بملابس بالية ووجوه جافة يغطيها النقاب، تبرز منها عيون متحدية، إن كنت تسكن في إحدى قرى الريف المصري، شمالاً أو جنوباً، ستعتاد عيناك على تلك العربات التي تحتشد فيها نساء، من القصّر إلى العجائز، بطريقة غير آدمية، وستعتاد أذناك سماع صياح مشاجرتهن المختلطة بأغاني تمجّد محاصيل القمح والفراولة والعنب والبرتقال.
يختلف الوضع هنا في مصر بين الشمال "بحري" والجنوب "قبلي"، بالنسبة لكثير من التفاصيل التي تخص المرأة العاملة، في الحقول التي توزع الحَبّ وتجني ما يضمن لها أن "تاكل لقمتها بعرق جنبيها".
نبدأ من الشمال "بحري"، حيث قرية الهياتم بمحافظة الغربية، التي قابلنا فيها الحاجة نرجس (62 عاماً)، وهي أم لأيمن (41 عاماً)، يعمل في مجال العقارات، وهويدا (38 عاماً)، متزوجة وربة منزل.
العمل من "الصبحية" لـ"العصرية"
تعمل الحاجة نرجس، "ريّس أنفار"، أي قائدة العاملات "الأنفار"، على غير العادة في الريف، مهمتها جمع الفتيات واختيارهن للعمل بالأراضي الزراعية.
عن طبيعة عملها تقول نرجس: "أنا باتفق مع صاحب الشغل، أرض أو مزرعة، على عدد معين من الأنفار يشتغلوا في مساحة معينة، وأنا بحاسبه وبعدين بحاسب البنات".
"بينزلوا بس يشتغلوا في المحاصيل الخفيفة زى الفراولة".
أغلب ملّاك الأراضي الزراعية الذين يطلبون نساء للعمل، يندر وجود عنصر الرجال في عائلاتهم، "من غير سند ولا عزوة"، بحسب تعبير نرجس، "اللي هما مفيش عندهم ولاد، ولا أقارب رجالة وشباب يقدروا ينزلوا الأرض يشتغلوا، وطبعاً مش بنقدر نشغل البنات في كل المحاصيل، بينزلوا بس يشتغلوا في المحاصيل الخفيفة زى الفراولة، البسلة، العنب، لكن تقولي قطن، قمح بأنواعه، إلخ... ده ما يقدرش عليه إلا الرجالة".
يبدأ يوم العمل من باكورة الصباح، بعد الفجر مباشرة، تأتي سيارة تأخذ النساء من بيوتهن، وتعيدهن مرة أخرى آخر النهار. ينقسم العمل إلى فترتين، الأولى يسمونها "صبحية" من السادسة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً، و"العصرية" من العصر وحتى غروب الشمس، لكل فترة تحصل الفتاة على مبلغ 60 جنيهاً، ويمكن لها أن تعمل في الفترتين.
"محشورين في علبة سردين"
منال (25 عاماً)، ترتدي، مثل معظم زميلاتها، النقاب. اكتشفت بعد الزواج بفترة أن زوجها يسرق ويشرب مخدرات، طلبت الطلاق فرفض. تركته لتكمل حياتها مع أسرتها، وقررت أن تعمل في جني المحاصيل الزراعية لتنفق على نفسها وعلى ولديها.
أكثر ما يتعب منال هي ضيق مساحة السيارة، حيث أن طاقتها الاستيعابية 15 أو 20 شخص، يركب فيها 50 أو 60 فتاة، تقول منال لرصيف22: "كأننا في علب سردين، بس أحسن من المشي، أنا أسمع أن البنات زمان كانت بتمشي فترات طويلة عشان توصل للأرض".
لكل عاملة في جني المحاصيل ذكريات ومواقف ونوادر في تلك السيارة المزدحمة، تحكي منال عن مشاجرات بين النساء، لدرجة أن امرأة وقعت مرة من السيارة وكادت أن تموت، وكذلك تصفّق العديد من النساء، وتتبرع صاحبة الصوت الجميل بأكثر من أغنية حتى يصل الجميع.
معظم الأغاني التي ينشدنها في السيارة أو في فترات الراحة أثناء جني المحاصيل، مرتبط بالأرض والمحصول، ويحمل إيحاءات غزل، مثل: "يا برتقان أحمر وجديد بكرة الوقفة وبعده العيد".
"بيحشرونا 90 بنت في عربية واحدة ضيقة علينا، زي علب السردين، وبنغني يا برتقان أحمر وجديد، والمقاول يقول لنا بلاش دلع ومياصة، بس بنكمل غنا"
تقاطعها زميلتها ضحى (19 عاماً) قائلة: "البت منار صوتها حلو وهي بتغني، واحنا نرد وراها، طبعاً المقاول مالوش علاقة، المهم أن الشغل المطلوب يخلص، كنا بنغني بقى أو خرس مالوش فيه، ساعات في ناس بتبقي رخمة، ويقولك مش عايز غنا ومياصة ودلع، على أساس يعني إننا لما نغني نبقي مش واخدين بالنا من الشغل".
أما بسمة (25 عاماً)، حاصلة على الابتدائية، فتشتكي من التحرّش من أصحاب العمل، وتتداول العاملات في جني المحاصيل الكثير من القصص حول تحرش أصحاب المزارع، وتنتهي بعض المحاولات بالزواج، خوفاً من "الفضيحة". فترغب كثير من العاملات بالزواج من أحدهم لتتحرر من مشقة العمل.
"العمدة حظر عمل النساء"
يختلف الوضع كثيراً في الصعيد، أو كما يسميه مصريون "وجه قبلي"، حيث قرية "المناشي" بأسيوط، عن "بحري"، بحسب سيد أبو حطب، متعهد العاملين لصاحب المزرعة أو "مقاول أنفار".
يبدأ العمل في الصعيد من الساعة العاشرة أو الثانية عشر ظهراً حتى السادسة مساءً، لم يعد هناك فترة صباحية، وأجر العاملة من 50 إلى 60 جنيهاً، (أي ما يقارب 4 دولاراً) يرجع أبو حطب ذلك إلى الإنترنت والهواتف الذكية.
يقول أبو حطب: "النت غير كل حاجة، الناس زمان مكنش عندها غير الأرض وترجع منها العصاري، تتغدي وتريح شوية، وبالليل يبقي قدام البيت ع المصاطب ده يتكلم وده يحكي، والجيران تتجمع حوالين بعض، دلوقتي معدش فيه الكلام ده، بسبب التلفزيون والدش والإنترنت".
التغيرات طالت حتى العاملات في جني المحاصيل، يصفهن أثناء تأدية عملهن قائلا: "البنات بقيت بشوف كتير منهن كل واحدة حاطة السماعات في ودنها بتسمع أغاني وهي بتشتغل، وكل واحدة مع نفسها ما بتتكلمش مع حد زي زمان".
وعن تفاصيل يوم العمل في الصعيد، قالت أم سيد (50 عاماً)، أرملة، تعيش وحدها بعد موت ولديها في حادث: "أول حاجة بنعملها أول ما نوصل الأرض إننا نفطر، في ناس بتجيب أكلها معاها، وفي ناس بتعتمد على الوجبات اللي بيوفرها صاحب الغيط أو المزرعة اللي بتشتغل فيها".
تبدأ الفتاة في الصعيد العمل في جني المحاصيل وهي لم تتجاوز ست سنوات، تجمّع "حشيشة الأرض"، وتساعد زميلاتها في جني المحاصيل، وتتعرض بعضهن إلى المضايقات والتحرش، وتتطور الأمور أحياناً إلى مشاجرة بالأسلحة بين عائلة العاملة وصاحب المزرعة
تتعرض أيضاً النساء هنا إلى مضايقات وتحرش من ملّاك الأراضي وأصحاب العمل، وفي قرية بصعيد مصر كادت تتطور أحد المضايقات إلى معارك بالأسلحة من أهل الفتاة مع صاحب العمل.
تحكي أم سيد لرصيف22: "في مرة من فترة كبيرة، كنا طالعين نشتغل في قرية تانية جنبنا، وواحدة اتعرضت لتحرش من حد من قرايب صاحب المزرعة، ولما رجعت قالت لأهلها، وخدوا كل رجالة البلد وطلعوا على البلد التانية، وكانت هتبقى مجزرة، وبعدين لما الموضوع اتلم، راحوا لعمدة بلدنا وطلبوا منه أنه يطلع قرار ملزم للكل بأن البنات ما تشتغلش في أي غيط أو مزرعة، وفعلاً قعدنا 5 سنين من غير ما ننزل أي أرض لحد ما الموضوع رجع تاني زي الأول".
"الصغيرات يجمعن حشيشة الأرض"
عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للعاملات في جني المحاصيل، تشير أم سيد أن عمر الفتاة هنا يبدأ من ست سنوات، ويقتصر عملها على "جمع حشيش الأرض"، و"مساعدة الأخريات"، ويلزم كثير من الأهالي بناتهم بعدم الخروج للعمل عند وصولهن إلى العشرين عاماً، وأحياناً 15 عاماً، "وعشان كده مش هتلاقي حد بيشتغل الشغلانة دي أكبر من السن ده إلا نادر أوي".
"لو اتجوزت بيبقى خلاص شكراً مش هتشوف الشغل تاني".
"وكمان لو البنت حالها ميسور يبقى عمرها ما هتطلع من بيتها تشتغل، إنما لو محتاجة أكيد هتنزل. أحياناً البنت هنا بيبقى نفسها تجيب لنفسها حاجات وتلاقى أهلها عليهم أقساط وديون، فتتحرج إنها تطلب منهم حاجة، وتنزل هي تشتغل وتجيب اللي نفسها فيه، بس طبعاً لحد السن اللي اتفقنا عليه، ولو اتجوزت بيبقى خلاص شكراً مش هتشوف الشغل تاني، حتى لو جوزها شغال في نفس شغلنا، وكتير بيتجوزوا رجالة بيشتغلوا معانا، وبيطلب منها تمشي حالها باللي موجود، إنما شغل لا"، تحكي أم سيد.
أما الحاجة أم كرم (58 عاماً)، فلا تزال تعمل في جني المحاصيل، رغم مشقة المهام، تقول لرصيف22: "باشتغل عشان أصرف على عيالي بعد ما جوزي أتوفي، كنا قاعدين في أوضة سقفها خشب بس الحمد لله، بتعبي ومجهودي وتعب عيالي الأربعة اللي بيشتغلوا معايا قدرنا نشترى شقة نضيفة".
تُعرف الحاجة أم كرم بطبيعتها المرحة، وبأنها تقاوم كل الظروف الصعبة، فهي، وكما تقول الفتيات عنها: "مش بتبطل ضحك وهزار معانا طول اليوم، ومش بتبطل غنا، صحيح هى بتغني أغاني قديمة مش بنفهما بس أهي بتهون علينا اليوم، والواحدة لما بتبص في وشها بتحس أن الدنيا بخير، ومهما كانت المشاكل اللي بتواجهنا أكيد لها حل ومش مستاهلة أبداً حزن أو تكشير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...