عندما تكون/ين على الأرض أو تحتها، احذَر/ي من الشيء الذي يرفعك عالياً فجأة، لأن هذا الشيء ما رفعك إلا ليرميك أرضاً من أعلى نقطة ممكنة، ليكون سقوطك مدوياً، حيث لن تتاح لك فرصة للنهوض بعدها.
هذا ما فعلَته بي مضادات الاكتئاب منذ أن انجررت وراءها وباتت تتحكم بحياتي وكأنني مجرد لعبة "سيليكون". هي ما يفرض عليّ كيف سأكون نفسياً وجسدياً: أضحك، أم أغضب، أنام، أم أستيقظ.
هذه "الأدوية". عذراً، هذه المضادات "اللاإنسانية" كانت تجعل جسدي يترنح كسكران مبتدئ وعقلي مستنفر كلص محترف.
كثيراً ما قرأتُ عن مدمني أدوية الاكتئاب وشاهدتُ أفلاماً لكنني كنت أقرأ عن معركة بدل أن أخوضها، ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى وجدتُ نفسي في معركة أُقحمت فيها، عاريةً من كل شيء، بدون سلاح أو درع أو حتى فَرَس.
"بلا ردّ فعل"
امتطيت خوفي على أمل الموت بأسرع وقت وبأقل الخسائر الممكنة، لكن للأسف كانت خساراتي هي الأكبر على الإطلاق في السنوات العشر الأخيرة والموت لم يتحقق.
الحرب الملعونة التي ما تزال مشتعلة منذ الـ2011 في سوريا، أكثر ما دمّرته فينا صحتنا النفسية، والغريب في الأمر أنهم حين يحصون عدد القتلى وعدد الإصابات لا يشملوننا، لا بين القتلى ولا بين المصابين، ويا لسخرية القدر، حتى التاريخ لن يحصينا كرقم.
حقاً، لماذا فقط يتم التركيز على مَن ماتوا أو أصيبوا في الحروب والكوارث؟ ماذا بشأننا نحن المرضى النفسيين؟
مَن قال لكم إننا لسنا أمواتاً تاهوا عن قبورهم، إننا لسنا مصابين وإصابات بليغة أيضاً. نحن نفسياً معوّقون، عميان، خرسان، عقام، عاجزون جنسياً. أليس كل هذا إصابات وحالات موت محققة؟
في البداية كنت أبكي، كلما شعرت بالألم، كلما حدث أمر ما. كنت أفسح مجالاً لنفسي للبكاء والعويل، لكن مع اشتداد الحرب وتدهور معيشتنا وفراقنا لأحبابنا بين قتلى ومخطوفين ومهاجرين، بتّ لا أستطيع البكاء. يأتي الفعل ويرحل دون رد فعل. هكذا لسنوات.
استمرّ ذلك إلى أن بدأتُ أعاني من آلام في المعدة، آلام فظيعة، مجرد الكتابة عنها الآن تشعرني بالشفقة على نفسي. لجأت إلى أشهَر طبيب في دمشق. مجرد الحصول على موعد منه يسبب آلاماً في المعدة، لكن الجميع كانوا يثقون به.
بقيت أتردد عليه لشهرين، وخضعتُ لتنظير معدة ثلاث مرات، وأخذت الكثير من الأدوية، لكن الألم كان يتوحش أكثر، ثم أخبرني طبيبي أنه عجز أمام حالتي التي تتدهور وبات يخاف عليّ من أذية نفسي، فأرسلني إلى زميله وهو طبيب نفسي. ما إن جلست مع هذا الطبيب وبّخني لأنني جعلت صحتي النفسية تتدهور إلى هذه الدرجة؟
دون أدنى اجتهاد، اكتشف وجود رغبة عميقة لديّ بقتل نفسي. أطلَقَ على هذه الرغبة اسم "الانتحار" وأنا صححت له وقلت: "رجاءً، إنه خلاص".
بدأتُ بتناول خمسة أصناف من مضادات الاكتئاب ويا للعجب تخلصتُ على الفور من آلام المعدة والقولون، لكنني قضيت في المقابل على حياتي المهنية والدراسية.
بتُّ طوال الوقت بحالة خمول ودوّار، رأسي يطفو وكأنه معبأ بالغيوم، وعيناي تنظران إلى مدى غير موجود إلا في رأسي.
فقدت شغفي بالسينما (دراستي) والترجمة (مهنتي). كل ما كنت أريده من الحياة الاستسلام لهذا الضعف الذي أنا فيه، كنت منتشية بهذا الضعف والدوار كما لو أنني أطفو فوق بقعة مهجورة في المحيط. قد تستغربون ذلك، لكن يستطيع كاتبي المفضّل ميلان كونديرا أن يخبركم ما الذي أريد قوله: "أن يصاب المرء بالدوار، يعني أن يكون سكراناً بضعفه، إننا نعي ضعفنا، ولا نريد مقاومته، بل الاستسلام له، نسكر من ضعفنا ونود أن نكون أكثر ضعفاً، نريد أن ننهار في الطريق أمام الجميع، إننا نريد أن نكون على الأرض، بل ما هو أسفل من الأرض" (من رواية "كائن لا تحتمل خفته").
"الضربة القاضية"
رويداً رويداً، بدأت الآثار الجانبية الكارثية لمضادات الاكتئاب تقضي على حياتي. رسبتُ في دراستي كطالبة في دبلوم علوم السينما وفنونها (بإشراف نخبة من صناع الدراما السورية)، وسُحبت منّي أعمالٌ وقّعت عقوداً لترجمتها، وتخلّى عنّي رجُلي بسبب برودي جنسياً وعاطفياً، لكن الضربة القاضية كانت عندما أتى الصيف وتفاجأت بأنني غدوت سمينة جداً.
ازداد وزني خلال أربعة أشهر قرابة 15 كيلوغراماً، وكان هذا كارثياً بالنسبة إليّ، وأنا التي أشتهر بقوامي الممشوق وجسدي المثير. كرهي لجسدي نبّهني للكوارث التي تسبَّبت بها لي مضادات الاكتئاب.
"الحرب الملعونة التي ما تزال مشتعلة منذ الـ2011 في سوريا، أكثر ما دمّرته فينا صحتنا النفسية، والغريب في الأمر أنهم حين يحصون عدد القتلى وعدد الإصابات لا يشملوننا، لا بين القتلى ولا بين المصابين، ويا لسخرية القدر، حتى التاريخ لن يحصينا كرقم"
تحدثتُ إلى طبيبي لكنه رفض رفضاً قاطعاً إيقاف هذه المضادات قبل سنتين بسبب "ميولي الانتحارية"، لكنني لم أكترث لكلام الطبيب وقررت أن أتوقف بالتدريج عن تناول هذه الحبوب اللعينة مشجعة نفسي بأنني "قدّها" ومتحدّية هذا الطبيب المتعجرف ابن الطبقة المخملية.
لكن ليت كل شيء ينقضي بالكلام كما في عالم السياسة، فإذا كانت هذه الحبوب أوصلتني إلى الحضيض فالخلاص منها جعلني أحفر لنفسي وادياً في هذا الحضيض.
أصبحتُ أخاف على نفسي من نفسي، لم أعد أستطيع النوم، فجسدي اعتاد على هذه المضادات، كنت أشعر بشيء غريب يحدث في رأسي أشبه بتيارات كهرباء. وزززززز.
أردت أن أقاوم وأقاوم لكن ها أنا ذا أستسلم مجدداً، لم أصمد إلا ثلاثة أيام بدون هذه الحبوب اللعينة.
بتُّ أتناولها كمَن يقتلع عينه، أكرهها لكنني لا أستطيع العيش بدونها، وكلما شعرت أنني لن أستطيع التخلص منها، أصبحتُ شرسة مع نفسي أكثر.
ظللت على هذا الحال عاماً ونصف العام، إلى أن تدهورَت صحتي النفسية بشكل صار سماع صوت مواء قط يسبب لي العصبية والخوف.
كنت أستلقي في سريري الساعة العاشرة مساءً لكن لا أخلد إلى النوم قبل السادسة صباحاً بسبب العصبية والتوتر الذي كنت أشعر به.
"أخجل من دمع أمّي"
في إحدى الليالي، كنتُ أريد تحضير "الأندومي" (نوع من "النودلز")، فقالت لي أختي هذه العبارة فقط: "غيّري الآنيّة. هذه صغيرة". عبارة عادية جداً نعم، لكن أنا التي تريد أي فتيل لتتخلص من نفسها لم أجد نفسي إلا وأنا أكسر كأس ماء وأقطع شرايين يدي اليسرى.
رفضَت ثلاثة مستشفيات استقبالي بسبب النزيف الحاد والمجزرة الشنيعة. أُجريت لي جراحة ناجحة في مستشفى حكومي بعد تدخل مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون واستمرت العملية أربع ساعات بالتخدير الموضعي و34 غرزة خارجية للجرح ومثلها داخلياً. لقد تشوهت يدي. الأطفال يشعرون بالفزع منّي. حتى الكبار يفضّلون أن أغطّي يدي بحضرتهم لأنهم يشعرون بالقشعريرة.
"أستمتع كثيراً بالرقص، لكنني أستمتع أكثر بمشاهدة رقصي على المرآة. كم ظننت أنني ‘تكرسحت’ بدنياً وفكرياً بسبب الحرب اللعينة"
في يوم الحادث، رأيت في عيون عائلتي ذعر فقداني، فخجلت منهم ومن الألم الذي سببته لهم. عندها فقط فهمت ما قصده محمود درويش حين قال: "وأعشقُ عمري لأنِّي، إذا متُّ، أخجل من دمعِ أمي!".
كم حزنت حينها من أنني في كل المرات التي فكرت فيها بـ"الخلاص" (الانتحار كما تسمونه) لم أفكر بالألم الذي سأتسبب به لعائلتي، عائلتي لا تستحق هذه الفاجعة.
الرقص، الرقص
كان لا بد من أن أنقذ نفسي من نفسي. لن يخسر أحد في هذه المعركة التي أُقحمت فيها إلا عائلتي.
اقترحَت عليّ صديقة أن أخفف مضادات الاكتئاب تدريجياً مع ممارسة الرقص كما فَعَلت هي قبل سنوات.
بدأتُ أتعلّم رقص الزومبا مع حسناء روسية. شغفها بالرقص كان حافزاً لي للالتزام، فأصبَحَت هذه الساعة التي أقضيها كل يوم في الرقص، مكافأة مني لنفسي لإبقائي على قيد الحياة حتى الآن.
أستمتع كثيراً بالرقص، لكنني أستمتع أكثر بمشاهدة رقصي على المرآة. كم ظننت أنني "تكرسحت" بدنياً وفكرياً بسبب الحرب اللعينة.
بالرقص وحده فقط نتعرف على أجسادنا، ونستكشف أماكن الإثارة فينا ونعزز تقديرنا لذاتنا.
الآن فقط، عرفتُ لماذا كان بطل رواية "طابق 99" لجنى فواز الحسن يفضّل أن يضاجع حبيبته أمام المرآة وهما ينظران إلى جسديهما.
أنا اليوم أعيش حياة خالية نهائياً من أدوية الاكتئاب، وهذا هو شهري الأول منذ سنتين ونصف السنة. استعدتُ دوري في أعمال الترجمة، وبدأتُ أتعلم اللغة الإنكليزية وأستمتع كثيراً بذلك لأنني أفعله عن حب ورغبة.
بت أرقص طوال اليوم، بت أفرح بأنني على قيد الحياة، على الأقل أثناء الرقص.
*هذا النص تجربة خاصة، ولكل إنسان تجربته الخاصة مع المشاكل النفسية التي قد يعاني منها، ولكل شخص مشاعر معيّنة قد تتولّد لديه، وآثار خاصة تسببها له مضادات الاكتئاب، ولا يمكن بسهولة أن يقتدي شخص بآخر، ويبقى الأنسب أن يستشير أي شخص يعاني من مشكلة أو يشعر بضيق طبيباً/ة أو معالجاً/ة نفسياً/ة مختصاً/ة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه