وفي قطاع غزة الذي يعاني من تدهور مستمر في الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشباب والخريجين إلى 72%، يصبح الارتباط أكثر تعقيداً، خصوصاً من جهة الشاب الذي يتكبد نحو 10 آلاف دولار بالمتوسط، تكاليفاً للزواج، يدفعها ما بين مهر للعروس وتنظيم ليلة زفاف وغيرها.
لذلك ليس من المستغرب أن نجد تراجعاً في معدلات الزواج في قطاع غزة خلال العامين الماضيين، وفق إحصائيات للمجلس الأعلى للقضاء في قطاع غزة، نشرها شباط/ فبراير المنصرم.
وفي النهاية، يجد الشباب في قطاع غزة أنفسهم محاصرين بين خيارات ثلاثة: العزوف عن الزواج إلى ما بعد سن الثلاثين، الاستسلام لإغراءات مؤسسات "تيسير الزواج" التي أصبحت رائجة بالقطاع خلال السنوات الأخيرة، والتي تساهم في تنظيم الزفاف مقابل أقساط شهرية، أو التفكير "خارج الصندوق" وإلغاء طقوس الزفاف كلها معاً.
"الفرحة من القلب"
على طاولة تستلقي ورقة استدعاء للشرطة، لا يستطيع العروسان أن يغمضا جفناً طوال الليل، يفكران في هذا الضيف غير المتوقع في ليلتهما الأولى.
يحدق خالد في الورقة، يفكر تارة كيف يدبر أمره حتى لا تطول إقامته في السجن، وتارة أخرى يفكر في رفقة السجن التي لا يحبذها على الإطلاق، وتصرفاته على نحو مناف لطبيعته حتى لا يكون لقمة سائغة للمساجين، كما يقول لرصيف22.
هكذا أمضى خالد ليالي كثيرة منذ زفافه صيف 2014، بسبب ديونه المستحقة لإحدى مؤسسات تيسير الزواج، والتي بلغت 5 آلاف شيقل.
يجد شباب غزة أنفسهم محاصرين بين خيارات ثلاثة: العزوف عن الزواج إلى ما بعد سن الثلاثين، الاستسلام لإغراءات مؤسسات تساهم في تنظيم الزفاف مقابل أقساط شهرية، أو التفكير "خارج الصندوق" وإلغاء طقوس الزفاف كلها معاً
ويقول خالد، مهندس في العقد الثالث من عمره، لرصيف22: "تلقيت أول بلاغ يوم الصباحية، تمكنت حينها من سداده من فلوس النقطة، لكن بعدها توالت البلاغات بسبب تأخري في دفع القسط الشهري للمؤسسة، خاصة بعد أن أصبحت بلا عمل، بعد أن استغنت الشركة عني".
وتعمل مؤسسات "تيسير الزواج" على تغطية مستلزمات الفرح، مقابل دفعة مالية أولى يُتفق عليها مع المشترك، ثم تقسيط الباقي بعد أول شهر من الزواج حتى اكتمال المبلغ. وقد يبدو الأمر ميسّراً ومغرياً للمقبلين على الزواج، لكن التدهور المستمر للوضع الاقتصادي في القطاع، يُعجز العرسان عن سداد باقي الأقساط، وكثير ما ينتهي الحال بهم في السجن.
ويقول خالد: "قبل الفرح كنت مستنزفاً مالياً، لم يكن لدي خيار إلا مؤسسات تيسير الزواج لإتمام فرحي الذي تأجّل مرتين"، مضيفاً: "لكن اتضح أنها كارثة، واعتقلت 6 مرات بسبب تأخري في الدفع".
كذلك الحال بالنسبة لآية محمد (24 عاماً)، وزوجها، اللذين مضى على زواجهما نحو 3 سنوات، لكنهما لا يزالان يعانيان من ضغط الشيكات الشهرية لمؤسسات تيسير الزواج، والتي تبلغ قيمة الواحد 300 شيقل، أي ما يعادل 90 دولاراً، وهو مبلغ كبير بالمقارنة مع دخل زوجها الذي يعمل في قطاع البناء، ويتقاضى يومية لا تزيد عن 7 دولارات.
وتقول آية لرصيف22 إنهما تلقيا بلاغات متكررة من الشرطة بسبب تخلفهما عن الدفع، ما يدفعهما للاستدانة من الأقارب والأصدقاء لتجنب الحبس، خاصة وأن قطاع البناء الذي يعمل فيه زوجها يتعطل لشهور طويلة، فيمسيان بلا دخل.
لكنها الآن ترى أن المغالاة في تنظيم حفلات الزفاف "خطأ كبير"، قائلة: "كله على الفاضي، الفرحة في القلب واختيار شريك الحياة المناسب هو الأهم من كل التفاصيل الأخرى".
"تخلينا عن فرحة العرس"
ما إن يبلغ الشاب في المجتمع الفلسطيني عقده الثالث، حتى يغدو السؤال: "ليش ما تتزوج؟ متى رح نفرح فيك؟ لتكون...؟" روتيناً يومياً عليه أن يواجهه بابتسامة بسيطة، و"إن شاء الله"، تلقائية، تخرج من بين شفتيه.
وقد أشار المجلس الأعلى للقضاء إلى أن قطاع غزة يمر بحالة أطلق عليها "العنوسة المركبة"، على حد تعبيره، أي عزوف صنف من الشباب والفتيات في سن 30 عاماً وما فوق عن الزواج، بسبب إفرازات الواقع الاقتصادي الصعب.
"المشكلة في تكاليف الزواج ابتداء من المهر، ما في أسرة بتقبل بمهر أقل من ثلاثة آلاف دينار (أردني)... وراتبي يدوب يكفي تغطية أقساط الشقة وتغطية مصروف العائلة اليومي"، يقول كامل، اسم مستعار (32 عاماً) وهو موظف حكومي، لرصيف22.
ومع إصرار عائلة كامل على زواجه، أفصح أخيراً عن رغبته في الارتباط بإحدى قريباته، لكن مشكلة المهر لا تزال قائمة، وأجّلت رغبته إلى حين. ويقول إنه قد يلجأ إلى الاستدانة من أحد الأقارب، أو تقسيط قيمة المهر كما أصبح شائعاً بين العائلات في الفترة الأخيرة.
أما الشاب توفيق المصري( 32 عاماً)، فقد اضطر إلى تأجيل زواجه لنحو عامين من ارتباطه بالفتاة التي أحب، بسبب الظروف الاقتصادية التي ما إن تستقيم حتى تتعثر.
يقول المصري لرصيف22: "خطبت البنت اللي بحبها من سنتين، وكنا متفقين على الزواج بعد أشهر قليلة من الخطوبة، لكن للأسف واجهنا أزمة مالية في عملي (قطاع خاص) عطلتني كثيراً، فأجّلنا الزواج سنتين".
ويتابع المصري: "قرار الارتباط صار رهن الظروف الاقتصادية، وكله أثر كثير على علاقاتنا، مريت أنا وخطيبتي بظروف نفسية صعبة، وسبّب التأخير مشاكل بيننا، وفي مرحلة من المراحل كنت أخشى أن نوصل لمرحلة الانفصال".
الأزمات المتتالية دفعت المصري وخطيبته لتقدير الأولويات أولاً، فهما بعد محاولات عدة لتدبير أمر زواجهما، تيقنا أن طقوس الزفاف "ما لهاش لزمة"، كما يقول، ويضيف: "خطيبتي مقدرة الظروف اللي بمر فيها والوضع العام في غزة، وأبدت استعداد تتخلي عن فرحة العرس بقاعة أفراح، وتنازلت عن فرحتها كرمال نتم زواجنا".
كيكة ودردشة وضحك
"كيف بدون فستان أبيض؟"، "رح تضل حسرة في قلبك"، "شو رح يقولوا عنا الناس"، "بنتي ما بتطلع من البيت بدون عرس وزفة".
كانت هذه أبرز الاعتراضات التي واجهتها سماح مقداد (28 عاماً)، وشريكها حين أفصحا أخيراً لعائلتيهما عن رغبتهما بعدم تنظيم حفل عرس كما جرت العادة.
وتقول سماح، التي تعمل مدربة مهارات حياتية: "كان لدينا قرار مسبق بتنظيم حفلة صغيرة ووليمة غذاء للأقارب، بحيث لا تتجاوز التكاليف الاجمالية الألف أو الألفي دولار، رغم وضعنا المادي الممتاز لكن لا نرى جدوى من دفع مبالغ هائلة لتنظيم عرس".
وتضيف: "الفلوس التي تنفق على أمر ما ليست مصدر السعادة، كنا مقتنعين تماماً أن مشاركة الفرحة هي الأساس".
"طقوس الزفاف وتفاصيلها من المسلمات والأفكار الراسخة لدى مجتمعنا، لكننا نشعر ببساطة بأنها لا تمثلنا. الإنسان يفرح بالطريقة التي يحبها، وبالطريقة اللي تناسب شخصيته"
كذلك قررت تاج سليم( 29عاماً)، ببساطة الانتقال إلى بيت زوجها، بحفل بسيط في بيتهما، حضره عدد قليل من المقربين، وفستان لم يكلفها أكثر من 30 دولاراً.
تحكي تاج، وتعمل مدرسة، عن عرسها قائلة لرصيف22: "أحضرنا كيكة وكانت ساعة دردشة وضحك إلى جانب بعض الأغاني في بيت أهلي، ولما توجهنا لبيتنا الجديد دردشنا وغنّينا وضحكنا... وبس".
وتضيف: "ما يهم بالنسبة لي هو إيجاد شريك حياة نكون سكن وسكينة لبعض هو الفرحة الحقيقية، التفاصيل الأخرى من حفل خطوبة، حنة، سهرة شباب، فرَح وو... مظاهر مبالغ فيها".
ويعقب على حديثها، زوجها عبد الرحمن (29 عاماً)، بالقول إن "فكرة التخلي عن حفل الزواج فكرة مشتركة بيني وبين تاج منذ اليوم الأول لارتباطنا، وكانت وليدة حواراتنا الطويلة حول الزواج ككل".
ويضيف عبد الرحمن، أن "طقوس الزفاف وتفاصيلها من المسلمات والأفكار الراسخة لدى المجتمع، وهو أسلوب حياة خاص بجماعة ما يحدد هويتها والعلاقات بين الأفراد داخلها، لكننا نشعر ببساطة بأنه لا يمثلنا. الإنسان يفرح بالطريقة التي يحبها، وبالطريقة اللي تناسب شخصيته".
الآن، بعد مرور أربع سنوات على ارتباطهما، يقولان إن هذه الخطوة "الجريئة" مهّدت الطريق لبداية علاقة "صحية" بينهما، وتقول تاج: "سلاسة الفرح وتفاصيله قربتنا أكثر من بعضنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...