شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"اصبروا علينا شوي حتى نتأقلم"... التحديات النفسية للأسرى الأردنيين المحررين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 15 يوليو 202102:49 م

الأصوات كلها بالنسبة إليها مقبولة إلا صوت إغلاق الأبواب، والأماكن كلها مرحب بها ما عدا تلك التي أبوابها مغلقة، ومساحتها ضيقة، ووسائل النقل والمواصلات كلها مسموح بها ما عدا الحافلات والسيارات التي يصدر منها فجأة صوت المكابح، "لأنني ببساطة إنسانة من لحم ودم"، تقول الشابة الأردنية والأسيرة المحررة نسيبة جرادات.

ثمانية أعوام مضت على خروج جرادات من المعتقل بعد سبعة شهور من التعذيب النفسي والجسدي في أحد المعتقلات الإسرائيلية لاتهامها بأنها تابعة لحركة "إرهابية"؛ أي حماس. كانت تستدل على عدد أيام اعتقالها من لقم الخبز التي كانت تسرقها من وجبات غذائها البالية، وقد قضتها في عزل انفرادي لا تتجاوز مساحته المتر المربع، وتغيب عنه الشمس تماماً، وتكثر الأبواب الموصدة خارجه.

حتى اليوم، تشعر بالاختناق في حال اضطرت إلى زيارة مكان مساحته تقل عن مساحة "المول"، ولا تستطيع السيطرة على صوت الخوف الذي يصدر من حنجرتها فور سماعها صوت إغلاق الباب. حتى الشمس، لم تعد صديقة لنسيبة منذ اعتُقلت وحتى اللحظة، فهي تعصر عينيها فور خروجها إلى الشارع، بحثاً عن ضوء خافت مثل خفوت ضوء غرف التحقيق.

لم ينخرط معظم الأسرى الأردنيين المحررين في برامج لدعمهم نفسياً، ما جعل التأقلم مع الحياة بعد الاعتقال صعباً للغاية.

"حياتنا تحت المجهر"

لا تحمل جرادات، وغيرها من الأسيرات والأسرى الأردنيين المحررين، ذنب أنهم لم يتلقوا التأهيل والدعم النفسيين بعد خروجهم من المعتقلات الإسرائيلية، ولا ذنب تلك الزغاريد والاحتفالات التي هللت لحريتهم، وافتقدت عنصراً رئيسياً يحتاجون إليه قبل معانقة الحرية، وهو "الصبر عليهم حتى يتأقلموا من جديد".

حاولت جرادات تلقي العلاج النفسي، لكن بسبب غياب جهات تستقطب الأسرى المحررين، سواء أكانت حكومية أو حقوقية، لم تنخرط بعلاج ممنهج، فـ"اعتمدتُ على إيماني، وقوتي، وصبري، لتخطي الآثار النفسية التي خلفتها جدران المعتقل"، تقول نسيبة.

تحدثنا معها ومع أسرى أردنيين محررين، وحاولنا أن نبحر معهم في زاوية تنساها بهجة الاحتفاء بحريتهم، وهي الأثر النفسي الذي يقع عليهم في السنوات التالية لعودتهم، للتواصل مع العالم الخارجي، فهم فور خروجهم يواجهون "صدمة الإفراج التي تبدأ بنظرة المجتمع إلينا كأننا مناضلون وأبطال، وتنتهي بتقييد تصرفاتنا وحرية تحركاتنا"، تضيف نسيبة لرصيف22.

"أنت أسير محرر، يعني أن حياتك أصبحت تحت المجهر"، تتابع جرادات شارحةً أن صفة البطل تشكل أحياناً عقبة في طريقهم، وتمنعهم من الوقوع في الخطأ، وتجعلهم مسؤولين عن هذه الصورة أمام المجتمع الذي يراقبهم بعين الحب والاهتمام، لكنه يغفل "أننا نعيش بإرث تركته تبعات تعذيبنا النفسي والجسدي. حتى الآن نحن غير مصدقين أننا على قيد الحياة بعد أن كنا نسأل أنفسنا كل يوم: هل سنخرج أحياء أم أمواتاً؟".

وتنقل نسيبة عن لسان أسرى تعرفهم، بأن ذوي المحكوميات العالية منهم "يرسمون إطاراً معيناً لحياتهم ما بعد الإفراج، وعند خروجهم يصطدمون بأن هذا الإطار لا ينسجم مع التطورات التي حدثت في الحياة، ما يعزز صدمة الإفراج النفسية، من دون أن يدرك من حولهم حاجتهم الماسة إلى دعم نفسي تأهيلي، ولوقت كافٍ كي يتأقلموا من جديد".


"الدعم النفسي ليس ترفاً"

بالنسبة إلى الأسير الأردني المحرر حمزة الدباس، فالوقت الكافي للتأقلم هو الذي لزمه ليستطيع النوم بهدوء مجدداً من دون الاستيقاظ كل نصف ساعة ليراقب النافذة، لعل السجّان الإسرائيلي الذي كان يقطع نومه في المعتقل طوال أربعة أعوام، يطل منها على حين غرة.

تحدث الرجل الأربعوني لرصيف22 عن تجربته النفسية بعد الإفراج عنه عام 2013، وقد اعتُقل في أثناء زيارته لأهله في الضفة الغربية ليكون وكيل شقيقته بدلاً من أبيه في زواجها. يقول: "لو أنني تلقيت التأهيل النفسي بعد خروجي، لما واجهت مشاكل مع عائلتي والمجتمع. بعد نيلي حريتي عشت تجربة الفجوة بين من يعيشون بحرية وبين المعتقلين، وحتى الآن آثارها لصيقة بنمط حياتي".

من هذه الآثار، يتحدث عن كرهه للكراسي القصيرة لأنها تذكره بساعات التحقيق التي كانت تستمر حتى بزوغ الشمس، وصوت التلفاز العالي الذي يسبب له التوتر: "كنا عشرة أسرى داخل غرفة، بتلفاز واحد، وحمام واحد. ابتكرنا طريقة لمشاهدة التلفاز بسماعات اخترعناها يدوياً، يستخدمها من يريد حين ينام البقية، أو حين يدرسون لامتحاناتهم، وهناك من يقف عند طنجرة الطعام الوحيدة في الغرفة، ويطبخ عشاءه. كنا نحترم مساحة كل شخص فينا".

"تقديم الدعم والعلاج النفسيين للأسرى المحررين، ليس ترفاً وإنما ضرورة لإنقاذ حياة مهزوزة، فحالتنا النفسية ليست بخير، وهناك اختلاف في المشاكل التي نواجهها، حسب مدة وظروف الاعتقال. ومهما اتسع حجم التضامن معنا، فلا أهمية له أمام تأهلينا النفسي"

بعد الإفراج، لم يكن تعامل الدباس مع عائلته أمراً سهلاً: "ابني الأصغر كان عمره خمسة شهور عند اعتقالي. شعرت بعجز في أثناء التعامل معه، بالإضافة إلى متطلبات زوجتي وحقوقها، وهي مشكلة تظهر بقوة بين غالبية الأسرى المحررين، لذلك نسمع عن حالات طلاق كثيرة، لأننا عندما كنا أسرى نسينا واجباتنا الزوجية، وللأسف لم نتلقَ التأهيل النفسي بعد الأسر".

ويشير الدباس إلى أن تقديم الدعم والعلاج النفسيين للأسرى المحررين، ليس ترفاً وإنما "ضرورة لإنقاذ حياة مهزوزة، فحالتنا النفسية ليست بخير، وهناك اختلاف في المشاكل التي نواجهها، حسب مدة وظروف الاعتقال. ومهما اتسع حجم التضامن معنا، فلا أهمية له أمام تأهلينا النفسي".

وكما جرادات، حُرم الدباس من الحصول على العلاج النفسي اللازم، واعتمد بحسب قوله على جهده الفردي في تحرير نفسه من التبعات النفسية القاسية بعد الاعتقال، ناهيك عن تواصله الدائم مع الأسرى المحررين، ليشدوا أزر بعضهم البعض، لتخطي الصعوبات النفسية، والعيش بأمان نفسي.


التعامل مع المجهول

هذه الحاجة ربما لم تتضح بعد لدى الأسير الأردني المحرر عبدالله أبو جابر، الذي أنهى محكومية 21 عاماً قبل شهر تقريباً. في حديث معه، استفسرنا عن حالته النفسية اليوم بشكل عام، من دون الخوض في تفاصيل قد تعيد إلى ذاكرته أشياء ما تزال رطبة في مخيلته، لكنه بنبرة ملؤها الفكاهة كرر عبارة "جيل اليوم مرعّبني، متطور كثير، ومش عارف كيف أتعامل مع عقول ولدت مع التكنولوجيا حتى أقلص المسافات بيني وبينهم".

حتى اليوم، تشعر بالاختناق في حال اضطرت إلى زيارة مكان ضيق، ولا تستطيع السيطرة على صوت الخوف الذي يصدر من حنجرتها فور سماعها صوت إغلاق الباب. حتى الشمس، لم تعد صديقة لنسيبة، فهي تعصر عينيها فور خروجها إلى الشارع، بحثاً عن ضوء خافت مثل خفوت ضوء غرف التحقيق

"لو عدت إلى الأردن وحدي، ما عرفت بيت عائلتي، وكنت سأتوه"، يتحدث أبو جابر عن التغيرات الرهيبة التي حدثت في مخيم "البقعة" حيث يعيش أهله: "المخيم كانت غالبية بيوته من الزينكو، وأطول بناية كانت من طابقين. اليوم مش قادر ألحق البنايات الطويلة فيه، ولولا أهل الحي بساعدوني في التنقل ما حقدر أمشي، أما زيارة العاصمة عمّان فمشروع مؤجل حتى إشعار آخر"، يضحك خوفاً من صدمته من حال عمّان اليوم، واختلافها عن وقت غيابه عنها.

وعما إذا شعر بالخوف أو الرهبة بعد خروجه، أجاب: "قبل خروجي كنت خائفاً من المجهول الذي ينتظرني في العالم الخارجي، لكن محبة الناس، وخصوصاً من لا يعرفونني ساهمت في جعل الأمر أسهل، لذا قررت التعرف على المجهول، والتعامل معه بحب".


"طرقت الباب بنفسي"

"ثلاثة شهور من التحقيق، وتسعة شهور من الحبس الانفرادي، و17 شهراً ‘مرمطة’ في المحاكم، بعدها خمس سنوات من الاعتقال بتهمة التسلل إلى الأراضي المحتلة بطريقة غير شرعية، ومحاولة قتل مستوطنين"، هذه هي حصيلة المدة التي قضاها الأسير الأردني فادي فرح باختصار شديد على لسانه خلال حديثه معنا، وقد أُفرج عنه عام 2000، بعد "تعذيب وضرب حتى الموت، سواء من بنادق جنود الاحتلال أو أيادي المحققين، ولكن قدّر الله لي الحياة"، يقول.

لم ينتظر فرح أن تقدَّم له يد العون النفسي بعد خروجه من المعتقل، بل "ذهبت بنفسي إلى مؤسسات المجتمع المدني لمساعدتي، ومساعدة أسرى آخرين، لكن لم نحصل على أي دعم"، ويضيف: "على الرغم من أنني خرجت بمرض عضال مزمن جراء التعذيب، إلا أنني كنت قلقاً على حالتي النفسية أكثر. أردت أن أنسى الكرسي المقلوب الذي كنت أجلس عليه، ويداي وقدماي مكبلة بقوة إلى درجة سيلان الدم منها، وصوت المحققين الذين كانوا يهددون بقتلي، ورميي في كيس أسود إلى الأردن، وقصف بيت أهلي".

ومن الأمور التي لم يفلح الرجل الأربعوني حتى الآن في تجاوزها، النوم بوجود إضاءة، مهما كانت بسيطة، "ففي زنازين التحقيق، لا تُطفأ الإنارة نهائياً، وفي السجن تكون الإضاءة على شكل كشافات قوية خارج الغرف. أكره الضوء!"، يضيف.

ومع عدم تقدم أية جهة حقوقية في الأردن لمساعدته وبقية الأسرى المحررين، انضم فرح منذ خروجه إلى لجنة الأسرى والمفقودين الأردنيين في معتقلات الاحتلال، وأصبح منذ أعوام الناطق الإعلامي للجنة التابعة للنقابات المهنية في الأردن، وهي تقدم خدمات، كالتواصل مع أهالي الأسرى غير المحررين، ومتابعة أوضاع الأسرى القانونية والصحية من خلال التواصل مع محامين في فلسطين، بالإضافة إلى السعي نحو إبقاء قضيتهم "على السطح"، من خلال البيانات والوقفات الاحتجاجية التي ينظمونها.

يشير فرح إلى أن تأمين علاج نفسي للأسرى المحررين أمر أكبر من ميزانية النقابات المهنية بشكل عام، ولجنة شؤون الأسرى بشكل خاص، ويحتاج إلى دعم، سواء من الدولة أو من مؤسسات المجتمع المدني، للتمكن من تكاليف الأطباء النفسيين الباهظة جداً، والتي تتراوح بين 60 و80 دولاراً أمريكياً للساعة الواحدة، مع العلم أن الحد الأدنى للأجور في الأردن يصل إلى حوالي 350 دولاراً.

تأمين علاج نفسي للأسرى المحررين أمر أكبر من ميزانية النقابات المهنية، ويحتاج إلى دعم الدولة ومؤسسات المجتمع المدني للتمكن من تكاليف الأطباء النفسيين الباهظة جداً، والتي تتراوح بين 60 و80 دولاراً أمريكياً للساعة الواحدة


"الدعم النفسي للأسرى واجب حكومي"

نوهت الخبيرة الحقوقية المحامية نور الإمام في حديثها لرصيف22 إلى أن مشكلة غياب التأهيل النفسي، وإعادة الدمج مع المجتمع، يعاني الأردن منهما بشكل عام، سواء للأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية، أو حتى للسجناء بعد خروجهم من مراكز الإصلاح والتأهيل، وغياب الدعم النفسي يدفع كثيرين منهم إلى ارتكاب الجرائم من جديد.

"فما بالك بالأسرى المحررين؟" تسأل نور، وتضيف أنه وعلى الرغم من قلة عددهم، وسهولة تأمين علاج نفسي مجاني لهم من قبل الدولة، إلا أنهم محرومون من هذا الأمر الذي يعدونه واجباً على الدولة نفسها، قبل مؤسسات المجتمع المدني، نظراً إلى حساسية أوضاعهم النفسية، كونهم اعتُقلوا في سجون غير أردنية، ولم يكونوا على تواصل مع أهاليهم، وتحت وطأة تنكيل السجّان الإسرائيلي.

"الدولة ليست مسؤولة عن تأمين علاج نفسي مجاني لأسرانا المحررين فحسب، بل عليها تأمين وظائف لهم، وبرامج لإعادة دمجهم في المجتمع، لعلهم يأخذون نصيبهم من الحياة، وهذه مطالب دائمة للناشطين في هذا المجال، وأيضاً للجنة الأسرى والمفقودين"، تقول المحامية في ختام حديثها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image