عند نهاية الجسر الفاصل بين منطقتي الشميساني والعبدلي، في العاصمة الأردنية عمّان، وبعد الإشارة الضوئية الأولى بنحو مئتي متر، يلمح المارة، على الجانب الأيمن من الطريق، رجلاً يلوّح بيده على مرأى كل مارّ من أمامه. تلحظ أنه ينادي شيئاً، لكنك لا تسمعه جيداً، إلى أن تعطيك الإشارة الضوء الأخضر، وتقترب منه، فتسمع: "شام؟".
هذا الصوت، وهذه العبارة، ليسا غريبين على الأردنيين عموماً، وعلى من يقصد منطقة العبدلي خصوصاً، وهي كانت طوال عمر العلاقة "العمّانية الشامية"، محطة انطلاق طريق زيارة أردنيين إلى سوريا، إذ تعمل مكاتب السفر هناك، منذ ستينيات القرن الماضي، ويملأ صوت "شام يا عمّان"، أرجاء المنطقة، على الرغم من أنه خفت، واختفى، طوال عشرة أعوام، هي عمر الأزمة السورية.
وفي نهاية أيلول/ سبتمبر الفائت، أعيد فتح الحدود البرية الأردنية السورية، من مركز حدود جابر-نصيب، بعد قرارات أمنية باستئناف حركة الأردنيين إلى سوريا، مع عدم الحاجة إلى أخذ موافقة من وزارة الداخلية، كما كان عليه الأمر قبل ثلاثة أعوام، عندما كانت أول عودة لفتح الحدود بين البلدين، بعد إغلاقها إثر اندلاع الحرب.
يلوّح السائق عبد الحليم أبو زعرور للمارة، ولنا أيضاً، بعبارته تلك، وقال لنا على عجل، خوفاً من أن يلهيه الحديث عن استقطاب أي زبون/ ة محتمل/ ة: "أنا فرحان. الحمد لله رجعت فتحت الحدود"، وأشار بيده إلى امرأة جالسة داخل المكتب الذي يعمل فيه: "اطلعي جوّا... اطلعي جوّا"، لينهي حديثه العاجل معنا، ويعود لينادي: "شام؟".
يلوّح السائق عبد الحليم أبو زعرور للمارة في منطقة العبدلي بعمّان، ويقول: "أنا فرحان. الحمد لله رجعت فتحت الحدود".
"لم أرَ أمي منذ 11 عاماً"
داخل مكتب السفريات، وعلى حافة مقعد كبير، تجلس خلف انعكاس أشعة الشمس التي غطت جزءاً واسعاً من المكان، سيدة تطلّ برأسها ونظرها إلى الخارج، لتتأكد من وجود السائق، وإلى جانبه السيارة التي كُتب عليها: "عمّان-الشام". تطلق تنهيدة تململ من الانتظار، وهي تضع يداً فوق يد، وإلى جانبها حقيبة سفر متوسطة الحجم. سألناها: "رايحة على الشام؟"، وأجابت بالشامي: "إيه الحمد إلك يا رب".
تُدعى تلك السيدة الأربعينية بهرستان كامل حسن، وهي من مدينة الرقة السورية، ومتزوجة من أردني، وتعيش في الأردن منذ سنوات طويلة. تقول على عجل، وعين علينا والأخرى على السيارة، إنها ستزور والدتها التي تعيش مع أختها في دمشق.
"إلي 11 سنة ما شفت إمي، لما سمعت خبر فتح الحدود شعرت إنه الدنيا كلها إلي"، قالت السيدة التي "صبرت كثيراً"، حسب قولها، من أجل فتح حد فاصل بينها، وبين أهلها، بعد إغلاقه 11 سنة "راحوا من عمرها".
سيدة سورية بانتظار السيارة التي ستقلها من عمّان إلى دمشق - تصوير غادة الشيخ
وتعود، وتطيّب خاطر نفسها بنفسها، وتقول: "لا يهم. المهم إني سأشم رائحة الشام، وهي أكثر ما اشتقت إليه. صح بيتنا انهدم، بس رح أزوره، وأحضن ترابه"؛ قالتها، وهي تحضن نفسها، وأضافت متسائلةً: "بتعرفي قدم العسالي؟ بيتنا كان هناك".
سألنا بهرستان عن أول ما ستقوم به، فور وصولها إلى دمشق، فأجابت وهي تبكي: "سأبكي. اشتقت إليها كثيراً، ما في مثل الشام"، وأكملت ضاحكةً: "رح آكل بوظة من سوق الحميدية، وأشرب سحلب"، ولم تكمل عبارتها، وهي تشرح عن مدى سعادتها عند سماع خبر فتح الحدود، حتى ناداها السائق. ركضت بسرعة، وركبت السيارة، وودّعتنا بقبلة "على الطاير".
حركة "متواضعة"
تحدثنا مع سلطان عواملة، وهو صاحب مكتب السفريات، وبيّن أن الحركة، منذ إعلان قرار فتح الحدود بين البلدين، لا تزال متواضعة، "لكن التعويل من واقع تجارب الماضي على أن تزداد في نهايات الأسابيع، فنهاية الأسبوع الأردنية اعتادت، طوال عقود، على أن تكون بصمتها سورية"، يضيف.
وفي مكتب سفريات مجاور، تحدثنا مع السائق هيثم شحادة، الذي أكد على ملاحظة العواملة بأن الحركة ما تزال ضعيفة، لكن هذا لا يعني أنها ستبقى على هذا الحال، فسوريا هي "رئة الأردنيين"، حسب وصفه، ويكثر الأوكسجين فيها مع نهاية كل أسبوع.
وعن أهداف الأردنيين من زيارة دمشق، يقول شحادة: "هناك من تذهب مع ابنتها لتجهيزات العروس، أو تجهيزات الحفيد الأول، أو حتى لشراء الأقمشة والملابس. يا بنت الحلال في أردنيين بيسافروا على سوريا، عشان يشتروا جوافة!"، ويضيف موضحاً أنه أبرز مثالاً على الزيارات الأردنية لسوريا التي تستغرق يوماً واحداً فقط، لغايات منها شراء الفواكه، والخضراوات السورية الشهيرة بجودتها وأسعارها المقبولة.
"الحركة، منذ إعلان قرار فتح الحدود بين البلدين، لا تزال متواضعة، لكن التعويل من واقع تجارب الماضي على أن تزداد في نهايات الأسابيع، فنهاية الأسبوع الأردنية اعتادت، طوال عقود، على أن تكون بصمتها سورية"
ويؤكد السائق محمود عاكف، على حديث زميله شحادة، ويقول، وعينه على الباحثين عن سيارة منطلقة إلى دمشق: "للشام وشعبها خصوصية عند الأردنيين. شعب يشبهنا ونشبهه في اللغة، واللهجة، والعادات، والتقاليد. يكفي لسانهم الحلو"، مرجعاً سبب حب الأردنيين لزيارة سوريا ليس إلى جمالية الأماكن فيها فحسب، بل إلى الشعب الذي يجعل الزائر "غصباً عنه" يحب أن يزور هذا البلد، على قاعدة المثل الشعبي: "لاقيني ولا تغديني".
ويستذكر محمود مواقف طريفة حدثت معه أكثر من مرة: "في رجال بيزوروا سوريا لشراء حمضيات وفواكه، لأن زوجاتهم الحوامل توحموا عليها!".
تبضع وسياحة علاجية
وفي حديث لرصيف22، كشف مدير مركز حدود جابر، العقيد مؤيد الزعبي، أنه لم يتم بعد، حصر أعداد الأردنيين الذين زاروا سوريا عبر الحدود البرية، لكن "المؤشرات تشي بأن هناك إقبالاً متزايداً، ويُتوقَّع أن يرتفع في الفترة القادمة، خاصةً في نهايات الأسابيع"، وأكد على توقعه بقوله: "فتح الحدود مع سوريا، هو عودة متنفسٍ إلى الأردنيين".
"في رجال بيزوروا سوريا لشراء حمضيات وفواكه، لأن زوجاتهم الحوامل توحموا عليها!"
وحسب حديث أحد أعضاء صفحة "الطريق من دمشق إلى بيروت"، لرصيف22، ينقسم الأردنيون الذين يزورون سوريا الآن إلى فئات عدة: "الأولى، وهي الأعلى، فئة من تربطهم صلات القرابة والنسب، والثانية للنساء السوريات المتزوجات من أردنيين، أو العكس، والذين كانوا ينتظرون الموافقة لزيارة سوريا من دون قيود".
أما الفئة الثالثة، وهي مستجدة، لكنها ملاحَظة جداً، فتتمثل في الراغبين في السياحة العلاجية، فهناك حجوزات كبيرة من الأردن في عيادات التجميل في سوريا، نظراً إلى انخفاض الكلفة فيها كثيراً عن أي بلد آخر، والفئة الرابعة هي الطلاب الجامعيون، سواء من الجانب الأردني، أو من الشباب السوريين الراغبين في الدراسة الجامعية في الأردن.
وختم المتحدث الذي فضل عدم ذكر اسمه بالقول: "هذا الطبيعي في علاقة الشعبين الأردني والسوري، فالأردني له خالة في سوريا، والسوري له خالة في الأردن".
السيارات التي تقل المسافرين من عمّان إلى دمشق - تصوير غادة الشيخ
"هل ستزور سوريا قريباً"؟
أثار قرار إعادة فتح الحدود مشاعر من الفرح لدى العديد من سكان عمّان، الذين كثيراً ما كانوا يقصدون دمشق، ولو في زيارات قصيرة ومن دون تخطيط مسبق، نظراً لقرب المسافة التي لا يستغرق قطعها أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة.
حسن عودة (35 عاماً)، كان معتاداً على ذلك، فكان "يدق سلف، ويدعس بنزين"، متوجهاً إلى الشام، وهو تعبير متداول يعني تشغيل السيارة، والانطلاق من دون تخطيط مسبق. يقول: "أغلب زياراتي إلى سوريا، أنا وأصدقائي، كانت عفويةً، تجديننا سهرانين في عمّان وفجأة نقرر، يلّا إلى الشام؟ وفعلاً نذهب إلى الشام، ونقضي يوماً أو يومين، ثم نعود إلى عمّان".
"هل تفكر الآن في زيارة سوريا؟"، يقول حسن: "بكل تأكيد، سأزور الشام قريباً. اشتقت إلى الكثير من الشوارع فيها، مثل شارع العابد، والصالحية، ومكتبة نوبل التي أغلقت أبوابها مؤخراً. اشتقت إلى أن أشرب كوكتيل أبي شاكر! كل تفصيلة في الشام تجعلك تتعلقين بها. هو تعلق عاطفي بامتياز لا يعرف سرّه سوى من زار سوريا".
"عندما كنا نحرز نتائج ممتازة في امتحانات نهاية العام الدراسي، كان أبي يكافئنا، أنا وإخوتي، بزيارة الشام بسيارته. تلك المكافأة زرعت في داخلي حقيقة أن مصدر بهجتي وفرحي هو سوريا. كبرت، وكبرت هذه الحقيقة معي"، تقول ميسون عليمات (32 عاماً)، وتضيف أنها كانت على الدوام متفائلةً بقرب عودة زيارتها هذا البلد الذي تحبه، على الرغم من أن المؤشرات كلها كانت تقول عكس ذلك، في الأعوام العشرة الأخيرة.
"بكل تأكيد، سأزور الشام قريباً. اشتقت إلى الكثير من الشوارع فيها، مثل شارع العابد، والصالحية، ومكتبة نوبل التي أغلقت أبوابها مؤخراً. اشتقت إلى أن أشرب كوكتيل أبي شاكر! كل تفصيلة في الشام تجعلك تتعلقين بها. هو تعلق عاطفي بامتياز لا يعرف سرّه سوى من زار سوريا"
"سهرة رأس السنة في سوريا... ما في مجال للنقاش"، تقول سعيدة، وتضيف أن عبارتها هذه التي كانت ترددها طوال السنوات السابقة مع بداية كل شتاء، ستتحقق هذا العام.
مؤيد ومعارض وخائف
هذه الآراء كلها، لا تلغي الانقسام في الرأي بين الأردنيين، حول القرار الأخير بفتح الحدود، فهناك فئة ترى أن من سيزور الشام اليوم، في عهد الأسد، هو بمثابة خائن لدماء الشهداء السوريين، والأمر نفسه تكرر في زيارات وفود أردنية دمشق في السنوات السابقة، والتي وصفتها أصوات منددة بها، بأنها "وفود العار".
وبين المؤيد، والمعارض لزيارة سوريا في هذا الوقت، هناك صوت "خائف" من هذه الزيارة، وأغلبية هذه الأصوات هي صاحبة المواقف "المحايدة" في الشأن السوري. "على الرغم من هذا الحياد، ما بتعرفي شو بصير معنا بس نوصل"، حسب ما قاله صحافي أردني فضّل عدم ذكر اسمه، وهي واحدة من دلالات هذا الخوف.
"أفكر جدّياً في زيارة سوريا قريباً، وأخطط لاصطحاب ابنتي ذات الأعوام الخمسة، حتى أعرّفها إلى الشام التي اعتدت على زيارتها منذ أن كنت في عمرها"، يضيف الصحافي.
لكن مع ذلك، "ما بتعرفي شو ممكن يصير بس نوصل الحدود"، عاد وكرر، عادّاً أن عمله كصحافي، في حد ذاته حوله علامات استفهام لدى الجانب الأمني السوري، والمخاطرة من أجل زيارة سوريا، كما يقول، تحتاج إلى أن "أعد للمليون، وأتأكد من سلامة رحلتي إلى هناك".
وبيّن أنه منذ بداية الأحداث في سوريا، اتّخذ موقفاً محايداً، لكن "الصحيفة التي أعمل فيها، تتميز بتنوع كتاب المقالات، ومنهم من كانت له مواقف معادية للنظام السوري، ولا أستبعد أن يكونوا سبباً يشكل خطراً عليّ، إذا ما زرت سوريا"، يختم حديثه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...