خلال العقود الخمسة الماضية، لم تقدّم السلطات الحاكمة في اليمن، أكان في عهد الجمهورية السابقة جنوبي البلاد، أو في عهد الجمهورية الموحّده عقب عام 1990، أي دعم يذكر للاهتمام بالطراز المعماري لمدينة عدن التي أصبحت منذ عام 2015 عاصمةً مؤقتة للبلاد، عقب سيطرة الحوثيين على صنعاء.
والآن، تركّز جهود مجموعة من الشباب في المدينة الساحلية الصغيرة على إعادة إحياء هذا التراث عبر مراحل تتضمن التوثيق والنشر، ودمج الأنماط المعمارية القديمة مع التصاميم الحديثة.
تعريف بالإرث المعماري القائم
خلال الأشهر الخمسة الماضية، نفّذ شباب وشابات في مدينة عدن مشروع "هوية عدن" الذي يهدف إلى التعريف بالإرث المعماري والفنّي للمدينة التاريخية القديمة، بدعم من منظمة اليونسكو والاتحاد الأوروبي، وتحت إشراف "وكالة تنمية المنشآت الصغيرة" (SMEPS) وهي وكالة محلية "تدعم التنمية الاقتصادية المتخصصة في تنمية القطاع الخاص"، بحسب تعريفها بنفسها على موقعها.
بدأ المشروع من مدينة كريتر القديمة في محافظة عدن، في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 وانتهت مرحلته الأولى في منتصف شباط/ فبراير 2021، لكن هنالك مرحلة ثانية له يبحث الفريق عن شركاء وداعمين لتنفيذها، ومن المرجّح أن تتواصل نشاطاته مجدداً.
في الفريق، هنالك خمسة أعضاء رئيسيين، وإلى جانبهم يوجد عشرة آخرون بينهم مستفيدون من المشروع، وتلقى 12 متدرباً، بينهم مهندسون ومواطنون غير متخصصين، تدريبات في طرق دمج أنماط البناء القديمة في تصاميم حديثة.
وحدد القائمون على المشروع أهدافاً عامة، بينها رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية النمط المعماري القديم والحفاظ عليه، عبر تنظيم لقاءات وتدريبات استهدفت طلبة المعمار، وعدداً من الأهالي. المتدرّبون جرى تعريفهم بالإرث المعماري القائم في المدينة القديمة، ولاحقاً تحفيزهم لإنتاج أعمال وتصاميم مماثلة لأنماط البناء المعماري القديم في المدينة.
ومبادرة "هوية عدن" هي أحد نشاطات مؤسسة "عدن أجين" الثقافية التي تأسست عام 2013، وتسعى إلى تعزيز الثقافة والوعي الفني لدى المجتمع المحلي.
الحاجة إلى حفظ إرث المدينة
درّبت المبادرة شباباً من المدينة على الرصد والتوثيق، وأقامت ورشات تدريبية ولقاءات مع عدد من الأهالي، بينهم عدد من ملاك المنازل التي استُهدفت في عملية التوثيق، من أجل توعيتهم على أهمية الحفاظ على نمط البناء القديم في المدينة.
كذلك، نظّمت تدريبات استهدفت خريجي وطلاب المعمار والتصاميم الداخلية، ركزت على الإرث المعماري وطرق دمجه في التصاميم الداخلية التي سيعمل عليها المتدرّبون في المستقبل.
ونزل فريق عمل المشروع إلى أحياء مختلفة من مدينة كريتر الواقعة جنوبي عدن، ووثّقوا 50 منزلاً ذات طراز معماري قديم.
من ضمن المشروع، تعهّد الفريق المشرف عليها بإعداد دراسة عن العمارة العدنية، في ختام مرحلة التوثيق، اكتملت مسودتها الأولى وستُستكمل في المرحلة الثانية. وكان من أهدافه رفع مستوى الاهتمام بالموروث العمراني عند الأهالي عبر نشر مواضيع ذات صلة في الصحف والمواقع الإلكترونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ونجح في ذلك.
تركّز جهود مجموعة من الشباب في مدينة عدن اليمنية الساحلية على إعادة إحياء التراث المعماري القديم للمدينة، عبر مراحل تتضمن التوثيق والنشر ودمج الأنماط المعمارية القديمة مع التصاميم الحديثة
"جاءت فكرة تنفيذ مشروع ‘هوية عدن’ من حاجة المدينة إلى حفظ وصون إرثها المعماري وهويتها وتراثها، وهو ما يتطلّب التعريف بالطابع الفريد لعمارتها، والذي تحتضنه المدينة القديمة التي عانت كثيراً من إهمال وتهميش أوصلها إلى مستوى النسيان وخطر اندثار تراثها"، يقول لرصيف22 الناشط الاجتماعي مازن شريف، وهو رئيس مؤسسة "عدن أجين" الثقافية، ومدير مشروع "هوية عدن".
ويضيف شريف، وهو أحد سكان مدينة كريتر، أن استمرار حالة الجهل بأهمية طابع المدينة القديمة، إضافة إلى تواصل عمليات العبث والهدم والتشويه، أكانت متعمدة أو ناتجة عن جهل، كانت دافعاً قوياً للتحرك "لتوثيق هذا الإرث الذي كان معرّضاً للاندثار".
يعود مازن شريف إلى الوراء ويقول إنه حمل عام 2008 كاميرا ونزل إلى أحياء كريتر لتوثيق والتقاط صور للبناء العدني وأشكاله الفنية، مشيراً إلى أن عمليات التوثيق استمرّت بجهود ذاتية خلال عدد من السنوات حتى مطلع عام 2020.
و"في مطلع عام 2020، قررنا، كفريق عمل، أن نصيغ فكرة المشروع، والبحث عن شركاء لدعم الفكرة بشكل عملي، وفي شباط/ فبراير قدّمنا المشروع وحظي بالقبول"، يواصل الناشط مازن شريف حديثه.
ولفت شريف إلى أن فريق العمل واجه بعض الصعوبات، لا سيما في عملية توثيق المنازل، إذ كان صعباً بعض الشيء إقناع ملّاك المنازل بالسماح لأعضاء الفريق بدخولها والقيام بعمليات توثيق داخلها، إضافة إلى وجود مباني مقفلة وفارغة من السكان، لكنه أضاف أنهم تجاوزوا هذه الصعوبات بروح الفريق الواحد.
وأكّد شريف أن المشروع لم يتلقَّ أي دعم من الجهات الحكومية في البلاد.
ترحيب الأهالي
"تقبَّل الأهالي في عدن فكرة المشروع وكانوا مرحبين به. واجهنا أنواعاً مختلفة من الصعوبات لكن المواقف الإيجابية معهم كانت أكثر من السلبية بكثير، وفي كثير من المرات فتحوا لنا بيوتهم بصدر رحب"، تروي الناشطة في مشروع "هوية عدن" نسمة حسين لرصيف22.
وتقول حسين، وهي متخرجة حديثاً من قسم الهندسة المدنية في جامعة عدن، إن المبادرة أجرت أربعة تدريبات استهدفت طلاب وخريجي أقسام المعمار والديكور الداخلي.
في اليوم الأول من هذه التدريبات، قدّمت الدكتورة أسمهان العلس، المختصة في التاريخ الحديث والمعاصر ومؤسسة وحدة الدراسات النسائية في جامعة عدن، نبذة مفصلة عن تاريخ مدينة عدن وكيفية تأسس النمط المعماري العدني، والحقبات التاريخية التي مرت على المدينة.
وعرّفت الدكتورة هيفاء مكاوي، المتخصصة في الآثار الإسلامية والأستاذة في جامعة عدن، في اليوم التدريبي الثاني المشاركين بأسماء التفاصيل التي يتضمنها عدد من المباني، واختلاف الأنماط والتسميات للعناصر الأساسية في النمط المعماري العدني.
"جاءت فكرة تنفيذ مشروع ‘هوية عدن’ من حاجة المدينة إلى حفظ وصون إرثها المعماري وهويتها وتراثها، وهو ما يتطلّب التعريف بالطابع الفريد لعمارتها، والذي تحتضنه المدينة القديمة التي عانت كثيراً من إهمال وتهميش"
وفي اليوم الثالث، عرض أستاذ العمارة الدكتور عبد الناصر القادري التصاميم المعمارية في النمط العدني والاختلافات غير الملحوظة التي يجهل أسبابها الكثيرون، فيما شرحت المهندسة المعمارية آيات العقربي في ختام التدريبات، من اليوم الرابع، طرق الدمج بين أنماط العمران القديمة والأنماط الحديثة.
تقول حسين إن "عمليات التدريب أفضت إلى إسناد مهمة دمج أنماط بناء المنازل القديمة في تصاميم حديثة إلى عدد من المتدربين، إضافة إلى توثيق تفاصيل عدد من العناصر المعمارية، ووضع دليل مصغر".
يقدم الملخص التعريفي لمبادرة "هوية عدن" ست نتائج كانت متوقعة من تنفيذ المشروع، بينها بروز الشعور الإيجابي وتأييد أنشطة المبادرة من جانب السكان المحليين في المدينة.
ومن ضمن هذه النتائج تعزيز دور أهالي المدينة في الحفاظ على الموروث الثقافي لمدينة عدن، والرغبة في التصدي لكل مظاهر العبث بمكوّناته، إلى جانب فتح علاقات تواصل بين الأهالي من جهة والمنظمات المدنية المدافعة عن الموروث الثقافي لعدن من جهة أخرى.
وأدى تنفيذ مبادرة "هوية عدن" إلى ارتفاع مظاهر الوعي الثقافي، عند المواطن والمتدرّب على حدّ سواء، بالقيمة التاريخية لمدينة عدن من حيث مبانيها التاريخية ذات الأنماط المعمارية المختلفة. وأفضت المبادرة إلى تأسيس قاعدة معلوماتية عن مكونات الإرث الثقافي والفني في المدينة الساحلية.
وتقول المبادرة إنها ساعدت على تقوية الاهتمام بالموروث الثقافي، عند وسائل الإعلام المحلية، فضلاً عن دفعها أكثر للدفاع عن هذا الإرث الكبير.
يشير أسعد أمان، وهو أحد المشاركين في التدريبات التي نفّذها المشروع، إلى أنه استفاد بالفعل من المبادرة، إذ تعرّف على الطريقة التي دُمجت من خلالها الاختلافات في أنماط البناء، وعلى كيفية إعادة دمجها مجدداً في تصاميم حديثة.
ويضيف أمان، وهو خريج هندسة مدنية من جامعة عدن، لرصيف22: "بدأ المشروع بتدريبات من مختصين في مجال العمارة العدنية حول جميع الأنماط العمرانية التي صاحبت الفترات المتعاقبة التي مرت بها المدينة".
وقال أمان إن التدريبات التي تلقّوها ساعدت في أن يلاحظوا الفوارق في الطراز المعماري العدني وارتباطاته بالفترات التاريخية التي شهدتها المدينة، وهو ما لم يكن واضحاً لهم من قبل، مضيفاً أنها حفّزت المتدربين، لا سيما المهندسين منهم، على تعلّم طرق تفنيد وتقييم الأنماط المعمارية المتعددة".
وأشار إلى أنه استطاع مع أعضاء فريق التصاميم الداخلية والديكور أن يخلقوا عناصر ديكورية مستوحاة من العمارة والهوية العدنية، وهو الأمر الذي مثّل له الاستفادة الأبرز من مشاركته في الدورات التدريبية.
ويضيف: "العمارة العدنية واجهت تجاهلاً في الوسط الاجتماعي، وهذا أدى إلى تدهور حالة كثير من المباني القديمة وعدم الالتفات إليها، والآن يسعى مشروع هوية عدن إلى مساعدة الناس على رؤية جمال المدينة من خلال مبانيها".
وتابع أمان أن تفاعل الأهالي في عدن كان متقدماً وسريعاً على الرغم من حداثة انطلاق الفكرة في الواقع، مشيراً إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي شهدت تداولاً كبيراً لصور المنازل التي جرى توثيقها وأنماط البناء المختلفة.
وبحسب أسعد أمان فإن خطة إعادة تصميم المباني القديمة، بواسطة استخدام أحدث برامج الكومبيوتر لاقت تفاعلاً وتأييداً كبيرين في أوساط أهالي عدن، بعدما كانت هذه المباني مهملة ومنسية.
ويقول: "السكان العدنيون ساعدوا بشكل لافت على إنجاح المشروع، بعدما سمحوا لأعضاء الفريق والمهندسين بالدخول إلى منازلهم وتنفيذ عمليات التوثيق والمعاينة".
رفع الوعي بأهمية التراث
تضمنت مبادرة "هوية عدن" أهدافاً من بينها تأسيس نواة أولية لتوثيق الإرث المعماري في مدينة عدن القديمة، والتعريف به، إضافة إلى رفع وعي المجتمع المحلي والجهات المسؤولة وذات الاختصاص بأهمية هذا الموروث والحفاظ عليه.
وسعت المبادرة أيضاً إلى تعزيز دور السكان المحليين في الدفاع عن تراث مدينتهم المعماري، إلى جانب إشراكهم في أنشطة المجتمع المدني، ودعم المطالبات بإعلان مدينة عدن القديمة محمية تاريخية، وتعزيز دور المنظمات الدولية في مهمة الحفاظ على الإرث المعماري والثقافي.
يقول مدير المشروع مازن شريف إن الفريق استكمل جزءاً من المشروع، بحسب الدعم المقدّم له، لكنه يشير إلى أنهم ينوون مواصلة العمل وإكمال النشاط حتى إتمام عمليات التوثيق، من أجل خروج المشروع إلى العامة بالصورة التي تم التخطيط لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...