على مدار ثماني ساعات يومياً، تنشغل لجين سعد الدين وهي إحدى خبيرات التجميل في مركز متخصص وسط العاصمة السورية دمشق، بالعناية بعشرات السيدات اللواتي يقصدنها بحثاً عن شكل جديد أكثر حيوية وجمالاً ونضارة، باستخدام تقنيات كالبوتكس والفيلر والبلازما وغيرها.
وبين جلسة تجميلية وأخرى، تنهمك سعد الدين (43 عاماً) بالرد على المكالمات الهاتفية وتسجيل المواعيد الجديدة. تحفظ أسماء وطلبات واهتمامات زبونات مركز "لا بيرلا"، وبالكاد تجد وقتاً لتدخين سيجارة والحصول على بعض الراحة مع ازدياد ضغط العمل يوماً بعد آخر.
"هي ثورة تجميل ما نشهده في سوريا اليوم"، تقول الخبيرة في حديث مع رصيف22 وتضيف: "بدايات هذه الثورة كانت قبل اندلاع الحرب هنا ببضعة أعوام، لكنها بلغت أوجها اليوم إذ تحوّل الأمر لما يشبه التنافس خاصة بين الفتيات والنساء. إنه عالم لا حدود له. أستقبل أحياناً زبونة ترغب بالحصول على غماز على وجنتها، وإن لم يعجبها تعود في اليوم التالي لإزالته. الأمر بهذه البساطة".
أستقبل أحياناً زبونة ترغب بالحصول على غماز على وجنتها، وإن لم يعجبها تعود في اليوم التالي لإزالته. الأمر بهذه البساطةوتضحك سعد الدين لدى سؤالها عن تقديرها لعدد مراكز التجميل اليوم في دمشق: "بين المركز والآخر نجد مركزاً جديداً يفتتح كل يوم، وعمليات التجميل باتت شغلة اللي ما أله شغلة. الإقبال الكبير للسوريات على جميع أنواع تلك العمليات يدفع بكثيرين للعمل في هذا المجال حتى دون خبرة رغم أنها ضرورية وأساسية". ووفق السيدة التي تمارس هذه المهنة منذ أكثر من اثني عشر عاماً، فإن الحروب ووطأتها النفسية والاجتماعية تزيد دون شك من الرغبة في تغيير الشكل الخارجي إلى آخر أكثر مواكبة لصيحات الموضة، إلا أنها تعتقد أيضاً بأن السوريين اكتسبوا خبرة كبيرة في هذا المجال مؤخراً. "لم يعد الأمر مجرد رغبة في التخلص من الاكتئاب المرافق للحرب. معظم الزبائن باتوا على اطلاع بكافة تقنيات التجميل، يتناقشون معي بأحدث ما أُنتج في هذا المجال ويختارون ما يرونه أكثر ملاءمة لهم. أستطيع القول بأن الأمر بات بمثابة ظاهرة في المجتمع السوري".
حاجة نفسية وجسدية
في مركز آخر قريب يقع في حي المالكي بدمشق، يعمل الطبيب عمر شعبان على تلبية رغبات وحاجات عشرات الزبائن بشكل يومي، إذ يتيح له اختصاصه في مجال الجراحة التجميلية الجلدية إجراء معظم أنواع عمليات التجميل. "نشهد اليوم توجهاً عاماً في سوريا لعمليات التجميل ولذلك عدة أسباب"، يشرح شعبان في حديثه لرصيف22. "أول هذه الأسباب تطور صناعة مواد التجميل مما يشجع كثيرين على خوض هذه التجربة. أسباب أخرى لها علاقة بوسائل التواصل الاجتماعي ومدى إسهامها بالإعلان عن هذه العمليات والترويج لها والتشجيع على تجربتها".بين المركز والآخر نجد مركزاً جديداً يفتتح كل يوم، وعمليات التجميل باتت شغلة اللي ما أله شغلة. الإقبال الكبير للسوريات على جميع أنواع تلك العمليات يدفع بكثيرين للعمل في هذا المجال حتى دون خبرة رغم أنها ضرورية وأساسية
هناك إقبالاً كبيراً من دول الجوار بشكل خاص، ودول الخليج العربي ودول عربية أخرى أيضاً، والسبب الأساسي هو انخفاض تكاليف العمليات مقارنة بتلك البلدان للنصف أو أقل في بعض الأحيان
لم يعد الأمر مجرد رغبة في التخلص من الاكتئاب المرافق للحرب. معظم الزبائن باتوا على اطلاع بكافة تقنيات التجميلوتندرج دوافع زبائن هذا الطبيب تحت بندين أساسيين: الرغبة والحاجة. "من جهة، يمكننا القول بأن كثراً من السوريات يركزن اهتمامهن اليوم على العناية بالشكل الخارجي نظراً لانخفاض نسبة الذكور في المجتمع السوري ورغبة في لفت الأنظار إليهن بشكل أكبر، وهنا تنتشر عمليات تصغير الأنف ورسم الحواجب ونفخ الشفاه وإزالة التجاعيد. هنالك عمليات لا تكون ضرورية في معظم الأحيان، خاصة لمن اتراوح أعمارهن بين 20 و50 سنة. ومن جهة أخرى، ومع عشرات حوادث التفجير وتساقط القذائف، برزت الحاجة والضرورة لعمليات الترميم وإزالة ندوب الجروح والحروق والضياع المادي بمختلف أعضاء الجسم، وهي تشكّل ما يقارب نصف العمليات التي نجريها بشكل شبه يومي منذ ما يقارب خمسة أعوام". تُصنِّف روان (45 عاماً) نفسها ضمن الفئة الأولى، وتشير في لقاء مع رصيف22 إلى خوضها غمار عالم التجميل للمرة الأولى منذ حوالي ثلاث سنوات، مع فقدانها الثقة بشكل وجهها الذي أرهقته الحرب والكآبة التي رافقت السنوات الماضية. تقول "بدأت التجاعيد تنتشر بوتيرة متسارعة في معظم أنحاء وجهي، واتسعت الهالات السوداء تحت عيني. كانت نصيحة إحدى صديقاتي بالتوجه لعيادة تجميل في منطقة الشهبندر وسط دمشق حيث يمكنني الحصول على وجه جديد بمساعدة حقن البوتكس والفيلر، وهذا ما حصل بالفعل". وتقول روان، التي فضّلت ذكر اسمها الأول فقط، إن النتيجة كانت مذهلة. "شعرتُ وكأنني أستعيد ثقتي بمظهري، وصرت أرى نفسي أجمل بعيون من هم حولي خاصة الرجال".
بعض الأرقام
تراوح تكاليف عمليات التجميل في سوريا اليوم بين مئات وآلاف الدولارات الأمريكية، وذلك وفقاً لنوع العملية، والعيادة التي تُجرى ضمنها. على سبيل المثال، يكلف تجميل الأنف بين 250 و500 ألف ليرة سورية (500-1000 دولار)، وشد الترهلات والبطن حوالي 1600 دولار، وتكبير الصدر 2000 دولار، وإزالة شعر الجسم بالليزر 2000 دولار، وإزالة الدهون من جفن العين 400 دولار، ونحت الجسم 700 دولار تقريباً. وتُجرى هذه العمليات، وحسب درجة تعقيدها والحاجة لتخدير موضعي أو عام، في مشافٍ عامة أو خاصة، أو ضمن مراكز تُمنح رخصة من وزارة الصحة السورية شرط وجود ترخيص لطبيب أخصائي بالجراحة التجميلية أو الجلدية. ويبلغ عدد المراكز المرخصة حالياً من قبل الوزارة ثمانية، تم افتتاح ست منها بعد العام 2011، في حين تعمل الوزارة عن طريق مديريات الصحة في مختلف المحافظات السورية على التعامل مع المراكز غير المرخصة واتخاذ العقوبات والإجراءات اللازمة حال اكتشاف عملها دون إذن. وفي حين لا تمتلك الوزارة إحصاءات دقيقة حول ازدياد عدد عمليات التجميل في سوريا خلال سنوات الحرب أو حول أنواع العمليات التي تشهد إقبالاً بشكل خاص، إلا أن مديرية المشافي في الوزارة، ووفق الأرقام التي حصل عليها رصيف22، تتحدث عن ارتفاع عدد أطباء التجميل في البلاد من 132 طبيباً مقيماً عام 2010 إلى 213 عام 2017.ليس في العاصمة وحدها، وليس السوريون وحدهم
العاصمة دمشق التي تمتلئ شوارعها بإعلانات عن مختلف أنواع عمليات التجميل لا تبدو المدينة السورية الوحيدة التي يقبل سكانها على الاهتمام بمظهرهم بشكل متزايد، فالعديد من المدن الأخرى تشهد رواجاً متزايداً لمراكز وأطباء التجميل، الذين يستقبلون من يرغبون بالعناية بأنفسهم أو تغيير مظهرهم. على سبيل المثال، تتحدث مهيرة العلي من مدينة اللاذقية الساحلية لرصيف22 عن "عروض هائلة ومنافسات لم تشهد لها المدينة مثيلاً من قبل بين مراكز التجميل التي ازداد عددها بشكل غير مسبوق، وتقدم كافة أنواع العمليات والعلاجات كإزالة الشعر بالليزر، والحقن بالفيلر والبوتكس، وتكسير الدهون، وشد البطن، في غرف يخال لزائرها للوهلة الأولى بأنها تقع وسط العاصمة الفرنسية باريس لفرط أناقتها". وتبدي العلي (35 عاماً) استغرابها من رواج عمليات التجميل في بلد لم تنته الحرب فيه بعد، ويعيش حالة من الانهيار الاقتصادي، لكنها تستطرد بالقول: "في الحرب نشهد كل ما لا نتخيل بأننا سنعيشه في الحياة الطبيعية". من جهة أخرى، لا يقتصر زبائن عمليات التجميل في سوريا اليوم على السوريين فقط، إذ تلاقي إقبالاً كبيراً من دول الجوار بشكل خاص، ودول الخليج العربي ودول عربية أخرى أيضاً، والسبب الأساسي هو انخفاض تكاليف العمليات مقارنة بتلك البلدان للنصف أو أقل في بعض الأحيان، خاصة بالنسبة لعمليات تجميل أو تصغير الأنف. ويقدر الخبيران لجين سعد الدين وعمر شعبان نسبة العرب الذين يرتادون مراكز التجميل في سوريا بحوالي 15% من المجموع الكلي لزبائن تلك المراكز، ومعظمهم من لبنان والعراق والأردن. إضافة لذلك، يشير الطبيب شعبان إلى تمرّس الأطباء السوريين، خاصة بعد سنوات الحرب، بإجراء مختلف أنواع عمليات التجميل وبدقة متناهية. "علّمتنا الحرب كيف نبتكر بأبسط المعدات وأقل الكوادر البشرية المتوفرة، أساليب جديدة لإزالة آثار الندبات الناجمة عن الجروح والحروق وكأنها لم تكن. أكسبنا ذلك خبرة جعلت لأطباء التجميل السوريين اليوم شهرة داخل وخارج بلادهم، لم يعرفوها يوماً من قبل".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...