أبصرت الوشم الرمادي في أسفل رجلها، عندما كانت تجلس وحيدة، في فناء منزلها الخلفي عصراً، تستعد لإطعام الحمام وسقيه، وحالما استشعرت باكتشافي له، أسدلت جبتها الوردية الفضفاضة لتستر ما يجب ستره.
دفعني فضولي لمعرفة ما هو موجود في أسفل رجل جدتي، وعلى يديها وجبينها، صاحبة الابتسامة الدائمة والنصائح الملهمة، والقصيرة القامة، والهزيلة الجسم لكن السليمة العقل والطيبة القلب.
رفضت في البداية فضح ما اعتبرته سرها، الذي كتمته منذ أن طبعت تلك الوشوم على أجزاء من جسدها، ولكن إصراري انتصر على ترددها في النهاية.
تقول الجدة تسعديت لرصيف22: "عندما كنت في السابعة عشرة من عمري أغرمت بجدكم وعشقته بجنون، فوشمت الحرف الأول من اسمه في أسفل رجلي، باستخدام الإبرة والرماد، الذي يتم مزجه بالكحل، ثم يتحول بعد مرور فترة وجيزة إلى اللون الأخضر".
وعلى أطراف أصابعها الخمس المنهكة خطفت بصري علامة (+)، سألت جدتي، وهي من إحدى قرى ذراع الميزان، الواقعة في شرق العاصمة الجزائرية، عن معنى هذا الرمز، الذي لا يزال لونه يتلألأ على إصبعها كخاتم من الذهب، رغم ما فعلته التجاعيد بجسدها، فردت: "هذا الرمز يعني الكثير لي ولبنات جيلي، يعني حرف التاء، وهو الحرف الأول من الكلمة الأمازيغية (تامطوث) أي امرأة ذات فتنة طاغية".
جسد جدتي مليء بالوشوم، هي ونساء جيلها الأمازيغيات، تقول لي: "وشم المثلث يرمز إلى البيت أو أوتاد الخيمة، وإن هاجر أزواجنا نضعه على الجبين، وعلامة + تعني امرأة ذات فتنة طاغية، وهي دعوة فارس الأحلام للزواج"
كانت الفتيات اللواتي تجاوزن مراحل البلوغ يضعن وشوماً في مناطق مختلفة من أجسادهن الظاهرة، ويتجولن بين بيوت القرية المتراصة، وأزقتها الضيقة، كدعوة صريحة للزواج، تقول الجدة بصوت خافت جداً: "قديماً، كنا نضع الوشوم في مناطق ظاهرة من أجسادنا ونضع "أمنديل" أو "تمحرمت" (وشاح قبائلي ملون بألوان زاهية) ونخرج لنتجول في القرية لنوقع بفرسان الأحلام".
وتؤكد الجدة أن الوشم يضفي جمالاً خاصاً على المرأة، وهو من الأشياء التي كان يفتتن بها الرجل في القديم، رفقة الكحل الأسود للعين.
"ذاكرة تاريخ كامل"
"من خلاله تعرف هوية المرأة الجزائرية، فهو إرث يظل على جسدها حتى تفارق الحياة"، هكذا تصف العارم، سبعينية أخرى من جيل جدتي ومن نفس القرية، الوشم. وتضيف لرصيف22: "الوشم موروث اجتماعي له دلالات ترمز مثلاً إلى التماسك الأسري، وإخلاص الزوجة للزوج، ومن بين الرموز التي تصب في هذا السياق وشم يأتي على شكل مثلث ويتبع بنقاط ترمز إلى أوتاد الخيمة أي المسكن أو البيت، وعادة ما تضعه على الجبين أو أطراف الأيادي الفتيات اللواتي هاجر أزواجهن إلى خارج البلد طمعاً في تحسين وضعهم الاجتماعي".
ومن الوشوم التي كانت تضعها المرأة الجزائرية في القديم، تذكر العارم، هذه العجوز التي تحتفظ بجمالها رغم ما فعلته التجاعيد بوجهها الأبيض الناصع، خطوطاً ورموزاً كانت تضعها الفتاة لتثبت أنها تحولت إلى امرأة، بينما كانت تضع أخرى للاحتفال بمولودها الأول، فكلما نظرت إليه تذكرت لحظة ولادة رضيعها، إضافة إلى رموز أخرى مثل: الشمس، والنجوم، والعقرب، وأغصان الزيتون التي ترمز إلى الانتماء.
كانت المرأة تحفر وشماً على جسدها احتفالاً بمولودها الأول، وكلما نظرت إليه تذكرت لحظة ولادته، هكذا كل محطة من حياتها بوشم لرموز عديدة مثل: العقرب، وأغصان الزيتون، والشمس، لتصبح الوشوم هي ذكرياتها وإرثها
تقول الأستاذة الباحثة في علم الأنثروبولوجيا مليكة حيون مهدي لرصيف22: "الوشم ارتبط في ذاكرة الكثير من الأمازيغ بالحكمة والجمال والصحة، إنها ليست مجرد رسوم عادية، بل ذاكرة تاريخ كامل، وثقافة متفردة، فهي رسوم تزيينية كانت تضفي على وجوه النساء وأجسادهنّ لمسة جمالية، وتعكس الهوية، وتعود إلى تاريخ قديم ما قبل الإسلام، فبالنّسبة لقبائل الرّحل في مختلف مناطق شمال أفريقيا، كان الوشم علامة لتحديد الهوية، والتمييز بين أفراد مختلف القبائل".
ووفق حيون، فإن الطبيعة تشكل مصدر إلهام في رمزية الوشم المختارة، المكان والزمان والعمر، حاملة دلالات متعددة، وعادة ما نجده مشابهاً للأشكال الموجودة في الزرابي والبيوت والأواني.
الوشم عند الأمازيغ كان منتشراً في القرى أكثر من المدن، وهو عادة تتمّ في طقوس دقيقة جداً من قبل الواشمة، التي يجري اختيارها على أساس موهبتها في رسم الوشم، وسرعتها في إنجازه، وإتقانها جميع أشكال الوشوم، بحسب حيون.
الواشمة الأسطورية
كانت تُسند مهمة وضع الوشوم على الجسد، إلى امرأة من نوع خاص، ينظر إليها نظرة أسطورية، وهي "الواشمة الأمازيغية"، تقول الأستاذة الباحثة في علم الأنثروبولوجيا إنها كانت تنتقى لقدراتها الخارقة على العلاج من الأمراض، والحماية من الحسد، والعين الشرّيرة، وفكّ السّحر.
وعادة ما كانت الوشوم التي توضع في الوجه تتخذ أشكالاً تعبّر عن أغراضٍ سحرية، مثل تجنّب سوء الحظّ، والحماية من العين الشرّيرة، وجلب الثروة والنّجاح، وترسم الواشمة الوشوم على أجساد نساء القرية أو القبيلة أو العائلة بدون مقابل مادي، ومن المواد الضرورية التي تستعملها للقيام بهذه العملية: إبرة أو شوكة التين البري، كحل، بقايا سخام محروق، ماء مملّح وأعشاب للتعقيم حسبما كشفته مليكة حيون.
استدلت حيون بالبحث الذي أجرته الكاتبة البريطانية المهتمة بالثقافات القديمة سارة كوربيت، حول معاني الرّموز التي كانت تتّخذها النّساء الأمازيغيات على وجوههنّ كوشوم، فالشّجرة تعني القوة، والنّبتة والعنكبوت يشيران إلى الخصوبة، والأفعى تدلّ على القدرة على الشّفاء من الأسقام، والذّبابة والنحلة تدلّان على الطاقة الخارقة، أمّا الخطّان المتوازيان على الذقن فهما كناية عن ثنائية الخير والشرّ داخل روح كلّ إنسان.
وكذلك استحضرت مليكة تعريف الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي، للوشم في كتابه "الاسم العربي الجريح"، وتقول إنه عرّفه على أنه "علامة رمز ـ صورية"، أي أنّ الوشوم وضعت قديماً بغرض التعريف والتمييز بين الناس، ولذلك كان الأمازيغ يمارسون عادة الوشم.
سيكنّ بعد فترةٍ قصيرة مستعدّاتٍ للزواج.
الهدف الرئيسي من هذه العادة كان التمييز بين النساء البالغات والمتزوجات، وبين الفتيات اللواتي لم يبلغن بعد، لتحقيق هذه الغاية الجمالية، كان لا بدّ للمرأة الأمازيغية أن تنتظر مناسبتين كي تستطيع الوشم، وهما البلوغ والزواج، وقد تشكّل مرحلة ما بعد الزّواج مناسبة ثالثةإذ يمكن للمرأة إضافة وشومٍ جديدة إلى مناطق أخرى من جسدها، إذا طلب منها زوجها ذلك، وفي بعض المناطق الأمازيغية، مثل منطقة الرّيف شمال المغرب، وضعت الكثير من الفتيات وشوماً على وجوههنّ قبل البلوغ بقليل، وهو بمثابة تلميح إلى أنّهن سيكنّ بعد فترةٍ قصيرة مستعدّاتٍ للزواج.
ووفق مليكة حيون فإن النساء الأمازيغيات يضعن الوشم لسبب اقتصادي أيضاً هو تعويض الحليّ، والظهور بمظهر جميل، وأيضاً من أجل التعبير عن دلالات أخرى.
في منطقة "القبائل" بالجزائر، كانت النّساء يضعن الوشوم للتعبير عن مشاعر معيّنة، أو للإشارة إلى وضعيتهنّ الاجتماعية والأسرية، مثل التلميح إلى كون الفتاة عزباء أو متزوّجة أو أرملة، وهكذا فإن المرأة التي توفي زوجها مثلاً، كانت تضع وشماً يربط بين ذقنها وأذنيها رامزة بذلك إلى شارب الزّوج الرّاحل.
بمرور الزمن، تلاشت ظاهرة الوشم على الجسد، لتعوضها لاحقاً ظاهرة "التاتو" بشكل لافت بين فتيات الجيل الحالي، لتُطوى بذلك صفحة إحدى العادات القديمة جداً في الجزائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع