المِلْكيّة عادةً ما تكون مطلقةً ومحسومةً، كما في مِلْكِيّة العقارات والسيارات، أما فيما يتعلق بمِلْكيّة الأعمال الفنيّة ونسخها وسرقتها وتقليدها، فما زال الشرق الأوسط يتطارح السؤال.
فعندما كنت في سوريا أتتلمذ على يد جدّي، فرحان بلبل، المسرحي الحمصي كان يقول لي: "وقد تفاجأت أن مسرحيّتي الفلانية قد أخرجها فلان دون أن يخبرني." وكان هذا أقل من عادي، أن تتمَّ استعارة- إذا لم نقلْ سرقة - مسرحيات من كتّابٍ وفنانين على قيد الحياة، وإنتاجها دون إخبارهم ودون إعطائهم أجراً -royalty- ويُعدّ هذا أمراً مزعجاً للكتّاب والفنانين بشكل عام.
حقوق النشر في ألمانيا
ست سنوات في ألمانيا أعمل ككاتب ومخرج، وصدمتني في البداية أهمية حقوق النشر والمِلْكيّة الفكريّة بشكلٍ عام، فالكاتب هنا ليس بحاجةٍ لتسجيل نصّه في مكتب حقوق المِلْكيّة، فمِلْكيّة الكاتب للنصّ محسومةٌ وقطعيةٌ بشكلٍ حاد، ولا يفكّر الكاتب بأن أحداً سيسرق نصّه، وإن فعل أحدهم ذلك، سيستمع الكاتب بالحصول على تعويضٍ ماليٍّ ضخم كضحية سرقة.
هل سيرضى صاحب البيت أو المخبز أن يتقاضى من الفنان ثمن خبزه أو أجرة منزله إرثاً إنسانيّاً؟
وهذا حال الكتّاب والموسيقيين والمصوّرين والفنانين، إلخ الأحياء، فمن الطبيعي أن يتقاضى الفنان أجراً على عمله حتى بعد مماته، فعادةً ما يرث الأولاد والأحفاد حقوق المِلْكيّة للنصوص التي غالباً ما تقوم بإدارتها تجاريّاً، إحدى دور النشر، أو شركات الإنتاج، تبعاً لنوع الفنِّ المورث، ودار النشر تتقاضى حصّةً معروفةً والباقي يذهب للورثة، تماماً كأي شيء مادي مثل السيّارة أو المزرعة.
منشور ريما الرحباني وبريخت
ونأتي للمفيد، فكما حدث بعض البلبلة حول منشور ريما الرحباني، ابنة الفنانة فيروز، والتي تحدّثت فيه عن حقوق مِلْكيّة أعمال والدتها الفنيّة وجرى استهجانه من كثير من الفنّانين والقرّاء، تمّ إجراء مقارنةٍ مشابهةٍ مع ما جرى لأحد الفنّانين الألمان الرموز، وهو الكاتب والمخرج المشهور الراحل بريخت، اللاجئ السابق والألماني- الشرقي - على سبيل المثال.
فأعماله الأدبيّة تقع تحت وصاية ورثته، وهم ابنته وابناه الذين يشكّلون نوعاً من الوصاية الأدبيّة على كلّ أعماله، ويتعدّى دورهم إدارة أملاكه الأدبيّة فحسب، بل ويراقبون مثلاً الأعمال البحثيّة التي تُكتب عن والدهم الراحل. فمرّة عندما أراد الكاتب ج. فوجي إصدار كتابه "الحياة والأكاذيب في سيرة بريخت"، خضع الكتاب لنقاشاتٍ طويلةٍ قبل إصداره، ومرّة أخرى تمّ إيقاف عرض "الإنسان الجيّد من سيزوان" في عام 1981، وأخيراً وليس آخراً، تمّ منع عرضٍ للمخرج المشهور جداً والمدير السابق لمسرح فولكس بونة - مسرح الشعب - في برلين، فرانك كاستورف، وذلك بسبب خلاف في وجهات النظر عن التغييرات التي أجراها المخرج الأيقونة على النصِّ الأصلي، والتي لم تعجب ورثة بريخت ودخلوا في محاكماتٍ "طويلة عريضة".
ست سنوات في ألمانيا أعمل ككاتب ومخرج، وصدمتني في البداية أهمية حقوق النشر والمِلْكيّة الفكريّة بشكلٍ عام، فالكاتب هنا ليس بحاجةٍ لتسجيل نصّه في مكتب حقوق المِلْكيّة، فمِلْكيّة الكاتب للنصّ محسومةٌ وقطعيةٌ بشكلٍ حاد.
فيما يتعلق بمنشور ريما الرحباني، ابنة الفنانة فيروز، أجري مقارنة مع بريخت، فأعماله الأدبيّة تقع تحت وصاية ورثته الذي يشكّلون نوعاً من الوصاية الأدبيّة على أعماله، ويراقبون مثلاً الأعمال البحثيّة التي تُكتب عن والدهم.
الفن إرث إنساني وهذا صحيح، بغضِّ النظر عن إرث فيروز ومنشور ابنتها، ولكن كيف سيعيش الكاتب والأديب إذا لم يتمّ حماية أعماله من السرقة أو إعادة الإنتاج دون دفع مستحقّاته؟
تحايلت على بريخت في أرضه
أما أنا فقد تحايلت على بريخت، في أرضه وبين جمهوره، ففي عام 2017، طُلب مني أن أتشارك مع كاتبةٍ مسرحيّةٍ ألمانيّةٍ في كتابة نصٍّ مسرحي لمخرجة ومديرة مسرح في ألمانيا، وكانت هذه المرّة الثانية التي كنت فيها كاتباً ولست المخرج أيضاً، فاخترت "حياة غاليليو غاليلي" كموضوع لمسرحيتي وعالجتها بطريقة أخرى متعمّداً التعدّي على النصِّ الأصلي للكاتب بريخت، ولكن بخدعة تحميني من ورثته: لقد كتبت المشهد الأهم الذي لم يكتبه بريخت، إلّا هو مشهد المحاكمة وكان جزءاً من حبكتي المسرحية، فبرأيي هو أهمّ مشاهد المسرحية في مسرحية غاليلي، مع أنه لم يُكتب، فاستطعت التحايل على بريخت وفي نفس الوقت تطرّقت لمسرحية غاليليو المفضّلة لدي، كوني من الفنانين الذين يجمعون العلم مع الفن، فقد درست الكيمياء، ولا ننس تقاطع العلم مع السياسة في أحداث حياة العالم غاليلي.
مصادر مفتوحة بعد سنوات
الكثيرون في ألمانيا وأوروبا ينتظرون عام 2027، وهو العام الذي ستنتهي فيه السبعون سنة، وهي المدّة التي يستطيع الورثة السيطرة على حقوق المِلْكيّة، وبعد هذه المدّة سيصبح أدب بريخت مصدراً مفتوحاً، أي أن المخرجين والدراماتورجيين سيستطيعون التحرّر من مراقبة الورثة واللعب بالنصوص كما يحلو لهم.
هل سندرك يوماً أهمية الفنان ودوره المجتمعي قبل أن ندعه يموت جوعاً؟
يقال إن الفن إرث إنساني وهو صحيح، بغضِّ النظر عن إرث فيروز ومنشور ابنتها، ولكن كيف سيعيش الكاتب والأديب إذا لم يتمّ حماية أعماله من السرقة أو إعادة الإنتاج دون دفع مستحقّاته؟ هل سيرضى صاحب البيت أو المخبز أن يتقاضى من الفنان ثمن خبزه أو أجرة منزله إرثاً إنسانيّاً؟ هل سيتعالج الفنان مجّاناً في المشفى أم عليه أيضاً أن يدفع مثله مثل البقيّة؟
متى سندرك أن الفنان الذي درس وتعلّم وأبدع هو إنسان يجب أن يأكل ويسكن ويسافر ويرتاح ويشرب الشاي وله أطفال يذهبون إلى المدرسة؟ أم عليه أيضاً أن يصوّر الناس مجّاناً دون أن يستطيع شراء كاميرا؟ هل سندرك يوماً أهمية الفنان ودوره المجتمعي قبل أن ندعه يموت جوعاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...