احترتُ كثيراً في كتابة مقدمة هذا التقرير، فللوهلة الأولى خطرت على ذهني، وأنا أستحضر الأغاني اليمنية التراثية، أغنية "يا مُنيتي" التي سمعتها مُنذ الطفولة في حفلات الزواج، ولا زلتُ أرقص طرباً عند سماعها، إلا أن الصادم بالنسبة إليّ، كان في أثناء بحثي على "غوغل" عنها، لأفاجأ بنسبها إلى فنان عربي، وهي من كلمات الشاعر اليمني أحمد فضل العبدلي الملقب بالقُمِنْدان، وقد غناها الكثيرون من الفنانين اليمنيين، والعرب.
لعل تنوع التراث الغنائي اليمني، يجعله عرضة للاقتباس. وغياب اهتمام الدولة اليمنية بالفن والثقافة، وضعف الإعلام اليمني، جعلا الباب موارباً للتجرؤ على سطو الأغاني اليمنية، من دون إشارة إلى ذلك. وما يزيد الطين بلاً، جهل الفنانين الجدد بهذا التراث، وعدم اهتمامهم بمعرفة كُتاب الأغاني القديمة، وملحنيها. على سبيل المثال لا الحصر، كتبت إحدى الفنانات الشابات منشوراً على فيسبوك تقول فيه: "يا منيتي أكثر الأغاني الخليجية اللي بحبها"، الأمر الذي دفع بعدد من المعلقين اليمنيين لمطالبتها بتصحيح المنشور، لأن الأغنية يمنية، وهذا ما فعلته بعد سيل من التعليقات.
يدفعنا ذلك كله للتفكير: كيف نحفظ تراث هذا البلد العريق من السرقة، والاندثار، والإهمال، والنسيان، خاصةً بعد أعوام الحرب التي دمرت كل شيء، وجعلت المهمة أكثر صعوبة، وشرّعت الباب أكثر لحالات السرقة والسطو؟ وعلى عاتق من تقع مسؤولية ذلك كله؟
ألوان ومقامات
يتألف التراث الغنائي اليمني من لونين، هما: الفن الشعبي، والفن الرسمي. الأول هو الذاكرة الشفوية للشعب اليمني، وهي الكلمات التي يرددها الناس في حياتهم اليومية، كالأهازيج في أثناء العمل في الحقل. أما التراث الغنائي الرسمي، فينقسم إلى اللون الصنعاني، وينتشر في صنعاء ومناطق الشمال، واللون الحضرمي، وينتشر في حضرموت شرق البلاد، ومناطق دول الخليج العربي، لتشابه إيقاعه مع اللون الخليجي، واللون اللحجي والعدني، وهو أحدث الألوان، كذلك اللون التهامي، وينحصر في إقليم تهامة فحسب، وأخيراً التعزي، المنتشر في تعز، ومن أشهر من أدّوه أيوب طارش، وعبد الباسط عبسي، وذلك حسب حديث الباحث شفيق الغرباني.مع غياب اهتمام الدولة بالفن والثقافة، وضعف الإعلام، لا زالت محاولات اليمنيين لحفظ تراثهم الغنائي خجولة للغاية.
وعن الأدوات المستخدمة في التراث الغنائي اليمني، يقول الغرباني لرصيف22: "يُستخدم العود بدرجة أساسية للألوان اليمنية كلها، وفي الفن الصنعاني قديماً كانت تُستخدم آلة الطُربي، أو القمبوس، أو المزهر الوترية، لكنها اندثرت، ولم يعد لها وجود، واستُبدلت بالعود، كما أن اللونين اللحجي والحضرمي يعتمدان على العود والإيقاعات".
وحسب الغرباني، استُخدمت المقامات الموسيقية جميعها في الفن اليمني، وذلك لعراقته، وامتداد جذوره، من دون مبالغة، إلى آلاف السنوات.
جهل واستهتار
"اليمنيون، والجمهور الخليجي من الجيل السابق، يعرفون الأغاني اليمنية، وينسبونها إلى التراث اليمني، لكن الجيل الجديد في اليمن لا يدرك ذلك، إذ قد يسمعون أغنية خليجية، ولا يعرفون أن أصلها يمني، وأن فنانين يمنيين عديدين قد أدّوها قبل زمن"، يقول الناشط الثقافي والإعلامي عزيز الماوري، ويؤكد في حديثه لرصيف22، أنه لولا تميز التراث الغنائي اليمني، وجودته، وأصالته، لما استساغه الفنانون من خارج الديار، وتغنوا به، من دون الإشارة إليه، ولو بكلمة "تراث" فحسب، من دون تحديد أنه "تراث يمني".ويضيف الماوري في حديثه لرصيف22: "أعد هذا استهتاراً وتحايلاً على التراث، ومن يتجرؤون، وينسبون الأعمال التراثية اليمنية، كلمات وألحاناً، إلى أنفسهم، يستحقون لقب ‘لصوص فنيين’"، متعجباً ممن يأخذون لحناً يمنياً، ويوظفونه في كلمات أخرى، ويكتفون بكتابة "من التراث"، وكأنه من بلد الفنان مؤدي الأغنية. ويحمّل المتحدث مسؤولية التقصير في الحفاظ على التراث اليمني لوزارتي الثقافة والإعلام.
"اليمنيون، والجمهور الخليجي من الجيل السابق، يعرفون الأغاني اليمنية، وينسبونها إلى التراث اليمني، لكن الجيل الجديد في اليمن لا يدرك ذلك، إذ قد يسمعون أغنية خليجية، ولا يعرفون أن أصلها يمني، وأن فنانين يمنيين عديدين قد أدّوها قبل زمن"
ويرى الفنان والباحث الموسيقي جابر علي أحمد أن الجهل بالحقوق التراثية من قبل العامة، والناتج عن انعدام الثقافة الحقوقية في المجتمع، هو ما أنهك التراث الغنائي اليمني، وجعله عرضةً للسرقات، ويقول: "توجد في وزارة الثقافة جهة معنية بالمصنفات، ومهمتها حماية التراث الغنائي تحديداً. على الرغم من المحاولات السابقة لتعميم بعض القواعد والقوانين التي تصدر من منظمات دولية تهتم بحقوق الملكية الفكرية، ونشرها، لكن المشكلة تكمن في عدم إدراك مؤسسات الإنتاج الفني، والفنانين، لمدى أهمية الحفاظ على التراث، وهذه مشكلة مرتبطة بالثقافة العامة التي توارت كثيراً مع انتشار منظومة الفساد في البلد".
ويؤكد علي أحمد في حديثه لرصيف22، أن العديد من الأغاني اليمنية تؤخذ من قبل فنانين خليجيين، وينسبونها إلى أنفسهم، ومعظمها قديمة رحل الفنانون الذين أدوها. لكنه ينوّه أيضاً إلى حالات تمت الإشارة فيها إلى الأغاني الأصلية، كما فعل وليد توفيق، وراغب علامة، وفهد بلان، ونجاح سلام.
ما هي الحلول الممكنة؟
لا زالت محاولات اليمنيين لحفظ تراثهم الغنائي، حتى اليوم، خجولة للغاية، ولعل أبرز المبادرات في هذا المجال كانت في إنشاء الملحن فؤاد الشرجبي، "البيت اليمني للموسيقى" عام 2007، والذي يُعنى بحصر التراث الغنائي اليمني، وتعليم الأطفال الموسيقى، ودعم الموهوبين، وتشجيعهم. ومن المبادرات الحديثة ظهور مجموعة من الشبان والشابات، الذين يسجلون أغاني يمنية بأصواتهم، وينشرونها عبر مقاطع فيديو، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم "مشاقر تعز"، والمشاقر في اليمن تعني زهرة الريحان."رأينا أننا، كشباب، يجب أن تكون لنا بصمة في حفظ تراثنا، وتوثيقه، وتعريف العالم به، فكانت فكرة ‘مشاقر تعز’، للاهتمام باللون التعزي، وإعادة نشر الأغاني التعزية بطريقة بسيطة، حتى تصل إلى الناس جميعهم داخل اليمن، وخارجه"، يقول أيلول السقاف، أحد شبان هذه المبادرة.
ويضيف لرصيف22: "التراث اليمني ثري جداً بألوان متعددة، وأغانٍ تخلد في التاريخ، وللأسف الشديد لم يعد هناك اهتمام كافٍ بالأغنية اليمنية، سواء من الحكومات المتعاقبة، أو حتى من الناس، فنسمع أغاني يمنية، هنا وهناك، منسوبة لفنانين من جنسيات أخرى، من دون ذكر الفن، أو التراث اليمني، لا من قريب، ولا من بعيد".
ويرى الباحث الموسيقي علي أحمد ضرورة وجود مركز لحفظ التراث، يعتمد آلية علمية من حيث الجمع، والتوثيق، والأرشفة، بالإضافة إلى قوانين ملزمة تنشر الوعي الحقوقي حول مسألة حفظ التراث، ومن الممكن الاستفادة من قوانين البلدان الأخرى، لا سيما بلدان شمال إفريقيا.فيما يشير الماوري إلى أهمية جمع التراث، وتوثيقه، وإرساله إلى السفارات، والملحقات الإعلامية في الخارج، وهي من واجبها أن تكون مبادرة إلى التوعية بالأمر، خارج اليمن، ومخاطبة وزارات الثقافة، خاصةً في البلدان التي تشهد تجاوزاتٍ، وسرقة لأجزاء من التراث الغنائي اليمني.
ويدعو الماوري وزارة الثقافة لتوثيق أغاني التراث اليمني كلها، عن طريق "يوتيوب"، والمتابعة الدائمة، ورفع القضايا على الفنانين المستهترين، كما دعا وزارة الإعلام إلى تبني حملات إعلامية مكثفة على وسائل الإعلام جميعها، لتوثيق الأغنية اليمنية، وأن تلزم وزارة الثقافة الفنانين بذكر اسم الكاتب والملحن قبل نشر الأغاني الجديدة، "فكثيراً ما نصادف مشكلة غياب الثقافة الفنية لدى الفنانين الجدد، إذ لا يدركون من هو كاتب الأغنية التي يغنونها، ومن هو ملحنها، وهذا ما يزيد من مأساوية الأمر".
ولفت الماوري إلى أن الغياب الطويل للدور الحكومي، له أثر كبير، إذ ربما ساعد على تشجيع الناهبين من خارج الحدود لأن يواصلوا هذه السرقات الفنية، ويزوّروا المصدر، أو يعوّموه، بكلمة "تراث"، من دون الإشارة إلى التراث المقصود.
"التراث اليمني ثري بألوان متعددة، وأغانٍ تخلد في التاريخ، وللأسف لم يعد هناك اهتمام كافٍ بالأغنية اليمنية، سواء من الحكومات المتعاقبة، أو حتى من الناس، فنسمع أغاني يمنية منسوبة لفنانين من جنسيات أخرى، دون ذكر الفن أو التراث اليمني، لا من قريب ولا من بعيد"
هل يكفي يوم للأغنية؟
بعد دعوات من ناشطين وفنانين، حددت وزارة الإعلام الأول من تموز/ يوليو من كل عام، يوماً للاحتفال بالأغنية اليمنية، بدءاً من العام الحالي، وبعدها بدأ العديد من اليمنيين بالمشاركة في هذا اليوم بطرق مختلفة، عن طريق تغيير صورهم على مواقع التواصل، ونشر أغانيهم المفضلة، وكتابة مقالات عن الأغنية اليمنية، والحديث عن فنانين يمنيين قديمين.وفي حين أثار الأمر استحسان البعض، ومنهم الكاتب والقاص محمد المياحي، الذي نشر مقالاً كتب فيه: "يشعر اليمني بهُويته وهو يصغي لأبي بكر يغني ‘أمي اليمن’، أكثر مما يستشعر ذاته وهو يستمع إلى سياسي يتحدث باسمه في محفل دولي، هذا إذا لم يطلق نحوه الشتائم، ويغيّر القناة. هكذا يُسهم الفن في تعزيز الرابطة الاجتماعية بين اليمنيين، أكثر مما فعلت وتفعل عقود من السياسات الحكومية الفاشلة، ومحاولات الدمج الوطني المتعثرة"، رأى آخرون بأن هذه البادرة ليست كافية، ولن تحقق الأثر المطلوب.
ويشير الباحث الغرباني إلى أن الحرب أظهرت الإهمال لكل ما هو تراثي، من دون ظهور ولو مركز واحد متخصص بجمع التراث الغنائي اليمني الذي يضم آلاف الأغاني، أو أي مساهمات جدية لتوثيقه، والاعتراف به رسمياً. ويضيف: "في هذا الصدد جاء الإعلان عن يوم الأغنية اليمنية بمبادرات فردية، الغرض منها تذكير اليمنيين بتراثهم، وقد استغلت وزارة الثقافة تفاعل الناس على منصات التواصل الاجتماعي، لتظفر بإنجاز، يغض الطرف عن واجباتها الأخرى الأكثر أهمية نحو التراث".
ويضيف الغرباني: "فكرتنا هي تذكير الناس فحسب، كي تظل الأغنية اليمنية حاضرة في أذهانهم. الجيل الجديد لا يعرف تراث بلده، والكثير من أغنياتنا تضيع تحت مسمى ‘تراث’، والأمر لا يزال يتطلب جهوداً طويلة، فالطريق ما زال في بدايته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي