في مركز تسوق يقع على الطريق الواصل بين العاصمة السورية دمشق ومحافظة درعا جنوب البلاد، تزدحم محال بيع الألبسة والمواد الغذائية بعد ظهر يوم الجمعة بالمتسوقين القادمين من مختلف أنحاء دمشق. نساء ورجال وأطفال يتجولون في الطوابق الأربعة للمركز باحثين عن مبتغاهم، ومحاولين الحصول على ما يحتاجون بأقل الأسعار الممكنة.
لكن الأسابيع الأخيرة في مجمع "التاون سنتر" لا تبدو شبيهة بما سبقها، حيث يمكن للزوار سماع اللهجة الأردنية التي يتحدث بها بعض القادمين من الاتجاه المعاكس: الجارة الجنوبية لسوريا والتي فُتحت الحدود البرية معها شهر أكتوبر الفائت بعد إغلاق دام حوالي ثلاث سنوات نتيجة احتدام المعارك على الشريط الحدودي وقرب المعبر البري الوحيد الفاصل بين البلدين.
وبين ساعات الظهر والعصر وصولاً لما بعد مغيب الشمس، لا تجد فاطمة وهي موظفة في المتجر المخصص لبيع المواد الغذائية ضمن "التاون سنتر" وقتاً للراحة، فهي أشد ساعات النهار ازدحاماً بالمتسوقين.
وتقول الفتاة العشرينية إنها لاحظت قدوم العديد من العائلات الأردنية للتسوق في أيام الجمع الماضية على وجه الخصوص، معللة ذلك برغبة الأردنيين بزيارة سوريا بعد طول انقطاع، وأيضاً الاستفادة من انخفاض أسعار المواد الغذائية وغيرها من السلع في سوريا مقارنة بنظيرتها في الأردن.
"لا يمكنني القول بأن السياح الأردنيين باتوا ظاهرة في دمشق، لكنها المرة الأولى التي نراهم هنا منذ سنوات، ولعلّهم يقصدون مركز التسوق هذا لقربه النسبي من درعا، خاصة أولئك الذين يفضلون القدوم والعودة إلى الأردن في نفس اليوم دون الوصول إلى دمشق بالضرورة"، تضيف الفتاة التي طلبت ذكر اسمها الأول فقط.
آلاف الوافدين
صباح الخامس عشر من أكتوبر الفائت، أعلنت الحكومتان السورية والأردنية إعادة تشغيل معبر نصيب/جابر الحدودي البري والذي توقفت حركة المرور والتجارة عبره لما يقارب ثلاث سنوات مع وقوعه في ريف درعا الجنوبي، واحدة من أكثر المناطق السورية سخونة خلال سنوات الحرب، والتي انتهت المعارك فيها في شهر يوليو الماضي. ويعتبر المعبر شرياناً بالغ الأهمية للاقتصاد السوري، فهو نقطة الوصل البرية الوحيدة بين سوريا والأردن، وتتدفق عبره بشكل يومي شتى أنواع البضائع بين البلدين مما يشكل منفذاً مثالياً للمنتجات السورية وأيضاً اللبنانية إلى أسواق الأردن والعراق والخليج، كما أنه الطريق الأكثر سهولة والأقل تكلفة للقدوم من عمان إلى دمشق ومنها إلى باقي المحافظات السورية سواء بغرض السياحة أو العمل أو الزيارة.الأردن يحتل المرتبة الأولى بين الدول التي يفد مواطنوها إلى سوريا حيث بلغ عدد السياح لهذا العام من الأردن تسعمائة ألف سائح.
استنكر البعض السياحة في بلد لم تجف دماء الضحايا فيه بعد وعبر عن ذلك بقوله "نعم الأسعار في سوريا رخيصة لكن رائحة الرصاص والدم لا زالت عابقة في أرجاء البلاد"ونتيجة إغلاق هذا المعبر وغيره من المعابر الحدودية بسبب المعارك التي شهدتها سوريا على مدار حوالي سبع سنوات، انخفضت الصادرات السورية بما لا يقل عن 90 بالمئة وفق تقارير صادرة عن البنك الدولي، في مؤشر على تأثير هذه الطرق البرية على الاقتصاد السوري بمختلف قطاعاته، حيث شكّل الاعتماد على الطرق البحرية بديلاً تجارياً أكثر تكلفة وأطول من حيث المدة الزمنية. وبعد حوالي شهر من إعادة العمل بمعبر نصيب، سُجل عبور مئات الأطنان من مختلف أنواع البضائع وبشكل يومي من سوريا إلى الأردن بغرض التجارة، كما أعلنت دائرة الهجرة والجوازات السورية قدوم أكثر من 50 ألف شخص عبره إلى سوريا، منهم حوالي 13 ألف سوري قرروا العودة بشكل نهائي للاستقرار في البلاد. ويُظهر مقطع فيديو نشرته وكالة سانا السورية الرسمية للأنباء توافد عشرات السيارة بشكل يومي عبر المعبر وهي تحمل سوريين عائدين بغرض الإقامة الدائمة أو الزيارة، إضافة لأردنيين قادمين بهدف الزيارة والسياحة، مدفوعين على الأغلب بالرغبة في استكشاف هذا البلد الخارج من الحرب، وأيضاً تفاوت الأسعار بين البلدين، حيث تنخفض أسعار الكثير من البضائع والخدمات في سوريا عن مثيلاتها في الأردن للنصف أو أكثر. https://www.youtube.com/watch?time_continue=12&v=CsTkAdkaGdQ ومن الجدير بالذكر أن الأردن كانت على رأس قائمة الدول المصدّرة للسياح إلى سوريا قبل العام 2011. على سبيل المثال تشير تصريحات صادرة عن وزير السياحة السوري سعد الله آغا القلعة عام 2008 إلى أن "الأردن يحتل المرتبة الأولى بين الدول التي يفد مواطنوها إلى سوريا حيث بلغ عدد السياح لهذا العام من الأردن تسعمائة ألف سائح".
حكايات مختلفة
بعد أيام من افتتاح معبر نصيب، بدأت الشركات السياحية الأردنية بالإعلان عن تنظيم رحلات سياحية من عمان نحو دمشق. ولتشجيع الأردنيين على السياحة في بلد لم تنتهِ الحرب فيه بعد، حرصت تلك الشركات على الابتكار في إعلاناتها لجذب السياح المحتملين. شركة SunDays Travel & Tourism، وبعد يوم واحد فقط من عودة العمل بالمعبر، أعلنت عن أولى الرحلات إلى دمشق وبتكلفة 45 دينار أردني (أي ما يقارب 63 دولار أمريكي).لا تكون أبو بدر. كون أبو شهاب وتغدّى بالشامواختارت الشركة صور شخصيات المسلسل السوري "باب الحارة" الذي يتحدث بمجمله عن بطولات أهل دمشق في مقارعة الاستعمار، للإعلان عن رحلاتها مع عبارة "ورجعت أيامك يا شام". يظهر في أحد الإعلانات "أبو بدر" أحد أبطال المسلسل والمعروف بشخصيته الضعيفة إلى جانب أبو شهاب، أحد أقوى وأشجع الرجال في "الحارة"، مع جملة "لا تكون أبو بدر. كون أبو شهاب وتغدّى بالشام"، وكأن مصمم الإعلان يعلم بالمخاوف التي قد تعتري أهل الأردن من زيارة سوريا مروراً بدرعا، المكان الذي انطلقت منه شرارة الأحداث في البلاد. وللمزيد من التشجيع نشرت الشركة خلال الأيام اللاحقة مقاطع فيديو تظهر السياح وهم يتحدثون بارتياح عما شاهدوه وعاينوه في مختلف مراحل الرحلة من معالم أثرية وأماكن سياحية.
من الأجدى إعادة السوريين لبلادهم والعمل على إنعاش الاقتصاد الأردني المتضرر من اللجوء السوري قبل الحديث عن سياحة إلى دمشق.شركات أخرى مثل "رمال للسياحة والسفر" آثرت عرض صور لمناطق سياحية مختلفة من دمشق وريفها، مع برامج لزيارة المدينة وغيرها من المناطق السياحية في محيطها مثل الزبداني وبلودان ونبع بقين وصيدنايا وغيرها، وتتراوح الأسعار بين 29 و79 دينار وفق برنامج الرحلة المختار. شركة "قف Stop" بدورها عرضت برامجها السياحية إلى دمشق وريفها تحت عنوان "راجعين يا شام راجعين، يا زهرة الياسمين". المصور الأردني أحمد أبو الرب هو أحد من سافروا في تلك الرحلات من عمان إلى دمشق، حيث مكث لمدة ليلتين في أحد الفنادق بشارع الثورة وسط المدينة. "الشغف بصناعة المحتوى وخاصة محتوى السفر هو ما دفعني للقدوم إلى دمشق رغم بعض المخاوف التي كانت تعتريني بشكل خاص من عنصرية قد أتعرض لها من بعض السوريين هناك، ورغم تحذيرات بعض معارفي واتهامي بأنني شخص مجنون"، يقول أبو الرب (21 عاماً) في حديث لرصيف22. كانت الزيارة مفاجئة بعض الشيء للشاب الأردني، حيث وجد دمشق "جميلة ونابضة بالحياة"، ولدى عودته شارك على قناته عبر يوتيوب تفاصيل رحلته وما رآه فيها من دمار وحزن، وحياة وجمال في الوقت ذاته. ويضيف أبو الرب أن هذا الطريق البري يشهد كل يوم قدوم وعودة مئات الأردنيين ممن يشترون بضائع من سوريا بأسعار زهيدة، إما بهدف الاستعمال الشخصي أو بهدف التجارة في الأردن. لبعض الأردنيين آراء مختلفة إزاء كل ذلك. في تعليقات على إعلانات الرحلات من عمان إلى دمشق، استنكر البعض السياحة في بلد لم تجف دماء الضحايا فيه بعد وعبر عن ذلك بقوله "نعم الأسعار في سوريا رخيصة لكن رائحة الرصاص والدم لا زالت عابقة في أرجاء البلاد"، وآخرون رأوا بأنه "من الأجدى إعادة السوريين لبلادهم والعمل على إنعاش الاقتصاد الأردني المتضرر من اللجوء السوري قبل الحديث عن سياحة إلى دمشق". المصور أبو الرب بدوره تلقى عشرات الآراء المختلفة على ما نشره حول زيارته. البعض قابله بعبارات مديح وآخرون انهالوا عليه بالشتائم والكلمات العنصرية، ولكل منهم رأيه الخاص. "عاشت دمشق وسوريا جميلة معافاة. سوريا تمرض لكن لا تموت". "السوريون أفضل شعب في العالم والحكومة السورية أفضل حكومة عربية". "لمَ لا تذهب لرؤية الدمار في محافظات أخرى؟". "سوريا أخطر بلد في العالم وأنت تدعي عكس ذلك".
ماذا عن السوريين؟
لم تخل الأسابيع الفائتة من بعض الانعكاسات على مظاهر اقتصادية معينة داخل دمشق نتيجة قدوم السياح الأردنيين، وحي الميدان جنوب المدينة مثال واضح على ذلك. لا يمر يوم دون أن تستقبل محال ومطاعم سوق الجزماتية في الميدان سياحاً قادمين من الأردن وقاصدين هذا السوق بالذات، وهو معروف بصناعة الحلويات الشرقية وبالمطاعم التي تقدم الأطعمة الدمشقية التقليدية. ويشير ياسين –وهو صاحب أحد هذه المطاعم- إلى أن حركة السوق انتعشت بشكل نسبي خلال الأسابيع الفائتة مع قدوم العائلات الأردنية التي تهتم بشكل خاص بارتياد المطاعم الشامية وتذوق مأكولاتها. لكنه يأمل –كما يقول في حديثه لرصيف22- بقدوم عدد أكبر في الشهر القادم، حيث يتوقع امتناع كثيرين عن السفر لسوريا نتيجة تخوفات من الأوضاع الأمنية فيها. "الحرب بالكاد انتهت هنا، ونحتاج وقتاً لترميم آثارها واستعادة عافيتنا".كيلو البطاطا ارتفع من 200 ليرة وصار 500 ليرة. شو بيهمني بالأردنيين إذا راحوا ولا أجوا؟ المهم نعيش لآخر الشهربدوره يتحدث أحد العاملين في محال بيع المواد الغذائية في الحي عن "أعداد كبيرة من الأردنيين الذين يقبِلون على شراء كافة أنواع البضائع من سوريا ويملأون مختلف أسواقها خاصة تلك التي تبيع بالجملة". ويضيف الشاب الذي طلب عدم ذكر اسمه "تشكّل دمشق بالنسبة للأردنيين وجهة للتسوق وأيضاً السياحة. كل ساعة تقريباً نرى سيارة قادمة بزوار من الأردن، وهم يحبّون هذا الشارع بالذات لطابعه الدمشقي التراثي". هذه الآمال بالانتعاش الاقتصادي تقابلها مخاوف لدى بعض السوريين. خلال الأسابيع الفائتة شهدت أسواق دمشق ارتفاعاً تدريجياً لأسعار بعض المواد الغذائية وعلى وجه الخصوص الخضراوات، كما انخفض سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي بمقدار 40 ليرة تقريباً، ليصل اليوم إلى 500 ليرة لكل دولار. ومن المبكر الحديث عن أثر مباشر لقدوم الأردنيين إلى سوريا على مختلف جوانب الاقتصاد السوري. لا تصريحات رسمية بعد بشأن هذا الخصوص سوى نفي هذا الارتباط بين الأمرين، ولا همّ للسوريين سوى تدبير قوت يومهم. "كيلو البطاطا ارتفع من 200 ليرة وصار 500 ليرة. شو بيهمني بالأردنيين إذا راحوا ولا أجوا؟ المهم نعيش لآخر الشهر"، تقول إحدى ربات المنازل وهي تشتري حاجيات منزلها من أحد أسواق دمشق الشعبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...