يتذكر جيلنا مشهداً سينمائياً للفنان محمود عبد العزيز، في دور الشيخ حسني الأعمى، وهو يحكي في مذياع بمسجد الحارة، كانت تتلى فيه آيات القرآن، عن قصص تفضح بعض الشخصيات، في حين أن الأهالي يتجاهلون، أو يحاولون أن يتجاهلوا ما يقال، ولا يجرؤون على تناقله إلا همساً.
جاء ذلك في فيلم "الكيت كات" للمخرج داوود عبد السيد، إنتاج 1991، وهو مقتبس عن رواية "مالك الحزين" للروائي الراحل إبراهيم أصلان.
وفيما الشيخ حسني يمزق الحجاب عن القيم الزائفة في الحارة، كانت الكاميرا تلتقط مشاهد تصنف بأنها "ساخنة" بين السيدة التي تنتظره متلهفة، ونجله الذي يحاول أن يثبت رجولته أمام جارة تعشقه، وتحاول استمالته إليها.
لماذا أستحضر ذلك الفيلم، بل تلك المشاهد تحديداً؟ ربما يساعدني ذلك في تأمل الأحوال التي تبدلت فيها السينما، ومالت مؤخراً إلى المحافظة، أو الحذر في الخروج عن عادات المجتمع، بعد أن كانت الوسيط البصري الوحيد الذي يجسد هذه الجرأة.
ربما أتذكر هذا المشهد خاصة، وأنا أشاهد مقاطع التيك توك المليئة بالإيحاءات الجنسية، والمحتوى الذي تجاوز ما تحمله ذاكرتي عن المشاهد السينمائية المصرية، بقبلاتها ومواقفها الساخنة.
مراهقان يتبادلان القبلات بعمق وعنفوان، أو يأتيان بحركات إيحائية مع تلفظ بعبارات لا تذاع علناً عادة، وإن كانت رائجة في جلسات الأصدقاء أو داخل غرف النوم.
يحكي الشناوي عن منتج فني كان يتدخل بنفسه، ويحذف أي مشاهد يعتبرها "مثيرة" في المونتاج، حتى إذا كانت ستؤثر على السياق الدرامي والحبكة، مشيراً إلى أن رقابة المبدع على نفسه باتت أكبر من الرقابة الرسمية، والمجتمع
سيدة متحررة في ملابسها تتمايل مع أغنية ما، ثم فجأة تشد ما ترتديه من جلباب قصير كي يكشف عن تفاصيل جسدها أكثر فأكثر، وكأنها لا ترتدي شيئاً.
ومقطع ثالث يحاول أن يضفي جواً من الدراماتيكية والإيحاء المغري، فتتجول الكاميرا بين التصوير البطيء والعادي ملتقطة قبلة بين زوجين أو عشيقين داخل غرفة نومهما، أو سيدة تحتضن طفلها الرضيع ثم تكتب سائلةً "من يريد أن يكون مكان ابني؟".
هل يلعب التيك توك دور الشيخ حسني الضرير حالياً في فضح ما هو مستور؟ هل جاء ليصدمنا بإذاعة علاقات وأنماط ودرجات من الجرأة، أو رغبة في الشهرة حتى عبر الإثارة؟
المقارنة ليست معقودة بين السينما كفن أصيل وقديم، وبين وسيلة تواصل اجتماعي أو منصة مثل "التيك توك"، لأن طبيعة كل منهما لا تحتمل المقارنة، لكن بالنظر إلى تأثيرهما أو علاقتهما بالمجتمع، فربما نكتشف أن "التيك توك" بسقفه الضارب في الحرية والجرأة قد يؤثر مستقبلاً على السينما، كما يؤثر اليوم بشكل ما على المجتمع.
السينما النظيفة بداية المحافظة
تختلف الأقوال حول تأريخ مصطلح "السينما النظيفة"، البعض يربطه بالفنان حسين صدقي "1917 -1976" الذي كان يرفض تمثيل المشاهد الحميمية في أفلامه، في وقت كانت تلك المشاهد لا يخلو منها عمل. ويربطه آخرون بالصحافة، على اعتبارها بدعة ابتدعتها الصحافة الفنية، فيما يرى فريق ثالث أنها ترتبط بجيل فناني التسعينيات والألفية الجديدة، ممن كانوا يرفضون القبل في أفلامهم، تماشياً مع تفشي أفكار "الصحوة الإسلامية" في المجتمع المصري.
يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي لرصيف22: "من المؤكد أن أي قيد على المبدع غير ضميره يلعب دوراً عكسياً في وصول الرسالة التي يتبناها العمل، بعض المبدعين يستسلمون للمحاذير الرقابية فيقتلون الإبداع".
ويشير إلى "خوف بعض الكتاب والمبدعين من المجتمع"، هذا الخوف الذي يفوق ما تحظره الرقابة، ويقول: "القبل مثلاً لم تُمنع في السينما، لكنها تكاد تختفي لأن الممثلة تخشى أن يقال عنها إنها غير أخلاقية، أو يخشى المنتج أن يقاطع الجمهور العمل الفني".
ويضيف: "الرقابة المجتمعية أشد ضراوة من رقابة الدولة، ورقابة المبدع على نفسه أشد إحكاماً من الرقابة الرسمية والمجتمع".
ويحكي طارق عن منتج كان يتدخل بنفسه، ويحذف أي مشاهد يعتبرها "مثيرة" في المونتاج، حتى إذا كانت ستؤثر على السياق الدرامي والحبكة.
"الرقابة الذاتية تلك تؤثر على قيمة الأعمال، فالرسالة لا تصل مجتزأة، والفن ينتعش في أجواء الحرية"، يقول الشناوي.
وتمتليء المنصات المصرية بين الحين والحين بتصريح لممثل أو منتج يشدد على رفضه للقبلات، أشهرها تصريح لعادل إمام، عبّر فيه عن رفضه دخول ابنته مجال التمثيل "خوفاً عليها من المشاهد الساخنة، والقبلات".
ونشر موقع مصري متخصص في الفن، قائمة بصور وأسماء الفنانات اللاتي رفضن القبلات في التمثيل.
التيك توك
على الجانب الآخر، كانت وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات بديلة للتعبير عن الذات، تتنشر وتتوسع، وتمنح أسقفاً للحرية وإغراءات بالشهرة كافية للدخول في مناطق اجتماعية محرمة.
دخلت الكاميرات الشقق، وغرف النوم، وصوّرت مشاهد رومانسية، وحميمية من قبلات وغيرها، إضافة إلى أن إيحاءات لفظية باتت لغة شائعة.
لم يعد السياق أو المغزى هدفاً في ذاته، بات "الترند" و"الشهرة" وربما "التمرد" و"الشعور بالحرية" هي العناصر المسيطرة على دوافع ومشاعر مبدعي المحتوى عبر تلك المنصات.
يرى الباحث في علم الاجتماع في جامعة "جورج ماسون" الأمريكية، محمد الجوهري أن تجاوز التابوهات المجتمعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام، والتيك توك تحديداً هو "نتيجة طبيعية لتغيير المجتمعات، خصوصاً المغلقة أو المكبوتة بفعل الكثير من الممارسات والعادات والتقاليد التي لم تعد تناسب العصر".
ويتابع الجوهري: "الطبيعي أن تشهد المجتمعات تغيرات كل فترة، وتتبنى بالتدريج أنماطاً من العلاقات أو الأساليب الحياتية كانت من أشد الرافضين لها".
على عكس ما قاله الشناوي عن السينما وخوف مبدعيها من المجتمع، يقول الجوهري أن "المشاهد التي نراها على التيك توك، والتي تعتبر صادمة لأجيالنا، ولكنها بالنسبة لما اعتدناه من سقف، وفي نظر الأجيال الشابة لم تعد رؤية القبلة مشهداً يفجع المراهق أو الطفل، ويضطر إلى أن يغمض عينيه كي لا يراه".
ويشير الجوهري إلى أن "ثقافة جيل "التيك توك" ستفرض نفسها عاجلاً أو آجلاً رافعة سقف الحريات في المجتمعات المحافظة، على الرغم من محاولات الدولة السيطرة على تلك المنصات والأنماط، وإخضاعها للمقصلة تحت مسمى قيم الأسرة".
في غضون ذلك، لا يخفي الجوهري حجم التحدي المضاعف الذي تضعه مثل تلك المنصات على الأسر، وعمليات التنشئة، خصوصاً في ظل ما تقدمه من مفاهيم زائفة عن الذات والآخرين، يقول: "من الخطورة أن يتم ترك مثل تلك المنصات دون توعية أو تأكيد على أن ما يقدّم عليها ليس الواقع، وإنما صور مجملة للواقع، وأن مشاهير التيك توك لا يتمتعون بوجه مثالي، وإنما يخضعون لعمليات فلترة إلكترونية، وأن قيمة الذات لا تأتي من عدد المتابعين ولكن من الأفعال الحقيقية في المجتمع".
"ثقافة جيل التيك توك ستفرض نفسها عاجلاً أو آجلاً رافعة سقف الحريات في المجتمعات المحافظة"
ويلفت إلى فارق ملحوظ بين مشاهدة المراهقين للتيك توك مقارنة بالسينما، وهو "التصنيف العمري"، الغائب عن تلك المنصات، ويراه حلاً جيداً لفلترة تلك المشاهد بحسب السن.
ويلفت الجوهري إلى ضرورة تخلي الأهالي والدولة عن فكرة المنع أو الرقابة، "لأنه سواءً كانت الدولة أو الأبوان أو أي سلطة أبوية تعتقد أنها قادرة على ممارسة سياستها القديمة في الحجب والمنع، ستفاجأ بمستوى أكبر من التمرد والحرية أو ما يعده البعض انحلالاً".
ويذكر أن فكرة "تيك توك" تعتمد على إنتاج فيديوهات قصيرة تشاركية، نشط فيها المراهقون في بداية ظهوره، ليسحب البساط تدريجياً من يوتيوب.
وفي تموز/ يوليو 2020 اعتقلت السلطات المصرية ناشطتين على خلفية بلاغ مقدم إلى النائب العام، يتهمهما فيه ببث محتوى يشكل جريمة عبر حسابيها.
وقد ألقت الشرطة في أيلول/ سبتمبر 2020 القبض على ياسمين الشهيرة بـ"كائن الهوهز" في الإسكندرية، بعدما اشتهرت بمقاطع جريئة، صنفت على أنها "تحريض على الفسق والفجور وممارسة الدعارة"، وحكم عليها لاحقاً بالسجن 3 سنوات، وغرامة مالية.
السينما vs التيك توك
يفسر الناقد الفني طارق الشناوي الفجوة بين رفض المجتمع أو رقابته على المحتوى السينمائي وتبنيه مفهوم "السينما النظيفة" رغم السياق الفني والهدف والرسالة، فيما يخرج من المجتمع ذاته محتوى يتجاوز كل ذلك دون هدف أو رسالة، قائلاً: "التيك توك يقوم على الترند، ولا يعنى هذا أنه خارج عن بعض الفئات أو أفراد المجتمع أن ينسب إلى المجتمع أو أن نقول إن المجتمع يرحب به، بل ثمة قدر كبير من التناقض بين قيم المجتمع أو ما يؤمن به في غالبيته أو ما يمارسه علنية، وبين ما يوجد على منصة التيك توك".
ويتابع: "وإن كان ذلك لا يخلو من التناقض الذي يتسم به المجتمع دائماً، فبينما يرفض المجتمع مشاهد حميمية أو ينتقدها في الأفلام العربية رغم توظيفها في سياق وبحدود معينة، نجده الأكثر إقبالاً على مشاهد المواقع الإباحية، أو الأكثر تفاعلاً ومشاهدة ومتابعة لما يُقدم على التيك توك، فثمة دائماً مفهومان، ما أنا عليه بالفعل أو مقبل على فعله في الخفاء، وما يرغب أو يتوقع المحيط والسياق المجتمعي مني أن أفعله".
ويتفق الشناوي مع الجوهري على أن السوشيال ميديا "ستفرض قوانينها، ولكن مع مرور الوقت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...