في الخريف وبدايات الشتاء من كل عام، بين إنتاج الطبيعة من الأشجار ومواسم هجرات الطيور، كانت معظم مدن محافظة سيناء المصرية، المعزولة اليوم بسبب "الحرب على الإرهاب"، تنظر ثلاثة مواسم شهيرة، شارفت على الانقراض، تبدأ بموسم جني "البلح" وصناعة العجوة، يقطعه موسم هجرة الطيور، ومن ضمنها السمان، ويقطعهما الموسم الشهير لجني الزيتون.
لكل موسم من هذه المواسم تقام أشكال مختلفة من أنماط الحياة يشترك فيها جميع أفراد العائلة، كما تشترك فيها القبائل والمدن، احتفال يحصل فيه الجميع على هدايا الطبيعة، وتشتهر عائلات كاملة بإجادتها لتلك الحرف التي قاربت على الاندثار ليبقى منها فقط الذكريات والصور.
"العريشة" منازل مؤقتة لجمع البلح
في الماضي، وقبل بداية الخريف بأسابيع قليلة، اعتادت الأسر التي تمتلك "بيّارات"، آبار تصنعها الرياح تتوسط مرتفعين اثنين من الرمال، وأشجار نخيل زرعها الأجداد والآباء، الذهاب إليها في مواسم نضوج البلح والرطب، فتقوم بطي فرشها، وأدواتها البسيطة في منتصف أغسطس من كل عام، لتقوم بفردها مرة أخرى على طول ما يقرب من 100 كيلو متر على شاطئ البحر، أو في "السراديب" التي كانت تنتشر في الأراضي التي تبعد عن شاطئ البحر من 200 إلى 400 متر، وبقيت ميراثاً تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل.
تشترك في هذا الطقس كل العائلات والقبائل الممتدة من طريق رفح، الشيخ زويد، العريش شرقاً، إلى العريش الإسماعيلية غرباً، حيث تبدأ أولى هذه المراحل وهي بناء "المشرات"، وهي عبارة عن سور وأرضية وسط النخل، تُنصَب، وتُفرش على الأرض بزعف النخيل، ويوضع بها البلح، ليدخل مرحلة التجفيف تحت الشمس.
السؤال عن "المشرة" هو أكثر ما تتداوله مجموعات تواصل على السوشيال ميديا، أنشأتها الأجيال المسنَّة، من سكان شمال سيناء بالتزامن مع ذكرى كل موسم منذ سنوات، يدفعهم لذلك تنشيط الذاكرة، وحفظ ما تبقى من التراث، حيث قضت العمليات الأمنية و "التهجير " بفعل حرب الإرهاب الأخيرة على معظم الأنشطة الاقتصادية المحلية، والتي كانت في طريقها إلى الانكماش مع تعاقب الأجيال.
قضت العمليات الأمنية و "التهجير " بفعل "حرب الإرهاب" الأخيرة على معظم الأنشطة الاقتصادية المحلية
مرحلة جمع البلح ليست مجرّد نشاط اقتصادي، تكاد تكون نمطاً حياتياً مختلفاً.
يكتب شعبان الفضالي، مدرس من العريش وباحث في التراث وصاحب صفحة خاصة على الفيس بوك، نشطة في تسجيل وتذكير الأجيال الشابة بتاريخ الآباء في سيناء، في تدوينة له عن الأماكن التي ينصبها السيناوية في مناطق بعيدة عن منازلهم، ليسكنوا فيها أثناء جمع البلح، : "كل أسرة كانت تقوم ببناء "عريشة" خاصة بها من جريد النخيل، مزودة بمرحاض مبني من برميل كبير أو أكثر يتم فتحه من الجانبين، ويتم وضع البرميل في حفرة بالطول، ويدفن من كل الجوانب، ويتم وضع قطع من الخشب فوق البراميل من أعلى حتى يكون جاهزاً للاستخدام، ويبنى سور من جريد النخيل حوله بارتفاع متر ونصف فأكثر، حتى لا يظهر الشخص وهو موجود داخل الحمام البدائي . كما تبنى "العريشة" الكبيرة لتكون بمثابة منزل صغير للأسرة، مقسّم إلى عدة أقسام، لوضع الأغراض التي تستخدم في الحياة اليومية طوال فترة جمع البلح، وكذلك الملابس" .
وأضاف الفضالي، أنه يتم إعداد مكان داخل "العريشة" الكبيرة كغرفة نوم للنساء والأطفال، أما الرجال فيستريحون خارجها، أي في الهواء الطلق، أو في "عريشة" بسقف فقط، ومفتوحة من الناحية البحرية والقبلية، ومغلقة من جانب غروب وشروق الشمس، وتستخدم لاستقبال الضيوف أو للاسترخاء نهاراً، في فترة الظهيرة أو لتناول الطعام بداخلها.
"كان الشباب هنا تذهب إلى مناطق النخيل عندما كنا صغاراً، اليوم لا يحدث هذا وربما نادراً، وكانت هناك طقوس أتذكرها بالكاد، مراحل صناعة العجوة، من الجنى للتجفيف لمرحلة النهاية وهي صناعة قرص العجوة"
"نتذكّر من الأدوات القديمة في عملية جني الزيتون "المشنات"، أو أطباق الخوص "السيبة" أو السلم ذا الثلاث أرجل، اليوم أصبحت هذه مجرد ذكريات لأننا قد ننتظر 25 عاماً، إذا ما عادت إلينا الأراضي وزرعناها من جديد، حتى تنتج أول شجرة زيتون من جديد".
وعن طريقة إحضار المياه يقول الفضالي: "إن كل أسرة تحفر حفرة داخل السرداب بعمق متر أو أكثر، ويتم وضع برميل كبير مفتوح من الجانب والأسفل، وتسمى هذه الحفرة في اللهجة المحلية السيناوية بـ "الثميلة"، ويتم استخدام كوز "سطل" أو دلو "جردل" مربوط بحبل، ويتم إنزاله داخل "الثميلة"، وتسحب المياه إلى أعلى ليتم استخدامها في الشرب وعمل الشاي والطبخ وغير ذلك. وماء الثميلة له طعم لذيذ وحلو المذاق وليس مالحاً، على الرغم أن هذه المياه كانت قريبة من ساحل البحر".
محمود الشريف، تاجر شاب بالعريش، يقول لرصيف22: "كان الشباب هنا تذهب إلى مناطق النخيل عندما كنا صغاراً، اليوم لا يحدث هذا وربما نادراً، وكانت هناك طقوس أتذكرها بالكاد، مراحل صناعة العجوة، من الجنى للتجفيف لمرحلة النهاية وهي صناعة قرص العجوة".
"موسم الفِرّ"
"الفرّ" هو الاسم المحلى للسمّان، ويأتي "الفرّ" أسراباً مهاجرة في فصل الخريف، مع مجموعات طيور أخرى، بعضها عابر وبعضها يحطّ لفترة بين الأشجار، وحول "المشرات" حيث تكون القمار غذاء له. وبسهولة يمكن مشاهدته بكثافة في الوديان، وعلى البحيرات وبطول الساحل، ويعتبره السكان في شمال سيناء وفلسطين غذاءً موسمياً لذيذاً.
يصل "الفرّ" سيناء مع بداية فصل الخريف، ويمكث فترة الشتاء حتى بدايات الربيع، ولذلك فهو يعتبر زائراً شتوياً ومهاجراً عابراً، وينتشر في البيئات المفتوحة لاسيما القريبة من المياه، وضفاف الأودية والبرك.
ويكثر "الفرّ" في شمال سيناء بالقرب من "المشرات" التي يتم فيها عمل العجوة و"الشقيق"، وهو نوع من البلح المجفف.
يقول هيثم كامل (35 عاماً) لرصيف22: "مصايد الفرّ كانت تمتد بطول ساحل شمال سيناء، خاصة السواحل التي تطل منها المدن، ويطلق عليها الأهالي اسم "التراكيب"، وهي أعمدة خشبية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة أمتار في الارتفاع، تغرس على البحر أو بين الأشجار، تبعد عن بعضها أمتار قليلة، بحسب طول الشبك الذي يصل بين كل منها".
وقد طورت التكنولوجيا أدوات الصيد ليستخدم اليوم جهاز صوتي للنداء على "الفرّ"، مسجل عليه صوت "الفرّة"، يعمل عبر مكبر صوت يوضع بجانب "التراكيب" لإيقاع الطيور في الشباك.
ولكن بات اليوم الحصول على تصاريح الصيد من أي نوع أمراً صعباً ونادراً، بسبب "الحرب على الإرهاب"، أو "حرب المسلحين" كما يطلق عليها سكان في سيناء، لذلك نفتقد تلك الأيام بشدة، بحسب تصريحات هيثم.
الزيتون.. الشجرة المهددة بالانقراض
تنتج شجرة الزيتون من 150 الى 180 كيلو زيتون بسعر الكيلو من 10 الى 15 جنيه، أي في المتوسط 12,50 جنيه، وبعد إضافة جهد وتكلفة مياه الآبار تصبح تكلفة ما تنتجه الشجرة الواحدة 17,50 جنيه مصري (ما يتجاوز قليلا دولار أمريكي واحد).
يعلم جميع أصحاب مزارع الزيتون في العريش هذه الحسبة جيداً، بل وينتظرون هذا المقابل مع حلول منتصف شهر أكتوبر من كل عام، لأنها أحد أكبر مصادر الدخل للسكان.
خلال السنوات الست الماضية تقلّصت كثيراً مساحات مزارع الزيتون، بفعل حملات تجريف المزارع التي قام بها الجيش المصري أثناء عمليات الحرب.
وقد صرح الدكتور عاطف عبيد، مدير عام الزراعة بشمال سيناء، عام 2018 لصحيفة محلية أنه تم تجريف جميع الأراضي الزراعية في مدينتي رفح والشيخ زويد، وتم الإبقاء على 10% تقريبا من المساحات الخضراء في العريش، وبلغت خسارة محصول الزيتون 80%، بعد تجريف ما يقرب من 25 ألف فدان لأشجار الزيتون.
شكل الزيتون النسبة الكبيرة للمساحة الخضراء التي تغطي من شمال سيناء إلى فلسطين قبل التقسيم، بسبب الطبيعة الواحدة للأرض.
يقول رفعت سلامة النخلاوي، تاجر سيناوي لرصيف22: "إننا بالفعل في موسم نطلق عليه "جد الزيتون" أي القطاف، وكانت لجدودي أراض تمتدّ حتى رفح حسبما أسمع لكن لا أدري عنها شيئاً اليوم".
ويحكي هيثم محمود بأسى: "نتذكّر من الأدوات القديمة في عملية جني الزيتون "المشنات"، أو أطباق الخوص "السيبة" أو السلم ذا الثلاث أرجل، اليوم أصبحت هذه مجرد ذكريات لأننا قد ننتظر 25 عاماً، إذا ما عادت إلينا الأراضي وزرعناها من جديد، حتى تنتج أول شجرة زيتون من جديد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...