شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"فقدت اليقين بالعدالة الإلهية"... سوريون يحكون قصة وشومهم "الفلسفية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 10 أكتوبر 201906:41 م

تحكي الجدة أم محمد عن الوشّامة (فنانة الوشم) التي كانت تزور الضيعة وتزين وجوه الصبايا بوشوم تزيدهن جمالاً، فتتمايل النقاط الخضراء المرسومة بحرفية على ذقن الجدة، وتكاد تقفز من مكانها كلما صدرت عنها قهقهة رنانة.

وبرغم أن التجاعيد حفرت قنوات في وجه أم محمد، بقيت نقاط الوشم محافظة على جمالها.

هكذا ارتسم الوشم (التاتو) في عقولنا، نحن جيل الثمانينيات، على أنه نقاط وخطوط مرسومة على ذقون الجدات، أو كلمة "باطل" مدقوقة بخط متعرج على زند "أبو عنتر"؛ بطل مسلسل "صح النوم"، فكان الوشم مرتبطاً بالجدات أو بـ"القبضايات" والمساجين.

لكن ظروف القتل والحصار والتشريد التي يمر بها السوريون منذ 2011، أكسبت الوشم معاني جديدة. بات السوريون بحاجة إلى كل الوسائل التي تساعدهم على البقاء والتمرد والصبر، فاستعانوا بالوشم أداة لإصدار بياناتهم الخاصة على صفحة بدنهم.

وبينما وجد البعض في الوشم أداة تساعد على تجاوز الخوف والألم، من خلال كتابة أو رسم عبارة تذكرهم بقوتهم، يتلمسونها كلما شعروا بالضعف، اعتبره البعض الآخر وسيلة المقهورين للتعبير عن تمردهم ونقمتهم على المجتمع والقيم التي يصبّون عليها أسباب شؤم حالهم اليوم.

أداة للتنديد بتراجع دور الله

"أضعفت الحرب ثقتي بدور الإله، فكلما اشتعلت نيران الحرب أكثر فقدت اليقين بالعدالة الإلهية، ثم بدأت أبحث عن إجابات فلسفية تبرر الظلم الواقع على الأبرياء"، هكذا تفسر زهراء دار الوشم الذي دقته على يدها منذ عام ونصف العام، والذي تعيد فيه أصل الحياة والوجود إلى الطبيعة المكونة من أربعة عناصر: الأرض، والماء، والهواء، والنار التي يحكمها قانون القوة.

وبحسب زهراء، ابنة مدينة السلمية والمقيمة حالياً في حمص، فإن الوشم صار منتشراً بكثرة بين الشباب السوريين، ولم يعد مستهجناً.

ليست زهراء وحدها من بحثت عن العدالة من خلال الوشم، فمها بدر أيضاً دقت على أعلى ظهرها وشم "The end will be ironic"، القصد منه أن الكارما (قوة الكون الخفية) سوف تنتقم، وتقول مها إنها اختارت هذه العبارة كرد فعل على تجربتين قاسيتين جداً في حياتها. ولأنها لم تستطع الانتقام من الشخص الذي تسبب لها بالألم، تركت المهمة للكارما.

وعندما سألتُ مها عن سبب اختيارها مكان الوشم (على رقبتها من الخلف)، قالت "لم أكن متأكدة من رغبتي في دقه فاخترت مكاناً لا أراه".

وتقول إنها في بعض الأحيان تشعر بالندم لأنها اختارت دق ما يذكرها بألمها على جسدها، لكن ندمها على التجربة القاسية التي مرت بها دائماً أكبر.

"آمن بنفسك" ( Believe in yourself) جملة دقها باسل كريم على معصمه الأيمن كي تبقى تحت نظره. وعن السبب الذي دفعه لاختيار هذه الجملة تحديداً، يقول ابن مدينة حلب: "بعد تعرضي للاعتقال في سوريا، ولظروف وتجارب قاسية جداً في تركيا، كنت بحاجة إلى ما يذكرني بأنني أمتلك من القوة ما يكفي، وبأنه مهما قست علينا الظروف فلا شك أننا نستطيع - نحن السوريين - تحقيق أحلامنا".

باسل لا يشعر أن وشمه قد يسبب له الإحراج في حال عودته إلى سوريا، فالمعايير الاجتماعية تغيرت، حسب وصفه.

وبرغم أن الوشم الذي دقته شهد بارودي على جسدها يرمز إلى الحياة الأبدية، تجيب عند سؤالها ما إذا تسببت هذه الأوشام لها بالمشاكل في حال عودتها إلى سوريا: "أشعر بأنني سأموت قبل أن أتمكن من العودة مجدداً إلى سوريا، لذلك لم أفكر في هذا الموضوع".

وتقول شهد إنها أخبرت عائلتها المقيمة في مدينة حماه بأن هذا الوشم مؤقت، وهي تخفيه عن أفراد أسرتها كلما التقتهم.

ودقت شهد رمز الشمس ونهر النيل والأهرامات على زندها، وهي حسب قولها اختارت المكان الأقل ألماً حسب توصية فنان الوشم.

وعن معنى الرموز التي اختارتها، تشرح شهد: "ترمز الشمس في الحضارة الفرعونية إلى الإله آتون أخناتون الذي تتوحد في شخصه بقية الآلهة الفرعونية، فهو إله الشمس ومصدر القوة، أما نهر النيل فهو نهر الحياة الذي اعتاش منه الفراعنة". وعن الأهرامات الثلاثة في أسفل الوشم، تقول شهد: "هي المقابر التي يقيم فيها الفراعنة بعد موتهم بانتظار انتقالهم للحياة الأبدية، وأنا أشعر بأن روحي لن تموت".

من كلمة حرية إلى الفلسفة

تعلّم "سام" فن دق الوشم في اسطنبول، وبرغم أنه كان يمارس الرسم عندما كان في سوريا، فإن" التاتو فن مختلف وأكثر صعوبة. الخطأ فيه ممنوع".

ويحكي سام الذي عمل منذ ست سنوات في صالون قبل أن يتقن مهنة دق الوشم، أنه في بدايات الثورة لاحظ أن معظم الشباب دقوا كلمة حرية على أجسادهم تعبيراً عن تضامنهم مع الثورة، إلا أنه في السنوات الأخيرة صار العديد منهم يرغب برسوم ذات أبعاد فلسفية، كما أن الكتابة بالخط العربي رائجة جداً.

ارتسم الوشم في عقولنا، نحن جيل الثمانينيات، على أنه نقاط مرسومة على ذقون الجدات، أو كلمة "باطل" على زند "أبو عنتر". بعد الحرب، تحول إلى "أداة انتقام"... سوريون يحكون قصص وشومهم
في البداية وشم كثرٌ كلمة "حرية" على أجسادهم تعبيراً عن تضامنهم مع الثورة، لاحقاً صار العديد من السوريين يرغب برسوم ذات أبعاد فلسفية، بعدما "عجز الدين عن إنقاذ الشعب من الظلم"

ويوضح سام أن بعض الشباب المهاجر إلى أوروبا أو حتى المقيم فيها يدق الوشم في إسطنبول كون الأسعار معقولة جداً مقارنةً بأسعار الوشم في أوروبا. وبحسب سام، فإن معظم السوريين المقيمين في أوروبا يدقون رمز الشمس، مبرراً ذلك بأنهم يشتاقون للشمس التي حرموا منها في أوروبا.

وتؤكد ريم ملحم من مدينة حمص على فكرة تعلق السوريين بالشمس، قائلة: "الشمس مصدر القوة والنور، حتى أن الأشياء تكون أجمل عندما تكون تحت أشعة الشمس… ونحن أبناء حضارة البحر المتوسط نعتبر أنفسنا أبناء الشمس".

بعدما أقامت ريم في شمال فرنسا افتقدت الشمس في حياتها، فالطقس هناك غائم معظم شهور السنة، لذلك وشمت رمز الشمس في الحضارة السورية.

الانتقام من الفشل

يعيد الباحث الاجتماعي صفوان موشلي إقبال الشباب السوري على وشم نظريات فلسفية - تُعتبر بعيدة عن القيم التي تربى عليها - إلى الفشل الذي يعتري المشهد السوري، قائلاً: "الفشل وانعدام الحلول يدفعان إلى الانتقام من المجتمع والقيم والدين بعدما كان من المفترض أن يكونوا مفتاح الحل، فالمعتقدات التي نشأ عليها الشباب صار أغلبهم يعتبرها من أسباب عدم انتهاء الحرب في سوريا".

"الدين لم يستطع إنقاذ الشعب من الظلم، برغم أن هذا الشعب نشأ وتربى على أن خلاصه ومنقذه هما الدين، الأمر الذي يدفع بالبعض إلى التمرد عليه بأساليب مختلفة، منها الوشوم".

ويضيف الباحث الاجتماعي: "أحد أهم الارتكاسات (ردات الفعل) التي تعتري المجتمعات المتدينة العالقة في شرك الحرب والتخلف هو الارتكاس الديني، لأن الدين لم يستطع إنقاذ الشعب من الظلم، برغم أن هذا الشعب نشأ وتربى على أن خلاصه ومنقذه هما الدين، الأمر الذي يدفع بالبعض إلى التمرد عليه بأساليب مختلفة، منها الوشوم".

ويميز موشلي بين الشباب الذي أقبل على الوشم من باب الموضة والتقليد للغرب وبين من رغب في الوشم بهدف التمرد على القيم والمجتمع أو انتقاماً من العقائد والمقدسات. ويقول: "سواء كان الوشم بهدف الموضة أو التمرد، فإن الإقبال على التاتو دليل على ارتفاع سقف الجرأة بعد فشل القيم والعادات، فالمجتمع السوري لم يكن مرحباً بالوشم".

ويلفت موشلي إلى أن "تفكك الروابط الأسرية التي كانت تشكل رادعاً ساهم في تحرر خيارات الشباب في ما يتعلق بشكلهم، وسيستمر سقف الجرأة والتمرد في الارتفاع ما دامت المسألة السورية عالقة، وسيبقى الشباب يبحث عن وسائل وأدوات للتنفيس والتعبير عما يشعر به من غضب وفشل وخذلان".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image