في التسعينيات، بدأت هوجة ما يعرف بـ "السينما النظيفة"، الخالية من مشاهد العري والإغراء، التي روجت لها الصحف ووسائل إعلام مختلفة، على أنها البديل الأنسب لسينما المقاولات التي رأوا فيها فساداً وإفساداً للمجتمع، خاصة بعد انتشار دور السينما التي يرتادها العائلات في المولات التجارية في القاهرة.
ولكن فكرة "السينما النظيفة" بعيدا عن المصطلح، تعود إلى أبناء الرعيل الأول للفن المصري، والتي عكست أفكار شرائح اجتماعية محافظة، تقدر "الرسالة الأخلاقية" في المسرح والسينما، أبرزهم حسين صدقي (1917-1976)، أكثر من أثار الجدل حوله، وحول توجهاته، وأطلق عليه لقب خطيب السينما وواعظها، والذي تمر ذكرى وفاته اليوم 16 فبراير.
تربية الأم الدينية
يرجع الكاتب والناقد الفني ماهر زهدي، في تصريحات لرصيف22، النزعة الدينية المحافظة في أعمال صدقي إلى طريقة تربية والدته، يقول: "لا شك أن السينما التي قدمها الراحل حسين صدقي، تأثرت بعدة عوامل، ربما أهمها نشأته الدينية الملتزمة، التي حرصت عليها والدته بعد الرحيل المبكر لوالده".
بالإضافة إلى النشأة، يأتي عامل آخر لا يقل أهمية، بحسب زهدي، وهو المجتمع نفسه، الذي كان يحكمه خلال هذه الفترة العديد من القيم والعادات والتقاليد المحافظة، وهو ما يتضح في أغلب الأفلام التي قُدمت خلال هذه المرحلة في الثلاثينيات والأربعينيات، ولم تكن قاصرة على أفلام حسين صدقي فقط.
"كان المجتمع المصري في الثلاثينيات والأربعينيات في بدايات حسين صدقي يمر بفترة مخاض، وصراع بين المحافظين والحداثيين، ولكن التنشئة الدينيةانعكست عليه في مختلف مراحل حياته"
دكتور محمد أمين عبد الصمد، المؤلف المسرحي والمشرف على مركز التراث الشعبي بالمركز القومي للمسرح، علق على تأثير البدايات أيضاً، وقال لرصيف22: "ولد حسين صدقي عام 1917، أي قبل ثورة 1919 بعامين فقط، ولكنه ترعرع في الفترة الليبرالية المصرية التالية لتلك الفترة، متأثراً بالتيارات المتعددة التي تموج بها الحياة المصرية حينئذٍ، وكانت فترة التنشئة الفيصل في اختياراته المستقبلية، حيث تولت والدته التركية الأصل تربيته وأخوته، فحرصت على تنشئتهم تنشئة دينية، وزرعت فيهم الالتزام بأداء الصلوات في المسجد وفي أوقاتها، كما دفعته وأخوته لحضور جلسات الذكر، وهي جلسات روحية خالصة تختلف كثيراً عن الصورة المنتشرة حالياً، التي يغلب عليها الجانب الاحتفالي والكرنفالي".
يشرح أمين أكثر الخلفية الاجتماعية لاختيارات صدقي: "المجتمع المصري في تلك الفترة كان يموج بالتيارات المتجاورة والمتوازية حتى ولو كانت تتضمن تعارضاً في مبادئها أو أدبياتها، إذ كانت فترة المخاض وقمة الصراع بين التقليديين المتمسكين بأنماط ماضوية ويحاولون استحضارها، وفريق ينظر إلى الواقع وموضع مصر فيه، وينادي بالحداثة في إطار بنيتها الفكرية ومنجزها التقني، وظلال تلك الفترة والتنشئة التي تربى عليها حسين صدقي، انعكست عليه في مختلف مراحل حياته وفي ممارسته لنشاطه الفني، وصاغت رؤيته للفن ودوره، وهو دور ينادي بأن الفن للمجتمع".
مسرح الريحاني
ويشير زهدي إلى عامل ثالث، لا يقل أهمية، وهو المسرح، يضيف: "أمر آخر مهم تأثر به صدقي، وأعنى بدايته في المسرح، الذي كان يسيطر عليه التزام داخلي كبير، حتى في نوعية الأعمال التي تُقدم من خلاله، بما في ذلك المسرح الكوميدي، الذي كان يقدمه علي الكسار أو نجيب الريحاني، بعيداً عن محتوى بعض المسرحيات الهزلية، فيما كان صدقي يتطلع إلى المسرح التراجيدي والميلودرامي والكلاسيكيات العالمية، الذي قدمه جورج أبيض ويوسف وهبي تحديداً، وربما هو ما جعله يلتحق في البداية بفرقة جورج أبيض، كما أنه شاهد العديد من مسرحيات يوسف وهبي خلال هذه الفترة وتأثر بها جداً، والأهم أنه تأثر أيضاً سينمائياً بشخصية يوسف وهبي نفسه وأدواره".
بعد تجربة مسرحية قصيرة للغاية، انتقل صدقي إلى السينما، محاولاً أن يغير فيها قدر المستطاع، فقد كان يرفض ما يشاهده بها من مشاهد جريئة وقبلات ومايوهات.
شلتوت وقطب وحسن البنا
ارتبط اسم حسين صدقي بنجوم الدعوة الدينية في الخمسينيات، من شيخ الأزهر محمود شلتوت، مرورا بسيد قطب، ومن قبله حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين.
يعلق عبدالصمد: "كان حسين صدقي ككل أبناء جيله، متعاملاً مع مختلف التيارات الموجودة، حتى في علاقته بحسن البنا والتي لا تتعدى شهوراً، وهى علاقة مشابهة لعلاقة كثيرين بهذه الشخصية التي كانت تملأ مصر حضوراً، سواء بالاتفاق معها أو الاختلاف، فلا يعتد باللقاء أو العلاقة لإثبات الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، أو مصر الفتاة، أو غيرها من الجماعات والجمعيات النشطة في تلك الفترة، وخاصة أن البعض كان يتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين على أنها جماعة إصلاحية دعوية، تأخذ من إحياء فهم معين للحياة بمرجعية إسلامية، وهو عنوان يجمع حوله الملتزمين والمتدينين وأصحاب التنشئة المحافظة مثل حسين صدقي".
ارتبط اسم حسين صدقي بنجوم الدعوة الدينية في الخمسينيات، من شيخ الأزهر محمود شلتوت، مرورا بسيد قطب، ومن قبله حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين
"في تلك الفترة، والتي شهدت بداية الفترة الناصرية في الخمسينيات، كان سيد قطب، أحد أبرز دعاة الإخوان المتشددين، يقدم نفسه من أنصار ثورة يوليو 1952، ومرشداً لمجلس قيادتها، وتطرف في ذلك حتى أنه صاحب الدعوة لإعدام خميس والبقري، العاملين اللذين دعيا إلى إضراب للعمال للمطالبة بحقوقهم، ثم انقلب على الثورة ومجلسها عندما تبين له أن الدور الذي يتخيله لنفسه غير موجود على أرض الواقع، وأعتقد أن العلاقة الأقوى تأثيراً في حسين صدقي هي علاقته ببعض مشايخ الأزهر، ومنهم الشيخ محمود شلتوت، وهو بعيد عن الإخوان ومبادئهم، وكذلك علاقته بالشيخ عبد الحليم محمود، وهو أحد مشايخ الأزهر المتصوفة".
ويضيف عبد الصمد: "دخل صدقي المجال الفني بفيلمه الأول 'تيتا وونج'، وهو وريث من أسرة ميسورة إن لم تكن ثرية، واستمر في هذا الحال الذي أمَّنه من التنازل في اختياراته أو الميل عن رؤيته".
"ليست سينما نظيفة"
إيمان حسين صدقي بأن هناك رابطاً قوياً بين الدين والسينما، وأن دور الفنان الأبرز والأهم أن يوظف السينما لخدمة الدين وإصلاح المجتمع، دفع البعض إلى اعتبار الأفلام التي شارك فيها تمثل "السينما النظيفة" في بواكيرها.
ولكن ماهر زهدي يرفض إطلاق هذا المصطلح على أعماله، يقول: "بالنسبة لمصطلح 'السينما النظيفة' فأنا لا أميل إلى هذا المصطلح، الذي للمفارقة نجد أنه صاحب أيضاً ظهور نجوم ونجمات نهاية التسعينيات مثل محمد هنيدي، محمد سعد، أحمد السقا، أحمد حلمي، كريم عبد العزيز، منى زكي، حنان ترك، ياسمين عبد العزيز وغيرهم، حيث أطلق بعضهم هذا المصطلح لمجرد أن أفلامهم لا تحتوي على قبلة، أو مشاهد عري وإغراء، لكن في النهاية لا يوجد سينما نظيفة وسينما غير نظيفة".
يقول زهدي: "هذه السينما التي أطلقوا عليها 'السينما النظيفة' كانت سمة لعدد كبير من نجوم الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وكانت موجودة جنباً إلى جنب مع الأفلام التي كانت تحتوي على قبلات ورقص واستعراضات ومشاهد إغراء، وإن كان حسين صدقي نفسه شارك في عدد كبير من الأفلام التي تحتوي على الرقص والغناء والاستعراضات والإغراء، بداية من أول أفلامه 'تيتا وونج'، ثم 'الحب المورستاني'، بل وشارك في بطولة فيلم 'ليالي القاهرة'، الذي قامت ببطولته بديعة مصابني، أشهر راقصة في مصر آنذاك، ومعهما تحية كاريوكا، كما شارك ليلى مراد عدداً كبيراً من الأفلام، بل وقدم الأفلام الكوميدية، مثل 'العريس الخامس، الحظ السعيد، شاطئ الغرام، البيت السعيد'، غير أنه كان على قناعة منذ بدايته برسالة الفن، التي كان يؤمن بها أغلب من هم في الوسط الفني خلال هذه المرحلة، وهي أن يكون الفن في خدمة المجتمع وقضاياه. وهذا الكلام يرد بالفعل على مقولة أنه كان يخدم جماعة الإخوان بأفلام، بل كان يهدف إلى إصلاح المجتمع بشكل عام".
وأشارت الكاتبة ناهد صلاح في كتابها "المتلزم" إلى أنّ صدقي لم يختر بداياته أو الشكل الذي سيكون عليه لاحقاً، فقد رأت الممثلة والمنتجة أمينة محمد في الفنان الشاب نموذجاً للإنسان الملتزم، وهو ما قررت أن تظهره على الشاشة من خلال شخصية المحامي، وهي نفس الشخصية التي سيقدمها بعد في فيلم "الدفاع" مع يوسف وهبي، بعد النجاح غير المتوقع لفيلم "تيتا وونج"، لتتوالى البطولات على النجم الشاب.
"نجح صدقي في تحقيق ما يحلم به، وتفاعل معه الجمهور، ومنحه النقاد ألقاب مثل خطيب السينما".
وفي الفصل الخامس من الكتاب أكدت ناهد، أن صدقي نجح في تحقيق ما كان يحلم به ووجد الصدى قوياً لدى الجمهور الذى منحه مع النقاد الكثير من الألقاب، لعل أبرزها "خطيب السينما" و"واعظ السينما"، وتفاعل الجمهور مع نوعية أفلامه، رغم الخطابية والمباشرة التي سيطرت عليها، لتحث الناس على التمسك بالقيم والأخلاق وخدمة المجتمع لبنائه، بدلاً من هدمه بأفكار مغلوطة، وكان صدقي حريصاً على أن يظهر في كل أدواره بصورة الشاب الطيب، أو الزوج الصالح، أو الفقير المكافح، وهى التنويعات التي لعب عليها لتمرير قناعاته وتصوره لبناء يوتوبيا، مستعيناً بآيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، لترسيخ الفكرة.
أوصى بحرق أفلامه
تروي ناهد صلاح في كتابها أيضاً أن خالد نجل حسين صدقي، قال إنه استفتى الشيخ الشعراوي في مسألة حرق أفلام والده، غير أن الشعراوي رفض، مؤكداً أنها تضم موضوعات هامة وجادة وليس بها ما يعيب، غير أن أشقاء خالد وبتشجيع من والدتهم، كانوا قد أنجزوا المهمة فعلاً بحرق 14 فيلماً من إنتاج والدهم وهي "طريق الشوك، ليلة القدر، آدم وحواء، يسقط الاستعمار، العامل، الأبرياء، معركة الحياة، الحظ السعيد، البيت السعيد، الجيل الجديد، نحو المجد، المصري أفندي، وطني وحبي وأنا العدالة".
وإلى جانب وصيته المثيرة للجدل، يروي دكتور أمين عبد الصمد لرصيف22 أنّ حسين صدقي هو صاحب أطرف طلب فتوى تم تقديمه لدار الإفتاء المصرية، إذ كان يقوم بتصوير أحد الأفلام في نهار رمضان وهو صائم، وطلب منه المخرج في أحد المشاهد أن يقبل الممثلة مديحة يسري، فرفض بحجة أنه صائم، فأرسل عاطف سالم مخرج الفيلم سؤالاً لدار الإفتاء المصرية يستفتيها، هل يجوز أن يقبل الممثل ممثلة في أحد المشاهد السينمائية في نهار رمضان؟ فجاء رد دار الإفتاء بأن القبلة، سواء كانت تمثيلية أو غير تمثيلية، حرام في رمضان أو في غير رمضان، ونشرت هذه الواقعة في مجلة آخر ساعة وقتها عام 1949، والطريف أن حسين صدقي بعد هذه الفتوى قام بتصوير المشهد وقبل الممثلة وهو صائم، بحسب عبد الصمد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع