فيه عمرها أربعون عاماً.
يقع المتحف في شارع الملك حسين، في منطقة وسط البلد، في قلب العاصمة الأردنية، في الطابق الأخير من المبنى ذاته الموجود فيه مقهى "السنترال"، مقهى المثقفين والحالمين واليائسين، ومن على شرفته التي لا تتجاوز الخمسين متراً، يطلّ الزوار على مطعم الكنافة المشهور "حبيبة"، ويشاهدون الطريق المؤدي إلى كشك "أبو علي".
يجول بك غازي خطاب في المكان، الذب يشبه في توزيعه الهندسي لعبة المتاهة "تريجار هانت"، وتجد نفسك تنظر إلى الآرمات المعلقة على جدران المتحف، ويتجاوز عددها السبعة آلاف لوحة، ورأسك مرفوع، مثلما كان غازي يفعل في طفولته: "وأنا طفل، كنت أمشي في وسط البلد، ومخيم الوحدات الذي أنا ابنه، ورأسي نحو الأعلى، أتلفت بعينيّ إلى الآرمات المعلقة، وأحفظها عن ظهر قلب، حتى أن أصدقائي كانوا يتسابقون معي في سؤالي عن لافتة معينة، وأين تقع، ومن هو صاحبها؟".
من ريشة تخطيط إلى متحف
بدأت هواية الرجل الستيني بجمع الآرمات، منذ أربعين عاماً، وكانت أول لوحة أخذها عام 1980، تعود إلى محلات ملابس "صرصور"، وتصوّر معها قبل أن يأخذها، وأهداه أصدقاؤه صورته معها على شكل برواز عام 1986، و"عاشت معي سنتين خلال دراستي في ألمانيا، وعدت بها إلى الأردن، وها هي اليوم تزيّن المتحف".
درس خطاب في ألمانيا التصميم "جرافيك ديزاين"، وتخصص في فن تصنيع اللوحات، على الرغم من أن عشقه، ورغبته المسبقة، كانا في كتابة الخط، واعتقد عندما كان في الثانوية العامة كما يخبرنا، بأن أول خطوة لتحقيق حلم التخصص في علم كتابة الخط، هي الريشة التي اشتراها بستة دنانير (عشرة دولارات)، والتي وبّخته والدته بسببها، قائلةً إنها تساوي "ثمن إيجار المنزل"، في ذلك الوقت.
"وأنا طفل، كنت أمشي في وسط البلد، ومخيم الوحدات الذي أنا ابنه، ورأسي نحو الأعلى، أتلفت بعينيّ إلى الآرمات المعلقة، وأحفظها عن ظهر قلب، حتى أن أصدقائي كانوا يتسابقون معي في سؤالي عن لافتة معينة، وأين تقع، ومن هو صاحبها؟"
يضحك خطاب، ويتابع: "قصتي قصة مع رقم ستة، بدأت بقلم ‘الماجيك’ الذي اشتريته وأنا طفل، بستة قروش، وقالت لي أختي حينها لو أنك اشتريت قصةً، لكانت أحسن لك، من ثم الريشة التي وبّختني والدتي عليها، لأنها تساوي إيجار منزلنا في مخيم الوحدات حينها، مروراً بالمواد الست التي رسبت فيها في الفصل الأول في الثانوية العامة، واليوم ستة آلاف شخص شهرياً يزورون متحفي!".
"تذكرت عمّان التي أعرفها"
"تقاعدت من العمل، وتعاقدت مع الحياة"، يقول خطاب مشرعاً يديه، وهو يدور بين آرمات المتحف: "بفضل حجم التقدير الكبير الذي لقيته من الناس الذين يزورون المتحف، لم يعد هذا المكان لي، ولم يعد لي دور كبير فيه، فبفضلهم أصبحت إنساناً له جناحان".
وهنا يوضح حديثه عن تقدير الناس: "مثلاً، عندما يأتي شخص، ويرى لوحة محل جدّه الذي توفي، أو لوحة الصالون الذي كانت ترتاده والدته، وهي في عمر الشباب، أو عندما أسمع كلمة: ‘شمّيت ريحة أبوي في المتحف’، أليس هذا كفيلاً بأن يجعلني أطير؟".
وفي مرةٍ كما أضاف، "زارني رجل سبعيني وبكى، وقال لي ‘هنا تذكرت عمّان التي أعرفها، ووجدت عندك كل شيء كنت أشاهده قبل خمسين عاماً’. مسكني من يدي، وأعطاني لوحة جدّه، وقال: ‘لم أجد مكاناً أفضل من هذا المكان ليحتفظ بذكراه’".
ويشير إلى أن صيت متحف عمّان، على الرغم من أن عمره سنة ونصف فقط، جعل أناساً يزورون المكان وهم حاملون لوحات تخص أفراداً من عائلاتهم، أو أصدقائهم الذين رحلوا عن الحياة، ويقول: "عندما أشاهد هذا المشهد، أشعر كأنهم حاملون الدنيا معهم، وقادمون إلي"، ويضيف: "قبل ستة أشهر، زارتني فتاة، وأهدتني لوحةً لمحلٍ كان لأبيها الذي توفي، وكتبت لي: ‘سعيدة لأن طيف أبي مرّ من هنا’".
"زارني رجل سبعيني وبكى، وقال لي ‘هنا تذكرت عمّان التي أعرفها، ووجدت عندك كل شيء كنت أشاهده قبل خمسين عاماً’. مسكني من يدي، وأعطاني لوحة جدّه، وقال: ‘لم أجد مكاناً أفضل من هذا المكان ليحتفظ بذكراه’"
منذ الأربعينيات وحتى اليوم
"مكان هذه الآرمات ليس في سلة المهملات، أو في النار لتحويلها إلى خردة، فهي بمثابة أثاث بيئي للمدينة"، يقول خطّاب، مؤكّداً على أهمية التوثيق الذي يعمل عليه.
أقدم لوحة موجودة في المتحف، هي آرمة للمخزن الملكي الهاشمي عام 1947، ومن اللوحات التي رصدها رصيف22، خلال جولته، آرمة لمشروب ما قبل دخول "البيبسي" إلى عمّان، يعود لعائلة فلسطينية يحمل المشروب اسمها "مشروب سحويل"، وجاء في الإعلان: "إن العناصر التي تدخل في مرطباتنا، فيها الكثير من السكر، منها المانكو، والسيكس آب (بدلاً من السفن آب)".
وإعلان آخر لمحل قهوة اسمه "قهوة الحمصي"، جاء فيه: "نقية وخالية من الغش"، وعرفنا من لوحة لطبيب، أنه كان يعمل بين عيادته وبين المنازل والمدارس، وذلك من خلال أوقات الدوام المدرجة في آرمة عيادته، وهي من: "8-9 صباحاً، 11-12 ظهراً، 2-4 عصراً".
وهنا توقفنا عند الفرق بين اللوحات الإعلانية، بين الأمس واليوم، وعن هذا بيّن خطّاب: "في السابق، كانوا يحرصون على وضع اسم العائلة في الإعلان، مثل ‘بوفيه النصر’، و’لبنى للإعلان’، وكانت آرمات العيادات ومكاتب المحامين باللونَين الأبيض والأسود فحسب. اليوم تجدينها بالأحمر والليلكي، ناهيك عن الحرص في التميّز مثل آرمات الخياطين".
في السابق، كانوا يحرصون على وضع اسم العائلة في الإعلان.
ومثال على اللوحات الإعلانية التي وجدناها في المتحف، وتعود لخياطين "مخيّطة أجواخ وكوبونات"، وهنا يفسر خطّاب: "كان الأردنيون يعتزّون بلباسهم جداً، ويحرصون على التميّز في الاختيار، وعندما تسمعين أن شخصاً يرتدي بدلة كوبون، فهذا يعني أن الخياط فصّل قطعة واحدة فقط منها، ما يعني أن ذلك الشخص هو الوحيد الذي يرتديها".
آرمة أخرى في المتحف عرفنا أن صاحبها سوري، إذ كُتب عليها: "مال فاتور وقبّان"، وعندما وصلنا عند آرمة كُتب عليها "مطعم أبو فخري"، قال خطّاب: "زارني مرة شخص بالصدفة، وتفاجأ بوجود هذه اللوحة، وقال: ‘هذه اللوحة كنت مجبراً على رؤيتها وأنا طفل، يومياً، إذ كان يصحبني أبي إلى المطعم لتناول قلاية البندورة، قبل أن يفتح محله في الشارع المقابل’".
دفاتر للزوار
انتهينا من التجوال بين آرمات المتحف، وجلسنا مع غازي خطّاب في الشرفة، بعد أن أشعل الراديو الذي يتجاوز عمره السبعين عاماً، وخرج منه صوت أم كلثوم، وعلى الطاولة الصغيرة دفاتر كبيرة الحجم، لكنها بالكاد تتسع لكلمات العابرين للمتحف.
على إحدى صفحات تلك الدفاتر، وبتوقيع زائرة اسمها دانة جودة، نقرأ: "في اللحظة التي دخلت فيها هذا المكان، استقبلتني شخصيات لم أقابلها في حياتي، ولكنها قالت لي كل شيء، وسارت معي في الزوايا كلها، وأصواتها تلاحقني بقصص لم أعشها، ولم أعايشها، لكنها مسّتني، ومسّت روحي. هذا المكان ينطق، فتحلّى بالإنصاف وأنت تدخل!".
"بدوتُ مرتبكاً لأنني أقف أمام الحقيقة!"، عبارة خطّها زائر اسمه محمد خضير، وأخرى كتبتها فتاة تدعى هناء البواب، موجهةً حديثها إلى غازي خطّاب: "كيف لقلبك أن يحتمل وجع ما يزيد على أربعين عاماً، تحمله اليوم أمامك وأنت تلملم تاريخاً لم يخطر على بال أحد. هل كان شيطانك حارساً للفكرة؟ أم أن ملائكتك رعتها وحافظت عليها؟".
"وتقولين كيف أنا إنسان وأطير؟"، يختم حديثه، ودمعة بدت ساخنةً غافلت وجنته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...