لا يتجاوز تعدادهم المئة. هم أفراد أربع أسر، قرروا أن يعيشوا ويتعايشوا على بقعة فريدة، وهبتها الطبيعة موقعاً مميزاً، لا يمكن الذهاب إليها إلا بالفلوكة، وتمتلئ أرضها التي لا تزيد مساحتها عن مئتي فدان، بمختلف أنواع الفاكهة، وعلى رأسها الموز، والمانجو، والجوافة، بالإضافة إلى بعض الخضروات.
هي جزيرة "الموز" الواقعة في مجرى النيل، في محافظة دمياط، في شمال مصر، متوسطةً قريتَي شرباص والسوالم، ويطلق عليها السكان أيضاً بالتسمية المحلية، اسم "جزيرة شرباص".
وعلى الرغم من أن الحياة فيها ليست سهلةً، مقارنةً بمناطق مصرية أخرى، قرر سكانها عدم مغادرة هذه البقعة، التي تجاورهم في الحياة فيها أيضاً، عشرات أنواع الحيوانات. يذهب البعض إلى أعمالهم في الصباح، ويعودون إلى أراضيهم لرعايتها عقب الظهيرة، في حين عمد البعض الآخر إلى بناء مساكن في قرية السوالم، الواقعة على حدود الجزيرة، ليسكنوا بالقرب من أراضيهم، فتراهم يذهبون كل صباح إلى الجزيرة، مستقلّين الفلوكة، وفي حوزتهم أدوات الزراعة، ويعودون وقت الغروب.
ظهرت جزيرة أو الموز، إبان فيضان نهر النيل شمال مصر، في بدايات القرن الماضي، وكان أول من سكنها الأقباط
في هذه الفلوكة، التي يستقلها أيضاً بعض السياح الراغبين بقضاء يوم فريد في أحضان الطبيعة، رافق رصيف22 بعض سكان جزيرة الموز، في صباح يوم خريفي مشمس، للتعرف عن كثب إلى طبيعة حياتهم ضمن هذه البقعة التي لا تشبه أي مكان آخر.
رحلة قصيرة
تقلع الرحلة النيلية إلى جزيرة الموز، إما من قرية السوالم، أو من شرباص، وتستغرق 15 دقيقة عبر الفلوكة، التي تستوعب من خمسة إلى عشرة أشخاص، وهي مصنوعة من الخشب، أو الحديد. ويستخدم أهالي الجزيرة نحو عشر فلوكات مملوكة لهم، في تنقلاتهم اليومية.
ومع اقتراب الفلوكة من شاطئ جزيرة الموز، تلوح المنازل، وغالبيتها قديمة بُنيت من الطوب اللبني، فيما لا تصعب ملاحظة أن البعض عمدوا إلى تجديد منازلهم، بطلائها من الخارج. وتغلب على الجزيرة الأراضي الزراعية، وأشجار الموز التي تتصدر المشهد بامتياز.
وفي حال وصول الفلوكة في الصباح الباكر، يستقبل الزوارَ الأهالي الذين يخرجون للعمل في حراثة الأرض وريّها، بمساعدة العمال الوافدين غير المقيمين في الجزيرة، في حين يودّع الأطفال بيوتهم، للذهاب إلى مدارسهم الواقعة في القرى القريبة، ويعودون في المساء للّعب، ومراجعة دروسهم.
وتبلغ مساحة الجزيرة نحو 150 فداناً (الفدان المصري يساوي 4200 متر مربع)، وقد ضُمّت إلى محافظة دمياط، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتملك الدولة نحو 4 فدادين، والبقية ملك للمواطنين.
رحلة الفلوكة إلى جزيرة الموز - تصوير سهاد حسن
الموز يشكل 85% من الإنتاج
"ظهرت جزيرة شرباص، أو الموز، إبان فيضان نهر النيل، في بدايات القرن الماضي، وكان أول من سكنها أقباط مصر، وكان لهم الفضل في إدخال العديد من المحاصيل الزراعية إلى أراضيها، وعلى رأسها الموز، والبطاطس"، يحدثنا أحمد منتصر، وهو أحد سكان الجزيرة.ويضيف منتصر (36 عاماً): "كان أبناء الجيل الأول من الأقباط بمعظمهم يتلقون تعليمهم في كندا، أو يعملون في بلدان المهجر، ويأتون في الإجازات. ورويداً رويداً، رحلوا جميعهم عنها، ولعل آخرهم كان السيد ميشيل، الشهير بأبي رؤوف، الذي غادر أرض الجزيرة عام 1997، ليظل منزله شاهداً على ذكرياته، وذكريات السكان الأوائل في هذا المكان".
ومثل منزل ميشيل، وقبله منزل أنطون، تحولت العديد من بيوت الجزيرة التي كان يقطنها الأقباط، وآخرون من الـ"خواجات"، أي غير المصريين، إلى أطلال يزورها الأهالي بين الحين والآخر، مستعيدين ذكريات آبائهم وأجدادهم الذين كانوا يعملون مع الخواجات، فيما تقتصر الرحلات القادمة اليوم إلى الجزيرة، على سكان المناطق المتاخمة لها، وبعض السياح في المواسم.
واليوم، تتنوع الزراعات في الجزيرة بين الموز، والمانجو، والتفاح، والبطيخ، والبرتقال، وبعض الخضروات، كالفلفل، والطماطم، والباذنجان. وتبلغ المساحة المزروعة بالموز 125 فداناً تقريباً، ليبلغ إنتاجه 85% من مجمل ما تنتجه الجزيرة كل عام، كما يقول السكان. كما تعيش فيها العديد من الحيوانات، كالثعابين، والكلاب، والثعالب، والبط البري، وطائر الشرشير، والقرود، والقطط.
داخل حقول جزيرة الموز - تصوير سهاد حسن
وتشير المتحدثة إلى أن تمتع أرض الجزيرة بخصوبة مرتفعة يندر وجودها في أراضٍ زراعية أخرى، يجعل محصول الموز فيها أكثر جودة من غيره، وينتج الفدان الواحد ما يتراوح بين سبعة وثمانية أطنان، في الموسم الواحد.
تتنوع الزراعات في الجزيرة بين الموز، والمانجو، والتفاح، والبطيخ، والبرتقال، وبعض الخضروات، كالفلفل، والطماطم، والباذنجان. وتبلغ المساحة المزروعة بالموز 125 فداناً تقريباً، ليبلغ إنتاجه 85% من مجمل ما تنتجه الجزيرة كل عام، كما تعيش فيها العديد من أنواع الحيوانات
ونظراً لفرادتها، صدر قرار عام 1998، من رئيس الوزراء المصري حينها، جمال الجنزوري، بتصنيف الجزيرة على أنها محمية طبيعية، ما يحظر القيام بأي أنشطة يمكن أن تؤدي إلى تدمير البيئة الطبيعية فيها، أو إتلافها، أو تدهورها، أو الإضرار بالحياة البرية، أو البحرية، أو النباتية، وأيضاً يحظر صيد الكائنات البرية أو البحرية، أو قتلها، أو نقلها، لأي غرض كان، بالإضافة إلى منع إدخال أجناس غريبة إلى المحمية، وإقامة مبانٍ، أو منشآت، أو شق طرق، إلا بعد الحصول على التصريحات اللازمة.
"ليس لنا إلا هذه المراكب"
يقطن الجزيرة اليوم، بشكل دائم، بضع عشرات من السكان، ومن أشهر العائلات سلامة، والطحان، وبدوي، وزيادة، ويتردد عليها أسبوعياً عمال موسميون يتراوح عددهم من 150 إلى 250 عاملاً، وفق حاجة الأرض، ويعملون في حرث الأراضي الزراعية، ويأتون فجر كل يوم، ويعودون قبل الغروب.وتُعدّ المراكب وسيلة المواصلات الوحيدة لأهالي الجزيرة، كما يضطر الطلاب المقيمون فيها إلى استقلال القوارب الصغيرة التي يُطلَق عليها اسم "الحسكة"، كل يوم، للوصول إلى قرية السوالم، حيث تقع مدارسهم.
وتتخطى نسبة التعليم في الجزيرة الـ90%، كما يخبرنا السكان الذين يحرصون على أن يتابع أولادهم تعليمهم، حتى آخر مراحله، وعلى الرغم من صعوبة التنقل، بهدف الدراسة، فقد تخرج منها أطباء، ومهندسون، ومحامون، وقضاة، على مدار السنوات الفائتة.
بالإضافة إلى ذلك، يحرص سكان المناطق المجاورة، على زيارة الجزيرة، خاصةً في الإجازات، مثل شم النسيم، وأيام العطل الأسبوعية، فيستقلون الفلوكات، ومعهم ما يريدون من مأكل ومشرب، ويمضون النهار في الطبيعة الساحرة، ليعودوا مع غروب الشمس إلى منازلهم.
داخل حقول جزيرة الموز - تصوير سهاد حسن
"محاصيلنا تضررت ولا حلول جذرية"
في أثناء جولتنا في أرجاء الجزيرة، التقينا السيد عبد المغني، وهو من مزارعي الجزيرة، ويبلغ من العمر 69 عاماً. يقول في حديثه لرصيف22: "وُلدت وترعرعت هنا، أنا وأشقائي وأولاد عمي، وعائلتنا هي من العائلات الأولى التي سكنت الجزيرة".تُعدّ المراكب وسيلة المواصلات الوحيدة لأهالي الجزيرة
وعلى الرغم من تعلق سكان الجزيرة بالحياة فيها، إلا أن العمل يزداد صعوبة، عاماً بعد آخر، كما يشرح لنا عبد المغني شاكياً: "كل دورة، تصاب محاصيلنا بالتلف، نتيجة أمراض وآفات، وعلى الرغم من لجوئنا مراراً وتكراراً إلى الجهات المعنية في مديرية الزراعة، إلا أنه لا فائدة. لا تتوافر لنا الكيماويات اللازمة، لحماية المحاصيل، مما بات يسبب تلف ما لا يقل عن 40% منها، ويضطر المزارعون إلى اقتلاع المحصول، والتخلص منه".
ولعل المشكلة الكبرى التي تواجه مزارعي جزيرة الموز، اليوم، هي تقليل كميات الكيماويات المدعومة من مديرية الزراعة، إذ كانت تُصرف لهم 24 حصة مدعومة للفدان الواحد، وانخفضت الكمية إلى خمس حصص، ويبلغ ثمن الحصة المدعومة 161 جنيهاً، بينما تصل التكلفة إلى 350 جنيهاً في السوق السوداء، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى المزارعين، إذ تبلغ تكاليف زراعة الفدان بين 35 و40 ألف جنيه سنوياً (2200 و2500 دولار)، وهي تشمل تحضير الأرض، والريّ، والسماد، والمبيدات اللازمة، ويبيع المزارعون الكيلوغرام الواحد من الموز للتجار، بسعر يتراوح بين سبعة وثمانية جنيهات، ويقتصر الإنتاج على تغطية الاستهلاك المحلي، ولا يُصدّر إلى الخارج.
داخل حقول جزيرة الموز مع المزارعين - تصوير سهاد حسن
ويتحدث محمد أحمد، البالغ من العمر 76 عاماً، وهو يعمل في الفلاحة مذ كان صغيراً، عن المشكلة نفسها، إذ يحتاج الفلاحون إلى حماية محصول الموز من آفة السرطان التي تكررت في السنوات الأخيرة، من دون أن يعرفوا السبب، أو يتمكنوا من علاجها.ويضيف: "نعاني مؤخراً أيضاً، من تناقص كميات المياه اللازمة للريّ، في وقت نحتاج فيه إلى المياه بصفة مستمرة، لذا نحن في حاجة إلى تركيب مضخات كهربائية، لكن الوحدة المسؤولة عن الجزيرة ترفض ذلك".
يحتاج الفلاحون إلى حماية محصول الموز من آفة السرطان التي تكررت في السنوات الأخيرة، من دون أن يعرفوا السبب، أو يتمكنوا من علاجها، كما يعانون من تناقص كميات المياه اللازمة للريّ
خضوع الجزيرة لقانون المحميات الطبيعية، على الرغم من أهميته، حرم المزارعين من إمكانية القيام بالعديد من الأمور اللازمة لتحسين وضعهم، ومنها زراعة الأرز، والذرة، نظراً إلى أن تقنية الزراعة والري الخاصة بهما، مخالفة للقانون، ويُسمح لهم بالري بالتنقيط فحسب، وليس بالغمر، ويبحثون عن بدائل لهذه المحاصيل التي توقفوا عن زراعتها منذ سنوات، لتوفر لهم المزيد من المدخول، لكن دون جدوى.
وحاول رصيف22 التواصل مع مدير مديرية الزراعة في محافظة دمياط، للرد على ما ورد على لسان مزارعي الجزيرة، لكن لم نتلقَ إجابة منه، حتى وقت نشر التقرير.
في نهاية اليوم، ودّعنا أهل الجزيرة ببعض ثمار المانجو الشهية التي تناولناها معاً، في أحضان الطبيعة. في أماكن كهذه، يشعر الزائر بعدم الرغبة في العودة، وترك الطبيعة التي نادراً ما باتت أعيننا تتمتع بها، وسط ناطحات السحاب، والمباني الشاهقة التي تحجب ضوء الشمس في القاهرة، والكتل الإسمنتية التي تمنع النسمات المنعشة من اختراقها، لكن الرحلة تنتهي، ويبقى أثرها الجميل ماثلاً في الذهن، والروح، فترةً طويلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 19 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت