شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يواجهن الذكوريّة بالحبر والرسومات... عن النساء الموشِّمات في الضفة الغربية

يواجهن الذكوريّة بالحبر والرسومات... عن النساء الموشِّمات في الضفة الغربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 13 يناير 202112:54 م

التوشيم هي ممارسةٌ أوراسية قديمة، عرفتها البشرية منذ قرابة 3000 عام قبل الميلاد عن طريق مومياء أوتزي التي تعود إلى العصر النحاسي، والتي عُثر عليها في وادي أوتز في جبال الألب. كان عليها ما يقارب الـ57 وشماً كربونيّاً عبارة عن نقاط وخطوط بسيطة في العمود الفقري السفلي وخلف الركبة وعلى الكاحل الأيمن. جرى الاعتقاد أنها رُسمت لأسباب علاجية؛ نظراً لموقعها الذي يشابه الوخز بالإبر. هناك مومياءات أخرى اكتُشفت وكانت تحمل وشوماً مشابهة، مثل مومياء أمونيت في مصر القديمة ومومياءات بازيريك في هضبة أوكوك. وقد استخدم الإنسان الأوّل الوشوم كنوعٍ من التعريف بالهوية، أو العقيدة الدينية أو القومية أو لإخافة الكائنات الأخرى. فيما تُستخدم الوشوم اليوم في الغالب الأعظم لأسباب جمالية، وقد راجت بشكلٍ كبيرٍ مؤخراً بين أوساط الشباب والفتيات إثباتاً للذات والهوية والاستقلاليّة.

في ستينيات القرن الماضي وما قبله، اشتهرت (الدكة) بين أوساط العجائز والبدو. والدكة شبيهة بالوشم إذ تستخدم الإبرة والرماد في تشكيلها ووضعها على الجسد، لتتحوَّل فيما بعد إلى اللَّون الأخضر. كان هذا النوع من الوشوم يعبِّر عن تراث وهوية العديد من قبائل البدو فلسطينياً وعربياً. لكنَّ هذه النظرة تغيَّرت اليوم، وأصبح التوشيم من المِهن المذمومة والأفعال القبيحة إذا ما رُسم على أجساد الأشخاص من أيّ فئةٍ عمرية؛ فهو مرفوضٌ لاعتباراتٍ دينيةٍ واجتماعية.

إلا أنَّ امتهان النساء المولعات بالفنّ أو الباحثات عن لقمة العيش لهذه المهنة أدى إلى ملاحقة المجتمع لهنّ، والسخرية منهنّ بإلحاق أسمائهنّ بألقابٍ وشتائم خارجة، فقط لأنّهن اخترن العمل في هذا المجال. وعلى الرّغم من أنّه ليس ثمّة من قانون يمنع المرأة الفلسطينية من العمل في التوشيم، إلا أنَّ التقاليد الاجتماعية والالتزامات الدينية شكَّلت حاجزاً بينهنّ وبين مهنٍ كثيرةٍ يطمحن إلى امتهانها. فأصبح القانون السائد في فلسطين ضد المرأة وضدَّ أيّ محاولةٍ للتغيير أو التجديد هو القانون الذي يسنّه المجتمع تحت بند (الحلال والحرام).

على الرغم من أنّ ظاهرة التوشيم منتشرة في أوساط فئات عديدة داخل المجتمع الفلسطينيّ، لكن المجتمع يستمر في قمع أفراده. فيربط المجتمع الذكوريّ المتحفِّظ مهنة التّوشيم عند الفلسطينيات بالعار، أو الاسترجال

مهنةٌ أم طريق إلى الإقصاء من المجتمع؟

تقول الوشّامة سندس (اسم مستعار، 34 عاماً) لرصيف22: "يلقّبونني بالمسترجلة. حين أسير في الشارع يلتفتون إليّ بسخرية. بعضهم يتحدَّث معي أو يناولني رقم هاتفه، لأنه يعتقد أنَّني منفتحة على أيّ علاقةٍ تصادفني بسبب عملي في هذه المهنة. وكأنَّ المرأة التي اختارت التوشيم عديمة الأخلاق، ولا يوجد حدود أو مسافات بينها وبين الناس الذين يصادفونها، خاصة الرجال. يمكنني أن أتحدث عن عائلتي أيضاً، أنا الابنة البكر واعتاد الناس على مناداة أبي بـ "أبو طارق"، لا يتبعون مناداته باسمي أبداً. أخبرني أبي ذات يوم أنه لطالما أراد ولداً، فنحن جميعنا بنات في العائلة. شعري قصير وأنا نحيلة وقصيرة وسمراء، وجسدي مليء بالوشوم، وما أعمله في حياتي هو التوشيم. لكنَّ هذا لا يعني أنني تخلَّيت عن أنوثتي، أو لست راضيةً بها. ولا أفهم لماذا يقرِّرون شكلاً وتصرفات معينة ينبغي أن تكون عليها الروح البشرية لتصنَّف على أنها أنثى؟".

وتضيف سندس: "لديَّ وشوم كثيرة على جسدي: جناح صقر على طول يدي اليمنى، وعبارة "إن الحياة كلها وقفة عز فقط" على طول يدي اليسرى، عينٌ على فخذي الأيمن، نجومٌ على كاحل قدمي اليمنى، كلمة Princess على ظاهر قدمي اليسرى. تعرَّفت على التوشيم من خلال الألم، أنجبت طفلاً ومات في اليوم نفسه، ثمَّ تطلَّقت، أصبحت مدخِّنة نهمة فيما بعد واليوم كلّما تذكرت الألم لجأت إلى رسم وشمٍ جديد دون تخدير، أردت أن أبكي وكان ذلك عاملاً مساعداً. لا شيء أقسى من الألم، فهو يدمر الروح. خضت آلامي وحدي، لم يكن معي أحد. والمجتمع الذي ينظر إليَّ باستنكارٍ الآن لم ينظر إليَّ حين فقدتُ ابني، وصرت مطلقةً دون مال أو وظيفة. هذا جسدي وهو ملكي. ليس من حق أحد محاسبتي على ما أفعله به".

"إن كنتِ تسألين عن علاقة التوشيم في الدين فأنا لا أزال أحتفظ بعباءتي وحجابي، ولا أنوي نزعهما. أصلي وأصوم وملتزمة بشكلٍ كامل"

وعلى الرغم من أنّ ظاهرة التوشيم منتشرة في أوساط فئات عديدة داخل المجتمع الفلسطينيّ، لكن المجتمع يستمر في قمع أفراده. فيربط المجتمع الذكوريّ المتحفِّظ مهنة التّوشيم عند الفلسطينيات بالعار، أو الاسترجال. وينظر إلى الفتيات الموشّمات على أنّهن متمرِّدات وخارجات عن المألوف، يقبلن بكلّ ما هو غير شرعيّ ومحظور. وكأنَّ التوشيم أو رسم بعض الرسومات على أجسادهنّ يقذف بهنّ خارج إطار الأنوثة، التي لطالما كانت من وجهة نظر المجتمع شيئاً مقدَّساً ينبغي الحفاظ عليه مثل "الشرف". دون أن يأخذوا بعين الاعتبار رغبتهنّ الشخصيّة أو هوايتهنّ أو حاجتهنّ إلى المال، أو الظروف الصعبة التي تضطرّهن إلى أن يكنّ نساء كادحات.

تقول سندس: "أعمل في هذه المهنة منذ سنتين تقريباً، بداية عملي كانت في رسم الحاجبين، وشهِدَت إقبالاً واسعاً من النساء والفتيات وقتذاك، كون الحاجبين يُبرزان جمال العينين. ويصنعن فرقاً عند النساء اللواتي يمتلكن شعراً خفيفاً، أو تعرَّضن لتشوّهاتٍ وأمراض، أو يرغبن ببساطةٍ في تغيير شكل الحاجبين. استعرت فيما بعد آلةً خاصة للوشوم الجسدية، استغفلني البائع لقلّة خبرتي، وحاول بيعها لي بسعرٍ مرتفع، لكنني لم أكن أملك ما كيفي من المال، فضلاً عن كونها شبه تالفة. لم أدفع له المبلغ كاملاً ولاحقني لفترة حتى أعدتها له واشتريت في المال الذي جنيته منها آلة جديدة وحبراً جديداً وشرعت في عملي".

لجأت سندس إلى هذا العمل بسبب حاجتها إلى المال، رغم إنهائها الثانوية العامة بنجاح إلا أنها عجزت عن حجز مقعدٍ لنفسها في صفوف النساء الموظَّفات. فكان الدافع الأساس هو حاجتها إلى توفير قوت يومها، بالإضافة إلى تميّزها في الرسم ودقّتها، وثبات يدها. تكافح سندس لتوفير مبلغٍ كافٍ لتدخين علبتي سجائر يومياً من نوع مالبورو، وهذا ما دفعها إلى الاستغناء عن سيارات الأجرة والذهاب سيراً إلى مكان عملها، حيث تتقاطع نظراتها مع نظرات العابرين من الرجال والنساء، "ينظرون إليّ باستهجانٍ؛ إلى شعري القصير ووجهي الخالي من مستحضرات التجميل"، تقول سندس وتروي موقفاً لم يفارق ذاكرتها حتى اليوم، حين كانت في بدايات عملها: "كنت ذاهبة إلى المركز الذي أعمل فيه مشياً على الأقدام. أوقفني ثلاثة شبّان ثمّ سألني أحدهم إن كنتُ أقبلُ الذهاب إلى بيته لأرسم لهم وشوماً، وسيدفعون لي مبلغاً منصفاً 2000 شيكل (600 دولار) عن ثلاثتهم، علماً بأنَّ الأسعار أقلّ من هذا المبلغ بكثير. لكنني رفضت وأخبرتهم أنني لا أرسم للرجال. لا في بيوتهم ولا في أي مكانٍ آخر، فلم يعجبهم ذلك". تتعرَّض سندس خلال عملها إلى الكثير من المضايقات والسالف ذكرها واحدة منها.

القلوب والفراشات الرسومات الأكثر رواجاً

وفي حديثها عن الرسومات الأكثر رواجاً ونسبة إقبال النساء على التوشيم، تقول: "القلوب والفراشات والرموز الصغيرة، والجُمل المكوَّنة من كلمة أو كلمتين هي الأكثر رواجاً، مقابل الصور والرسومات الضخمة التي تعتبر نادرة أو حتى معدومة في مجال عملي، لم يسبق لي أن رسمت وشماً كبيراً لإحداهنّ. هناك نوعان من الحبر المستخدَم في التوشيم: المؤقت والدائم. المؤقت يظلّ لمدة ستة أشهر، سنة، سنتين. ثلاث سنوات كحدّ أقصى ويزول، أما الدائم فأنتِ تعرفينه، يظلّ إلى الأبد".

وتقول مضيفةً عن الأسعار: "تبدأ من 100 شيكل حتى 500 شيكل (30 حتى 150 دولاراً)، يعتمد ذلك بالدرجة الأولى على حجم الرسمة ونوع الحبر. أما الأدوات فهي بعض الشيء. ليس لدي زبائن بشكل يومي لكنني أحصل شهرياً على مبلغ يتراوح بين 3000 إلى 4500 شيكل (900 إلى 1400 دولار).

أما بالنسبة إلى أحلام خبيرة التجميل، فتوضِّح: "النساء يُقبلن بشكلٍ كبيرٍ على رسم الحاجبين، بعضهنّ يطلبن وشوماً على أجسادهنّ فنتصل بإحدى العاملات في هذا المجال ونتقاسم الأرباح. ليس لدينا قسم خاص في التوشيم داخل المركز، لكننا نتعامل بشكلٍ مستمرٍ مع زبائن من النساء يرغبن بذلك. انتشرت الكتابة بشكلٍ كبيرٍ مؤخراً، يطلبن أن يكون الوشم اسماً أو اقتباساً ما. طبعاً هناك فئة من النساء اللواتي يعارضن حتى فكرة رسم الحاجبين، إذ يعتقدن أنَّ الإبرة ستصيبهنّ بالأمراض، ومنهن من يرفضن بسبب الدين أو المجتمع. ولكن بالمجمل أعتقد أن النساء أصبحن أجرأ من ناحية اختياراتهنّ عن السنوات السابقة. هذا الانفتاح تولَّد من طبيعة عصرنا الحالي والحرية التي لم تعد مقتصرة على الرجال. هناك أيضاً عامل التقليد أو التشبّه بشخصيات معيّنة من المشاهير والمؤثرين أو من يعرفن باسم (فاشنيستا). وهذا يفسِّر بحث الفتيات من أعمار صغيرة عن الوشوم. في الشهر الماضي مثلاً قمنا بنشر إعلان كتبنا فيه أن سعر الوشم الواحد 100 شيكل للرسومات الصغيرة، واستقبلنا ما لا يقل عن أربعين فتاة. هذا جعلني أفكر في فتح قسم خاص للوشوم في الأيام القادمة".

"لديَّ وشم على رسغ يدي، وواحد على رقبتي من الخلف وشمته مؤخراً. كلَّفني ذلك شجاراً مع والديّ، ضربني أبي ولا تزال علاقتنا سيئة تقتصر على الأحاديث المقتضبة"

الوشم: مناعة ضد الدين والتوظيف

فيما تقول إيمان (29 عاماً) لرصيف22: "لديَّ وشم على رسغ يدي، وواحد على رقبتي من الخلف وشمته مؤخراً. كلَّفني ذلك شجاراً مع والديّ، ضربني أبي ولا تزال علاقتنا سيئة تقتصر على الأحاديث المقتضبة. أنا متزوجة وزوجي لم يمانع حتى أنه شجّعني على ذلك. إن كنتِ تسألين عن علاقة التوشيم في الدين فأنا لا أزال أحتفظ بعباءتي وحجابي، ولا أنوي نزعهما. أصلي وأصوم وملتزمة بشكلٍ كامل. الدين شيء مختلف كلياً عن الجسد، وإذا كان الفرض الأساسي هو الحشمة فأنا لا أتجول بوشومي أمام العامّة، وفي الوقت نفسه أؤمن بأنَّ من حقي عيش الحياة بالطريقة التي تناسبني".

أما وعد (25 عاماً) فتقول لرصيف22: "تقدَّمت إلى عملٍ كنادلة في مطعم قريب، هنا في رام الله. ذهبتُ إلى المقابلة ومرّ أسبوع دون أن يتصلوا بي. لذا قررت الاتصال بهم، كنتُ بحاجةٍ إلى هذا العمل. أخبروني أنَّهم رفضوا طلبي بسبب الوشم على يدي، فهذا يخالف سياستهم في التوظيف. ربما الانفتاح الذي نسمع عنه ليس موجوداً إلا في الأفلام والأدبيات".

لا تعتبر المُوشّمات الدين عائقاً، رغم تحريمه لهذه الرسومات استناداً إلى حديث صحيح، لما لها من آثارٍ سلبيةٍ صحياً وجمالياً، بالنسبة إلى الغالبية العظمى، كتشويه الجسد. إلا أنَّ هناك بعض الفقهاء حلَّلوه في حالتين: الأولى إذا كان للشفاء من أمراض معيّنة. والثانية إذا كان تريّناً للزوج. ولعلَّها مفارقةٌ غريبة أن يحارب المجتمع الوشّامات والواشمات بحجة الحفاظ على أنوثتهنّ فيما يبيحه بعض الفقهاء إذا كان تزيّناً للزوج.

أقليّة تعتبره تميّزاً 

رغم نظرة المجتمع التي تستنكر التوشيم، إلا أن هناك فئةٌ أخرى تراه شيئاً عادياً ولا ينتقص من قيمة المرأة ومكانتها في المجتمع. هذا ما أكدت عليه هيا حاتم في حديثها: "أنا موظفة وربّة بيت، لديَّ ثلاثة أولاد. أعمل في إحدى شركات الاتصال. وشمت المرة الأولى قبل زواجي، والثانية بعد الإنجاب. لم يصنع الوشم حاجزاً بيني وبين المجتمع إذ توظَّفتُ بعد تخرّجي بسنة، رغم وضوح الوشم على رسغ يدي. أمي كانت من فئة المعارضين، ليس لأسبابٍ دينيةٍ أو مجتمعية، ولكنها لا تحب أن (أشخبط على جسدي) كما تقول. أما أبي فلم يعترض".

وجود فئات متحررة ونساء متحررات على وجه التحديد في مجتمع محافظ، يعني أنَّ هناك قلة قليلة من المجتمع لا تُمانع تحرر النساء أو التوشيم أو الظهور بشكل مختلف عن باقي الأفراد، وتعتبره نوعاً من التميّز لا الرجعيّة.

ما بين وشوم العجائز القديمة المعروفة بوشوم الوجه عند البدويّات أو بالحنّاء (وهي مادة تكون غالباً سوداء اللّون يُصبغ بها الجلد لأيّام عديدة ثمَّ تزول)، ووشوم العصر الحاليّ، تكمن المفارقة الجيليّة. إذ يعتبر الحناء نوعاً من التراث المعبِّر عن الهوية الفلسطينية، ولا زال يُستخدم في المناسبات والأعراس، بالإضافة إلى كونه أداة للزينة. إلا أنَّ المجتمع ما زال يعتبر الحناء شيئاً والوشم شيئاً آخر. لكنّ النساء لم يضعفن أمام هذه التقييدات الصارمة، والمحاولات المستمرة لفرض الهيمنة المجتمعية. إذ يعتبرن التوشيم جزءاً من التغيير والتعبير عن الاستقلالية والهوية، ويناضلن ضد أي محاولةٍ لتأطيرهن أو قولبتهنّ داخل إطار المسموح والمحظور، مجتمعياً ودينياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image