لم يكن الشاب إسماعيل البسيوني (27 عاماً) الذي يقطن في شمال قطاع غزّة يعلم أن الترتيبات التي قام بها للزواج بنيّة الاستقرار قبل حوالي سنتين، ستتحوّل إلى نقمة تلاحقه هو وعائلته. لكن هذا ما جرى معه بالفعل منذ بدأت شركة "تيسير الزواج" التي منحته قرضاً تلاحقه عبر الشرطة والمحاكم لدفع الأقساط المالية المتأخرة عليه.
حكايات الملاحقة والهروب من الشرطة التي عاشها الشاب إسماعيل تكاد لا تنتهي، ليس لأنه لا يرغب في إيفاء دينه، بل لأن ضيق العيش يقف حائلاً أمام قدرته على ذلك.
وكان آخر فصول الحكاية ما حدث صباح 12 أيلول/ سبتمبر، حين أقدمت قوة أمنية على اقتحام منزل عائلته عند الساعة السادسة صباحاً، لاعتقاله.
وأفاد شهود عيان لرصيف22 بأن دورية شرطة قوامها حوالي سبعة أشخاص، وصلت إلى بيت عائلة البسيوني الذي يقع في مدينة الشيخ زايد (برج 22) لاعتقال إسماعيل، بغرض تنفيذ أمر حبس بحقه بناء على تقصيره في دفع مبلغ 100 دولار تقريباً، هي "قسط لمؤسسة تيسير زواج".
وعندما رفضت العائلة فتح الباب، قامت الشرطة بخلعه باستخدام معدات خاصة، واقتحمته وفتشته تفتيشاً دقيقاً بحثاً عن "المطلوب"، فوقعت "مناوشات" بين عناصرها وبين ثلاثة من إخوة الشاب، من أصل خمسة، كانوا متواجدين داخل المنزل.
وروى الشهود أن الشرطة لم تجد الشاب المطلوب فقامت باعتقال أخيه إبراهيم كبديل عنه، واعتدت عليه خلال إنزاله على درج البناية. ولما وصل عناصر الشرطة إلى سيارتهم، تبعهم الأخ الأصغر، مؤمن، بلباس النوم وكان يحمل "أنبوبة غاز"، فأطلق أحد العناصر النار عليه وأصابه في بطنه مباشرة، واعتُقل الشقيق الثالث.
اعتداء "همجي ومستنكر"
يروى محمود البسيوني، عم الشاب إسماعيل، لرصيف22 أنّ القصة بدأت حينما أقدم ابن أخيه على الزواج قبل عامين تقريباً، ولجأ إلى شركة خاصة وفّرت له مستلزمات الفرح، مقابل مبلغ مالي تم تقسيطه على عدة شهور.
وأضاف أن عمل ابن أخيه تعطل بعد الزواج بشهور بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها قطاع غزّة، ولم يعد قادراً على دفع الأقساط فتوجه إلى المحكمة لطلب تخفيض المبلغ الشهري، لكنه لم يلقَ أي تجاوب.
ووصف طريقة الاعتداء على البيت في الصباح الباكر بأنها "همجية ومستنكرة"، لافتاً إلى أنه خلال الساعات الماضية حاول كثيراً التواصل مع القيادات الأمنية في شمال قطاع غزّة لفهم حيثيات الموضوع ومعرفة مجرى التحقيقات في القضية والوقوف على التفاصيل المتعلقة بمصير الأخوين الآخرين الذين لا زالا رهن الاعتقال حتى هذا اللحظة، لكنه لم يلقَ تعاوناً معه من أيّ طرف.
"الحالة الاقتصادية العامة للبيت الذي يسكن فيه الشاب إسماعيل سيئة جداً، وإخوته شبه عاطلين عن العمل منذ سنوات طويلة وبالكاد يجدون قوت يومهم"، يشرح، منبهاً إلى أن الحالة الصحية للشاب مؤمن الذي يرقد في المستشفى وسط حراسة أمنية مشددة لا زالت تحت المراقبة الطبية بعد أن تم استئصال بنكرياسه.
يروي الشاب إيهاب المغربي الذي يسكن على مقربة من مكان وقوع الحادث، لرصيف22 أنه "فزع من النوم على صوت إطلاق الرصاص، وتفاجأ بالمشهد حين نظر من النافذة"، مشيراً إلى أنّه هرع من بيته مباشرة، فوجد الشاب مؤمن مُلقى على الأرض وينزف قبل أن يُنقل بعد دقائق إلى المستشفى بسيارة مدنية بعد أن غادرت الشرطة المكان.
إجراءات غير قانونية
يرى الباحث القانوني عبد الله شرشرة أن تفتيش المنزل عند الساعة السادسة صباحاً مخالف للقانون، لأن القرار بالحبس جاء وفقاً لدعوى مدنية لا جزائية، أي أنها لا تتفق مع الاستثناءات التي أوردها قانون الإجراءات الجزائية الذي نصت المادة 41 منه على أن التفتيش يجب أن يكون نهاراً، إلا في حالات استثنائية مثل "التلبس والاستعجال".
ويضيف لرصيف22 أن قانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936 عرّف الليل بأنه الفترة الواقعة بين الساعة السادسة والنصف مساء والساعة السادسة والنصف صباحاً، ويتابع: "ضابط الشرطة يقع عليه عبء حفظ الأمن العام، والحد من الجريمة، لذلك من الطبيعي أن تتضمن مهام عمله منحه رخصة لاستخدام القوة في تطبيق القانون، لكن هذا المنح مقيّد، فيجب أن تخضع مسألة استخدام القوة للتدرج".
وبخصوص اعتقال الإخوة كبدلاء عن أخيهم المطلوب إلى حين تسليم نفسه، نوّه إلى أن هذا النوع من الاعتقال، إذا ثبت أنه قد تم، يُعَدّ اعتقالاً تعسفياً واحتجازاً خارج نطاق القانون، يستوجب المساءلة الجزائية لمتخذ القرار، لأن قانون الإجراءات الجزائية ينص على أنه لا يجوز القبض على أحد أو حبسه إلا بأمر من الجهة المختصة بذلك قانوناً، كما تجب معاملته بما يحفظ كرامته.
وفي بيان لها طالبت مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان بالتحقيق في ظروف إصابة المواطن مؤمن أحمد البسيوني الذي يبلغ من العمر 20 عاماً، وأكدت على أن فرض القانون وملاحقة المخالفين والخارجين عن القانون من حق السلطة، لكن مع ضرورة التزام قوات الأمن بمعايير إطلاق النار والتي لا تتجاوز حال الدفاع عن النفس أو الغير من خطر محدق.
حكايات أخرى شبيهة
القصص التي ترافق الشباب الغزيين المستفيدين من مؤسسات تيسير الزواج لا تقف عند هذا الحد. فالشاب محمود خضر (29 عاماً) الذي يسكن مدينة غزّة كان من بين الضحايا الذين وقعوا في "شباك" تلك المؤسسات. انجذب لعرض ظن للوهلة الأولى أنه سيكون باباً لإتمام زواجه الذي تأخر لأكثر من عامين بسبب الظروف الاقتصادية، لكنّه كان باباً لدخوله السجن.
يوضح لرصيف22 أنه فور سماعه إعلاناً ترويجياً لمؤسسة "تيسير زواج" عبر الراديو في عام 2016، اتجه إليها وهناك استقبله الموظفون وقدّموا له عرضاً بقيمة 2500 دينار أردني (3500 دولار تقريباً) يأخذ مقابله الأثاث الأساسي لمنزلة واحتياجات العرس من ملابس وأجهزة صوت وقاعة ووسائل نقل وغيرها، واشترطوا عليه دفع مبلغ مقدم قيمته 1000 دينار للحصول على العرض، وذكروا له أنّه سيتم تقسيط باقي المبلغ على 15 شهراً بواقع 100 دينار شهرياً.
اتفق الطرفان وتم الأمر. وعندما جاء وقت تسليم الأثاث، تفاجأ الشاب برداءة نوعها ومخالفتها للشروط الواردة في العقد، فأكمل الأمر على مضض ووصل إلى نهاية الفرح، وبدأت مطالبات الشركة بالأقساط المستحقة، والتزم حينها بالدفع أول ثلاثة أشهر، لكنه بعد ذلك لم يتمكن من الدفع بسبب فقدانه عمله.
يضيف: "هنا بدأت تصلني إلى البيت استدعاءات من الشرطة على خلفية شكوى تقدمت بها المؤسسة تطالبني بالالتزام بالدفع، وحينذاك طلبت تخفيف المبلغ إلى النصف شهرياً فرفضت المؤسسة، وقال لي الموظف حرفياً: إما الدفع أو السجن"، لافتاً إلى أنه ألقي القبض عليه بعد أقل من مرور خمسة أشهر على زواجه، ووُضع في السجن لمدة شهر كامل على خلفية ذمة مالية، ولم يخرج إلا حين استدان أهله مبلغ القسط ودفعوه للمؤسسة.
ما هي مؤسسات "تيسير الزواج"؟
مؤسسات "تيسير الزواج" هي شركات ربحية، تقدّم خدمات متعددة للمقبلين على الزواج في قطاع غزّة بأسعار متفاوتة وتنافسية تختلف بحسب طبيعة الخدمة المقدمة، وتتراوح الأسعار بين مبلغ الـ2000 والـ4000 دولار.
وبالنسبة إلى طرق إيفاء المبالغ من قبل الشباب، فهي تختلف من مؤسسة إلى أخرى، لكن جميعها تتفق في طريقة تعاملها مع "المتعسرين في الدفع"، إذ أنها تقدم ملفاتهم للمحكمة لتتخذ الإجراءات القانونية المناسبة.
وصلت دورية شرطة قوامها حوالي سبعة أشخاص إلى بيت عائلة البسيوني في غزة لاعتقال ابنها إسماعيل فاقتحمته ثم أطلقت النار على أخيه... والسبب: تنفيذ أمر حبس بسبب تقصيره في دفع مبلغ 100 دولار تقريباً لمؤسسة "تيسير زواج"
لم تجد الشرطة الشاب "المطلوب" فاعتقلت أخيه، فتبعهم الأخ الأصغر وكان يحمل "أنبوبة غاز"، فأطلق عنصر النار عليه وأصابه في بطنه... هذه القصة البوليسية سببها التخلّف عن دفع قسط من قرض منحته مؤسسة لـ"تيسير الزواج" في غزة
النهاية قد تكون الطلاق
حكاية أخرى يرويها الشاب إبراهيم جاد الله (30 عاماً)، الذي سئم الواقع الصعب الذي يعيشه، فهو لم يحظ بعد بفرصة عمل منتظمة تمنحه الاستقرار.
يقول لرصيف22: "بعد استدانة مبلغٍ مالي أقدمت على خطبة فتاة عشت برفقتها قصة حب مدتها أربع سنوات، واتفقنا على تحمّل أعباء الحياة معاً، لكننا لم نكن نعلم أن أعباء الحياة ستؤدي في النهاية إلى انفصالنا"، موضحاً أنّه منذ البداية استأجر بيتاً للسكن ولجأ إلى شركة "تيسير زواج" لتقسيط مستلزمات الفرح.
ويروي أن إدارة الشركة أخبرته أنها ستمنحه فترة سماح مدتها ثلاثة أشهر، وهذا معناه أنه سيبدأ بدفع الأقساط بعد 90 يوماً من زواجه، مبيّناً أنّه تفاجأ ببلاغ استدعاء من الشرطة وصله بعد أقل من شهر، وحين ذهب ليراجع الشركة أخبروه أن العقد لا ينص على ذلك، وما حدث بينهم من كلام غير ملزم كونه غير مدرج ضمن العرض والعقد.
لم يتمكن الشاب من دفع القسط الأول وسُجن لمدة 15 يوماً، وخرج بعدها ليتفاجأ بطلب صاحب المنزل للإيجار الذي لم يكن يملك منه شيئاً لأنّه منقطع عن عمله الذي كان يتقاضى عليه أجراً بـ"المياومة"، فأُجبر على ترك المنزل، والعودة إلى بيت العائلة الكبير ليسكن في غرفة واحدة برفقة زوجته، وهو الخيار الذي رفضته الأخيرة وفضلت عليه خيار الذهاب إلى بيت أهلها.
بعد فترة، عادت مطالبات الشركة بالأقساط وعاد إلى السجن لأكثر من أربع مرات، وانتهى به الأمر للانفصال عن زوجته.
وكان استشاري الإدارة والتسويق في مؤسسة "أكورد" لتيسير الزواج أحمد الحسنات، قد صرح في وقت سابق بأن "هناك مَن يظن أن مؤسسات التيسير مليئة بالمشاكل والشبهات القانونية، ولكن الحقيقة هي أنها تقوم بتقديم مستلزمات الزواج بأقل التكاليف عبر خدمة التقسيط"، مشيراً إلى أن مؤسسته تراعي الإجراءات القانونية، مثل الكفالات وسند الدين منظم التوثيق في المحكمة، حتى يتم ضبط هذه العملية.
ولفت إلى أن قطاع غزّة فيه عدد من المؤسسات غير المرخصة، وتعمل تحت اسم "تيسير الزواج"، مؤكداً أنها تهدف إلى ضرب السوق من خلال ترويجها لدعاية تبيّن فيها سعيها للتخفيف من حدة الإجراءات اللازمة، خاصة في نقطتي التقسيط والكفلاء.
وأوضح مصدر أمني لرصيف22 أن شكاوى متعددة تصل إلى أجهزة الشرطة يشير فيها المشتكون، وهُم من الشباب، إلى أنهم تعرّضوا للاحتيال من قبل شركات "تيسير الزواج" التي تقدّم لهم عروضاً وهمية، وتخدعهم بأثاث ومستلزمات بيتية ذات جودة رديئة، مبيناً أن الشرطة تتابع عمل تلك الشركات عن كثب إلى جانب وزارة الاقتصاد التي تمنحها التراخيص.
الإغراءات طريق للتحايل
يوضح الباحث القانوني شرشرة أن شركات تيسير الزواج هي شركات إقراض، أي أنها شركات تمنح قروضاً مادية أو عينية للراغبين في الزواج، والقروض هي واحدة من أشكال العمل المصرفي، وهذه الأعمال المصرفية ينظمها نظام صادر عن سلطة النقد، وهو النظام 132 للعام 2011، بوصف هذه المؤسسات مؤسسات إقراض متخصصة.
وينبّه إلى أن النظام المعمول به في قطاع غزة هو عكس ذلك تماماً، كون هذه الشركات ترخَّص من قبل مسجل الشركات وليس من قبل سلطة النقد، لذلك هي غير خاضعة لرقابتها، الأمر الذي يؤدي إلى إشكاليات كبيرة في نظام الإقراض في هذه المؤسسات، والتزاماتها تجاه المواطنين.
ويؤثر الأمر كذلك على إجراءات عملها التي يفترض أن تتسم بالشفافية والمعايير المالية الفضلى المقرة من قبل سلطة النقد، لذلك من الطبيعي أن تكون هناك العديد من التجاوزات القانونية في هذه الشركات، وفقاً لحديثه.
ويضيف أن "شركات تيسير الزواج تنظم المديونية بواسطة الشيكات والكمبيالات وسندات الدين المنظمة، وهذه السندات يكون موضحاً فيها قيمة المديونية وآلية سدادها".
ويختم بأن "العوز ورغبة الشباب، وغياب الثقافة القانونية لديهم، تخلق حالة من عدم فهم الالتزامات المترتبة على هذا النوع من التعاقد، خاصة أن تلك الشركات تتعمد تسخيف هذه الالتزامات عبر عروض مغرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...