"ما بينزل البنت عن فرسها، غير ابن عمها"، و"آخذ ابن عمي وأتغطى بكمي"، و"نار القريب ولا جنة الغريب"، ما هي إلا أمثال شعبية اصطنعت لتحث النساء على الزواج من الأقارب، وابن العم من الدرجة الأولى، بل هي أحياناً أمثال لا معنى لها، تتمسك بها بعض العائلات كـ"حجة" لربط الفتاة بابن عمها طيلة حياتها، حتى لو بلا رغبة أو مشاعر.
مهما وقع للزوجة من مشاكل وآلام، فهو معذور أمام جمل يرددها الجميع في غزة، مثل: "بيظله ابن عمك"، لتسكت الزوجة عن حقها.
لا مفر لها هنا سوى الرضا بالأمر الواقع، خوفاً من أن تبقى "حردانة"، بسبب صفعة أو ضربة محتملة تؤذيها من ولد العم.
وفي حال حصل طلاق بينهما، تبدأ مخاوف الأب بألا يلقى طريقاً لابنته سوى بتزويجها من شخص "غريب" عن العائلة، ما يعد نكبة له، وتحت هذا الخوف من خسارة النسيب، الذي يراه العريس واضحاً على وجه حماه، فإن زوجها يضمن تسلطه واستعباده لزوجته أكثر، بعدما أصبح واضحاً بأنه لا ظهر ولا حامي لها.
فلماذا الخوف الشديد للأب من أن تتزوج ابنته برجل "غريب"، بل ويستعجل على زواجها من ابن عمها وهي طفلة، قبل أن يتوفى أبوها؟ ولماذا يتنازل عن حقوق ابنته خوفاً من خسارة ابن عمها أيضاً؟
أملاك الأسرة الواحدة
"لا شك بأن الميراث أو الأملاك هي التي تتحكّم بالعائلة، هي في المقام الأول من الأسباب التي تُقيّد الفتاة بابن عمها، فالكثير من العائلات الفلسطينية بغض النظر عن أصولهم وأماكن تواجدهم في المحافظات الفلسطينية، كانت سابقاً تتبع سياسة (الخير ما يطلعش برا العيلة)، والوسيلة الوحيدة لخروج هذا الخير المزعوم لخارج العائلة، سواءً كان أموالاً أو أراضٍ أو بيوت وعمارات ومشاريع تجارية، هو عن طريق زواج الفتاة برجل غريب من عائلة أخرى عندما تأخذ حقها من ميراث والديها"، تقول المختصة في حقوق المرأة، نور السويركي، لرصيف22.
"كان الزوج يغطس رأس زوجته وابنة عمه في الماء، وكان يعلقها على الجدار ويجلدها، وكان يربطها كالكلاب ويجرها، كأنني أقرأ عن قصة أو رواية لأسير في غوانتنامو"، كما أوضح الناطور
وتوضح هبة الدنف، المختصة في حقوق المرأة، بأن العديد من الحالات سُجلت ممن تزوجن قسراً دون مراعاة ظروفهن النفسية والاجتماعية، فقط كان الهدف النهائي حماية الأملاك من الضياع.
"والغريب عند النظر لهذه الممتلكات كلها على بعضها، تجدها عبارة عن قطعة أرض مساحتها 3 دونم (الدونم الواحد يساوي ألف متر مربع) في أكبر اتساع لها، أو حواصل وشقة سكنية، وتراهم يسمونها أملاكاً، لتُظلم على إثرها فتيات بعمر الزهور"، تتابع هبة.
عروسة 14 عاماً
تتذكر السيدة الغزية أم نور، زوجت بعمر 14 عاماً، ليلة عرسها، مشاعرها المتضاربة آنذاك، تقول: "أتذكر تلك الليلة التي فقدت فيها عذريتي دون أن أعرف معنى الزواج، فقط كنت مبتهجة بملابس الزفاف عندما كانت تقول لي أمي قبل زواجنا بشهر "سوف تلبيس فستان العروسة وهتكوني عروسة"، وكانت تقولها بأسلوب ترغيب، ولكن لم تُعْلِمني بالأمور الجنسية وآلام الحيض وغيرها".
"لقد تربينا على جُملة (البنت لابن عمها) ولذلك أخذوني صغيرة، كوسيلة استعجال، فوالدي كان يخشى أن يتوفاه الله في أية لحظة فيتزوجني رجل من عائلة أخرى، وبالفعل تُوفي وأنا بعمر الـ 18 عاماً، أي بعد زواجي بـ 5 سنوات، وتركني في جحيم الدنيا".
"طالما كنت أهرب إليه من بطش زوجي متورمة العينين أو حمراء الوجه من صفعه لي، ولكن كان يتنازل عن حقي دائماً، فهو كان يخشى أن يخسر ابن أخيه، لدرجة أنه زوجني بلا مهر حتى يقبلوا بي كعروس، لقد كان يخشى على أملاكه الصغيرة، التي ظُلمت لأجلها".
بعد أن بلغت أم نور عمر الثلاثين عاماً طلبت الطلاق، وأقنعوها بواسطة نساء الأسرة أن تتخلى عن حقوقها في المهر، والمؤخر، وأملاكها التي ورثتها من والدها، أقنعوها بأنها صغيرة، وشابة، وجميلة والكثير يتمنونها، لذا لا ضير من التنازل عن كل هذه الأشياء مقابل الطلاق، بدلاً من أن تكمل حياتها مع ابن عمها الذي هجرها.
لعب أخوها دوراً كبيراً في إقناعها، تقول: "لقد ورث هذه المعتقدات من أبي".
معاملة الزوجة كالأسرى
المحامي مؤمن الناطور، الذي تولى الدفاع أمام القضاء عن امرأة تزوجت قسراً من ابن عم لها، لم تتقبله حتى وصل الأمر لـ "الاغتصاب الزوجي"، فحاولت الهروب لأهلها، وقابلها والدها برفض التعامل معها، وأن عليها أن تتحمل لأنه يخاف خسارة ابن أخيه، كغيره من الآباء الذين يُقدسون زواج الأقارب.
كان الزوج يغطس رأس زوجته وابنة عمه في الماء، وكان يعلقها على الجدار ويجلدها، وكان يربطها كالكلاب ويجرها، "كأنني أقرأ عن قصة أو رواية في غوانتنامو"، كما أوضح الناطور.
ومجرد أن فاحت رائحة المشاكل بين العائلة، ذهب أبناء عمومتها الآخرون إلى والدها ليطلبوها في حال ما وصلت الأمور للطلاق، ليطمئنوه بأنه لا خوف عليها من طلاقها من زوجها الحالي لأنها لن تذهب إلى رجل "غريب".
ولكن في حال لم يطلبها أبناء عمومتها؟!
"ملكه مثل شرفه"
ثلاث شقيقات غير متزوجات أصغرهن 39 عاماً، وأكبرهن 49 عاماً، تمتاز كل واحدة منهن بالجمال في شبابها وكِبَرِها، كما تردد جاراتها وأبناء وبنات عائلتها.
تقول زوجة أخيهن أم سعيد، من قطاع غزة، بأنها شهدت فترة تواجد والدهن على قيد الحياة (حماها)، وقد عرفت من خلال العيش معه 5 سنوات، وشاهدت بعينها كيف رفض والدهن تزويجهن من عدة رجال "مهمين" في الدولة، وتجار من خارج العائلة طيلة فترة صِباهن.
"كان يأمل بأن يتزوجهن أحد أبناء عمومتهن الذين لم يطلبوهن، فلم يكن لديه مانع تجاههم، حتى لو كان عريسها من أقاربها فاشلاً أو معيباً، لأنه كان يعتقد بأن ملكه مثل شرفه، لا يحق لأحد من خارج العائلة المساس منه".
وبعد وفاة والدهن، وتقسيم الميراث بين الأخوة، أصبح من نصيب كل فتاة 350 متراً من الأرض في منطقة نائية، لا تقدر بثمن، وقد عرفت أن هذه البقعة الصغيرة من الأرض كانت سبب حرمان الشقيقات الثلاثة من تكوين أسرة لهن، ولم يتقدم للزواج منهن أحد.
وتُضيف أم سعيد، موضحة تأثير الأعراف في ميراث المرأة بحسب زواجها، وهوية الزوج القبلية، تقول: "كانت لديهن أخت رابعة، وهي الوحيدة منهن التي طلبها رجل من خارج العائلة وتزوجت منه، وهو ابن خالها، وعند وفاة والدها، قام إخوتها باتباع العادات والتقاليد في توزيع الميراث على الشقيقات، والمتعلقة بصلة القرابة من ناحية زوج الأخت، حيث كان نصيب الفتاة التي لم تتزوج 350 متراً من الأرض، بينما الفتاة المتزوجة لم تأخذ شيئاً، لوجود علة وهي أنها "في أحضان رجل من عائلة غريبة"، ولكن كان نصيب الرجال من الميراث كل واحد منهم 1500 متراً، وهو مخالف لتقسيمة الميراث، وفقاً لدينهم الإسلامي".
"كان يأمل بأن يتزوجها أحد أبناء عمومتها الذين لم يطلبوهن، فلم يكن لديه مانع تجاههم، حتى لو كان عريسها من أقاربها فاشلاً أو معيباً، لأنه كان يعتقد بأن ملكه مثل شرفه لا يحق لأحد من خارج العائلة المساس منه"
الملكيات وتوارثها بين أبناء القبيلة الواحدة، لم تمكّن عزيز البدوي من الزواج بمن يحب لعشر سنوات، يقول: "تزوجت في سن متأخر بحسب تقاليدنا في عمر الستة والثلاثين عاماً، وذلك بسبب رفض والدها قبل عشر سنوات، وقد ألححت عليه مجدداً بإصراري على الزواج من ابنته، فواجهنا بالصراحة، بأنه يريد منها التنازل عن جميع حقوقها في الميراث في حال ما تزوجت من رجل غريب مثلي، وقد وافقت على ذلك بعدما ذهب من عمرها وشبابها 10 سنوات، مقابل أن تتزوج ابنته الشخص الذي أحبته".
ويعلق المحامي مؤمن الناطور، منهياً حديثه لرصيف22 بأن "هذه العادات والتقاليد التي تُضيق على الفتاة لا تموت بموت الكبار، بل هي متوارثة جيلاً بعد جيل، وحتى وإن تضاءلت".
وتقول سعاد (اسم مستعار) من قطاع غزة بأن والدها تُوفي وهي في عمر الـ 26 عاماً، ولم يرغب أن يُزوجها لأنه لم يطلبها أحد من عائلتها، في حين طلبها الكثيرون من خارج العائلة، وبعد وفاة والدها أصبح شقيقها ماجد هو المسؤول عنها.
تقول سعاد لرصيف22: "كان أخي يُقدس الملكية أكثر من والدي، في حين أنه منح لنفسه من الميراث 4 دونم من الأراضي (4000 متر) ولم يُعط البنات النصف، وفق ما هو متعارف عليه في الشريعة الإسلامية، رغم أنه يُعرف عنه بأنه رجل دين، بل كان نصيبي 300 متر فقط، وقد رفض زواجي على خُطى أبي بعدما تولى مسؤوليتي حتى أصبح عمري 39 عاماً، وقد وافق أخيراً عندما طلب يدي أحد أقاربي".
تتنهد سعاد، منهية حديثة، ساردة ميزات الزوج، وكأنها تحكي شكل حياتها المأساوي: "عمره 44 عاماً، ولم يتزوج أبداً لأنه يعاني من إعاقة ذهنية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم